آيات الجنـــــون
************
ومن آياتي أن
كونتك غيمة
تجوب الفضاء
تمطر عطرا وظلا
وفي روحي
تنثر ياسمينا وفلا
ومن آياتي أن جعلتك
فجرا نديا
يداعب عيون الزهر
ويغسل وجه الصباحات
بالأغنيات
بالهلوسات … ويتلو عليها
ما تيسر
من نبضه
ويوحي لها بعض ما يوحي
محمد صوالحة
تُقدم قصيدة آيات الجنون نصًا شعريًا غنيًا بالصور الحسية والتعبيرات الوجدانية، يُبرز علاقة الشاعر بذاته وبمحيطه من خلال رؤية شعرية فريدة. في هذه القصيدة تتجلى سمات الحداثة الشعرية من حيث التحرر من الأوزان التقليدية والتركيز على التجربة الذاتية، مع ميل واضح نحو التعبير الرمزي والتجريد.
أما عن تجليات الحداثة الشعرية في “آيات الجنون” فيمكن اعتبار القصيدة نموذجًا ثريًا لتجليات الحداثة الشعرية، فهي لا تكتفِ بتجاوز القوالب الكلاسيكية فحسب، بل تُمعن في الكشف عن وعي جديد بالذات والعالم. حيث يتشابك في نسيجها الفني بعض المحاور الأساسية التي تُبرز سمات الحداثة. أولها التحرر من الأوزان التقليدية، التركيز على التجربة الذاتية، والميل نحو التعبير الرمزي والتجريد. سوف نحاول تفكيك هذه الخيوط المتشابكة للقصيدة لنُدرك عمقها الفني.
إن أول ما يلفت انتباه الناقد في قصيدة “آيات الجنون” هو التحرر لا كخروج شكلي عن نظام الشعر، بل كفعل جوهري لإعادة تعريف بنية القصيدة. وهذا التحرر يُشير إلى محاولة إيجاد مساحة أكبر للتعبير عن إيقاع داخلي خاص، ينبع من إيقاع المعنى والفكرة والنبض الوجداني. فغياب القيد الوزني يُمكن الشاعر من التعبير عن تدفق الوعي دون انقطاع، وعن التحولات المفاجئة في الأفكار والمشاعر، وهو ما يتجلى بوضوح في الانتقال السلس بين صور الغيمة والفجر والهلوسات. بهذا يصبح التحرر مرادفًا للحرية الفكرية والشعورية التي تسعى الحداثة إلى ترسيخها.
إنّ قصيدة “آيات الجنون” ليست مجرد نصٍّ شعريٍّ يُقرأ، بل هي دعوةٌ لإعادة التفكير في العلاقة بين الذات واللغة والإبداع. ولو أنصتنا إليها بآذانٍ مُرهفةٍ، كما يُعلِّمنا ذلك عبد الفتاح كيليطو في تتبعه لـ “الإنشاء والانشراح” وتفكيكه لـ “اللسان والسكين”، لأدركنا أن هذه القصيدة ليست سوى لُعبةٍ ماكرةٍ مع اللغة، وتلاعبٍ واعٍ بالدلالة. فكيليطو، الذي يُجيد كشف “ما لا يُقال” في النصوص، سيرى في “آيات الجنون” نصًا يختبر حدود القول، ويُحاول التعبير عن تجربةٍ تتجاوز المنطقي والمألوف.
فتجربة “الهلوسات” التي تُصبح “آيات”. هذه الازدواجية بين القداسة والجنون، بين النظام والفوضى، هي ما يفتن القارئ ويجعله يُفكك الكلمات بحثًا عن الأثر السيكولوجي والمعرفي الذي تتركه. هذا القارئ قد لا يرى في التحرر من الأوزان مجرد رفضٍ شكلي، بل تمردًا على سلطة النموذج، وتفجيرًا للغة من الداخل لتتسع لجنونٍ خلاّق.
ولو سلّمنا النص لـ عبد الكبير الخطيبي، بفطنته اللاذعة ونظرته الـ “مزدوجة” التي ترى التناقض أساسًا للوجود، لقرأ “آيات الجنون” كمُفارقةٍ بحد ذاتها. الخطيبي، الذي يُعنى بـ “المغايرة” و”الفرق”، سيرى في هذه القصيدة احتفاءً بالاختلاف والتجاوز. كلمة “ال هلوسات” بالذات ستكون نقطة ارتكاز لقراءته، فهي تُشير إلى خروج عن القاعدة، عن المعيار، وهذا الخروج هو ما يُمكن أن يُفجر إبداعًا حقيقيًا. هو سيتساءل: هل الجنون هنا هو جنون الشاعر وحده، أم هو جنون اللغة التي تُحاول استيعاب ما لا يُستوعب؟ الخطيبي، في مقارباته للغة والصمت، قد يجد في هذا التعبير الرمزي والتجريدي، لا نقصًا في الوضوح، بل إثراءً للدلالة، ودعوةً للقارئ للمشاركة في بناء المعنى، بدلًا من تلقيه جاهزًا. إنه احتفاءٌ بـ “اللايقين” الذي يميز النص الحديث.
وبالنظر إلى آراء نقاد آخرين يُعنون بـ الذاتية والحداثة، كـ أدونيس الذي يُنظر إليه كأحد رواد الحداثة الشعرية العربية، فإن “آيات الجنون” تُشكل تجسيدًا لرؤيته حول “الشعر الجديد”. أدونيس يرى أن الشعر ليس مجرد صياغة خارجية، بل هو كشفٌ للذات وتجربةٌ عميقة للوجود. التركيز على الـ “أنا” الشاعرة، وتشكيلها لنفسها كـ “غيمة” و”فجر”، هو بالنسبة لأدونيس بمثابة إعادة تأسيس للذات المبدعة، التي تتجاوز التقليد وتُعيد تشكيل العالم من منظورها الخاص. هذا الشعر لا “يُقلّد” الواقع، بل “يُنشئه” من جديد عبر الكلمات، ويُضفي عليه أبعادًا ميتافيزيقية. “ال هلوسات” هنا ليست إشارة إلى ضعف، بل إلى خصوبةٍ روحيةٍ تتجاوز حدود العقل الواعي، وتُلامس عالمًا من الإلهام الخفي الذي لا يُمكن للعقل أن يُدركه بشكل مباشر.
في المحصلة، إن “آيات الجنون” بكسرها للأوزان، واحتفائها بالذات، وانغماسها في الرمز والتجريد، تُقدّم نفسها كـ “بيانٍ شعريٍّ حداثي”. هي لا تكتفي بـ “الغناء”، بل تُصبح “فلسفةً للوجود واللغة”. هذه القصيدة، في جوهرها، دعوةٌ لنا جميعًا، نقادًا وقرّاءً، لأن نُعيد النظر في مفهوم “الجنون”، لا كعارضٍ أو خللٍ، بل كـ “مُحفّزٍ للإبداع”، ونافذةٍ على عوالم جديدة من المعرفة والتجربة، تمامًا كما كان يرى الخطيبي “المغايرة” وكيليطو “ما لا يُقال”.
هل ترى أن هناك جوانب أخرى في القصيدة يمكن أن تُثرى بقراءة نقدية متعددة الأوجه؟
تُشكل الأنا الشاعرة المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة. فالنص يبدأ بـ”ومن آياتي أن كونتك”، وهي صيغة تُوحي بأن الذات هي مركز الكون، أو على الأقل، محور الرؤية الشعرية للعالم. فالشاعر محمد صوالحة لا يبحث عن موضوعات خارجية بل ينغمس في ذاته ليستخرج منها المعاني والصور. وهذا التركيز على الذات هو سمة أساسية في الشعر الحديث، حيث يصبح الشاعر هو المادة الخام لإبداعه. فالتجربة الداخلية، المشاعر، الأفكار، وحتى الهلوسات تُصبح كلها مصادر للإلهام الشعري. إنها “أنا” تتأمل ذاتها، تُعيد تشكيلها، وتُسقطها على العالم الخارجي. فالشاعر ليس مجرد راوٍ أو واصف، بل هو شاعر يسعى جاهدا لخلق واقعه الخاص من خلال الكلمات. فعندما يقول “وفي روحي تنثر ياسمينا وفلاً”، فهو لا يتحدث عن فعل خارجي، بل عن أثر ذاته على ذاته، وعن كيفية تشكيل تجربته الداخلية للجمال. هذا الانكفاء على الذات لا يُعدّ انغلاقًا، بل هو نقطة انطلاق لفهم أعمق للوجود الإنساني في تعقيداته.
القصيدة لا تُقدم المعاني بشكل مباشر أو تقريري، بل تعتمد بشكل مكثف على الرمز والإيحاء والتجريد. فالغيمة ليست مجرد سحابة في السماء، بل هي رمز للكينونة المتغيرة، للمنح والعطاء غير المحدود، للشفافية والتأثير. والعطر والظل ليسا مجرد مادتين، بل هما دلالات على الجمال الروحي والأمان والسكينة. أما الياسمين والفل فيُشيران إلى النقاء والبهجة الداخلية. وهذا الميل للرمزية والتجريد يُوحي بأن القصيدة تُحاول أن تُلامس ما هو أعمق من الواقع المادي. إنها تُحاول التعبير عن اللامعقول، عن المشاعر الغامضة، عن التجارب الباطنية التي يصعب التعبير عنها بلغة مباشرة. فكلمة الهلوسات نفسها هي رمز للتجاوز، لتلك الحالة الذهنية التي تُنتج صورًا ومعانٍ خارجة عن نطاق الوعي اليومي. والشاعر محمد صوالحة لا يُفسر الهلوسات أو يُعللها، بل يُدرجها كجزء أصيل من عملية الإبداع، كنوع من الوحي الباطني الذي يُغذي نبضه الشعري. حيث أن هذا التجريد يُبعد القصيدة عن المباشرة، ويفتح المجال أمام تأويلات متعددة للقارئ، فالمعنى لا يُقدم جاهزًا، بل يُبنى ويتفاعل مع تجربة كل متلقٍ. هكذا تُصبح القصيدة دعوة للتأمل، للغوص في أعماق المعنى، وليس مجرد استقبال سطحي له.
فآيات الجنون يمكن اعتبارها قصيدة حداثية بامتياز، قصيدة تُفكك فيها الذات قيود الأوزان لتُحرر نبضها، وتُركز على التجربة الداخلية لتجعل منها مركزًا للإبداع، وتُجيد التعبير الرمزي والتجريدي لتُلامس أبعادًا أعمق من الوجود. إنها قصيدة تُجسد رحلة الشاعر في اكتشاف ذاته، وفي تحويل الجنون إلى مصدر للإلهام الشعري الخالص.
وإن حاولنا النظر في قصيدة آيات الجنون من خلال مرايا بعض النقاد مثل كيليطو، الخطيبي، وآخرون، نجد أنّ قصيدة “آيات الجنون” ليست مجرد نصٍّ شعريٍّ يُقرأ، بل هي دعوةٌ لإعادة التفكير في العلاقة بين الذات واللغة والإبداع.
ولو أنصتنا إليها بآذانٍ مُرهفةٍ، كما يُعلِّمنا ذلك الناقد عبد الفتاح كيليطو في تتبعه “للإنشاء والانشراح” وتفكيكه لـ “اللسان والسكين”، لأدركنا أن هذه القصيدة ليست سوى لُعبةٍ ماكرةٍ مع اللغة، وتلاعبٍ واعٍ بالدلالة.
إن قصيدة آيات الجنون تعد نصًا يختبر حدود القول، ويُحاول التعبير عن تجربةٍ تتجاوز المنطقي والمألوف، تجربة “الهلوسات” التي تُصبح “آيات”. هذه الازدواجية بين القداسة والجنون، بين النظام والفوضى، هي ما يفتن القارئ ويجعله يُفكك الكلمات بحثًا عن الأثر السيكولوجي والمعرفي الذي تتركه. فالتحرر من الأوزان ليس مجرد رفضٍ شكلي، بل هو تمرد على سلطة النموذج، وتفجير للغة من الداخل لتتسع لجنونٍ الشاعر الخلاّق.
فهذه القصيدة تحتفي بالاختلاف والتجاوز. فكلمة “الهلوسات” تُشير إلى خروج عن القاعدة، وعن المعيار، وهذا الخروج هو ما يُمكن أن يُفجر إبداعًا حقيقيًا. وهذا ما يؤكده الناقد عبد الكبير الخطيبي، المعروف بفطنته اللاذعة ونظرته المزدوجة التي ترى التناقض أساسًا للوجود، فالخطيبي الذي يُعنى بـ “المغايرة” و”الفرق”، سيرى في هذه القصيدة مُفارقةٍ بحد ذاتها. وقد يتساءل: هل الجنون هنا هو جنون الشاعر وحده، أم هو جنون اللغة التي تُحاول استيعاب ما لا يُستوعب؟ فالخطيبي، في مقارباته للغة والصمت، قد يجد في هذا التعبير الرمزي والتجريدي، إثراءً للدلالة وليس نقصًا في الوضوح، وهذا ما يجعل النص دعوةً للقارئ للمشاركة في بناء المعنى، بدلًا من تلقيه جاهزًا. إنه احتفاءٌ بـ “اللايقين” الذي يميز النص الحديث.
وبالنظر إلى آراء نقاد آخرين يُعنون بـ الذاتية والحداثة، كأدونيس الذي يُنظر إليه كأحد رواد الحداثة الشعرية العربية، فإن “آيات الجنون” تُشكل بالنسبة له تجسيدًا لرؤيته حول الشعر الجديد. أدونيس يرى أن الشعر ليس مجرد صياغة خارجية، بل هو كشفٌ للذات وتجربةٌ عميقة للوجود. فالتركيز على الـ “أنا” الشاعرة، وتشكيلها لنفسها كـ “غيمة” و”فجر”، هو بالنسبة لأدونيس بمثابة إعادة تأسيس للذات المبدعة، التي تتجاوز التقليد وتُعيد تشكيل العالم من منظورها الخاص. وهذا الشعر لا يُقلّد الواقع، بل يُنشئه من جديد عبر الكلمات، ويُضفي عليه أبعادًا ميتافيزيقية. والهلوسات هنا ليست إشارة إلى ضعف، بل إلى خصوبةٍ روحيةٍ تتجاوز حدود العقل الواعي، وتُلامس عالمًا من الإلهام الخفي الذي لا يُمكن للعقل أن يُدركه بشكل مباشر.
إن “آيات الجنون” بكسرها للأوزان، واحتفائها بالذات، وانغماسها في الرمز والتجريد، تُقدّم نفسها كبيانٍ شعريٍّ حداثي. وهي لا تكتفي بالغناء، بل تُصبح فلسفةً للوجود واللغة. هذه القصيدة، في جوهرها، دعوةٌ لنا جميعًا، نقادًا وقرّاءً، لأن نُعيد النظر في مفهوم “الجنون”، لا كعارضٍ أو خللٍ، بل كمُحفّزٍ للإبداع، ونافذةٍ على عوالم جديدة من المعرفة والتجربة، تمامًا كما كان يرى الخطيبي “المغايرة” وكيليطو “ما لا يُقال”.
وعندما نُسقط عدسة ألبير كامو الفلسفية على قصيدة “آيات الجنون”، نجد أنفسنا أمام تقاطعٍ مثيرٍ بين العبث والإبداع. كامو، في “أسطورة سيزيف” و”الغريب”، يُعرّف العبث بأنه الصدام بين سعي الإنسان الفطري للمعنى والوحدة، والصمت اللامبالي للكون. هذا الصدام يُولّد وعيًا مؤلمًا باللاجدوى، ولكنه ليس نهاية المطاف، بل قد يكون نقطة انطلاق لثورةٍ” خلاقةٍ ضد هذا العبث.
فكيف تتجلى عبثية كامو في آيات الجنون ؟
قد يرى كامو في “آيات الجنون” تعبيرًا عن هذا الوعي باللاجدوى. فعندما يقول الشاعر محمد صوالحة : “ومن آياتي أن كونتك غيمة … تمطر عطرا وظلاً”، أو “جعلتك فجرا نديا … يغسل وجه الصباحات بالأغنيات”، يمكن أن يُقرأ ذلك على أنه محاولةٌ يائسةٌ لإضفاء معنى على وجودٍ قد يكون في جوهره عبثيًا. فخلق الجمال، ونثر الياسمين والفل، وغسل الصباحات بالأغنيات، كلها أفعالٌ تُشير إلى فعلٍ إبداعيٍّ مُتجاوزٍ للمادة، أشبه بتمردٍ على فناء الأشياء وعبثية الزمن. الشاعر هنا لا يستسلم للعبث، بل يُقاومه من خلال فعل الخلق الجمالي، وهو ما يُوازي مفهوم كامو عن “الثورة” التي لا تُغيّر العالم، بل تُغيّر علاقة الإنسان به.
كلمة “الهلوسات” في القصيدة تُصبح هنا مفتاحًا رئيسيًا. فبالنسبة لألبير كامو، قد يكون الجنون أو هذه الهلوسات إحدى استجابات الإنسان للعبث. لأنه في مواجهة عالمٍ لا يُقدم إجابات، قد يلجأ العقل البشري إلى خلق عالمه الخاص، حتى لو كان ذلك العالم يتجاوز حدود المنطق والواقع. لهذا فإن هذه الهلوسات ليست ضعفًا، بل قد تكون طريقةً للتعامل مع واقعٍ لا يُطاق، أو مصدرًا لإلهامٍ يُمكن أن يُفجر الجمال من رحم اللاجدوى. إنها ليست هروبًا من الواقع بقدر ما هي طريقةٌ للعيش داخل هذا الواقع ولكن بشروطه الخاصة. فالشاعر هنا يتبنى جنونه لا كمرض، بل كآية وكوحي، وهذا التبني يُشبه إلى حد كبير قبول كامو للعبث كحقيقة وجودية لا مفر منها، ولكن دون يأس.
فاعتماد القصيدة على التعبير الرمزي والتجريد يُمكن ربطه أيضًا بعبثية كامو. فإذا كان العالم صامتًا ولا يُقدم إجاباتٍ واضحة، فإن اللغة بدورها قد تُصبح غير قادرة على التعبير المباشر عن الحقائق الكبرى. لهذا يلجأ الشاعر إلى الرمز والتجريد كوسيلةٍ لمواجهة هذا الصمت وهذا الغموض. وهو لا يُحاول تقديم معنى نهائي، بل يُقدم إيحاءات وصورًا تفتح الباب أمام تأويلاتٍ متعددة، تمامًا كما أن الوجود العبثي لا يُقدم معنى واحدًا ومحددًا. وهذا يترك القارئ في مواجهة مع النص، ليُسقط عليه معانيه الخاصة، ويُشارك في خلق دلالاته، في عمليةٍ تُشبه جدل الإنسان مع الوجود العبثي.
فقصيدة “آيات الجنون” تُقدّم، من منظور كامو، تجسيدًا للبطل العبثي الذي لا ييأس أمام اللاجدوى، بل يُعانقها ويُحولها إلى طاقةٍ خلاقة. فالجنون هنا ليس استسلامًا، بل هو فعل مقاومةٍ جمالي، يُغسل به وجه الصباحات بالأغنيات، ويُنثر به الياسمين والفُل في الروح، في تأكيدٍ على أن الإبداع هو أقصى درجات التمرد وأكثرها سموًا في مواجهة عالمٍ صامتٍ وغامض.
تُعد الصورة الشعرية العمود الفقري الذي ينهض عليه بناء المعنى في قصيدة “آيات الجنون”، فهي ليست مجرد زخرفة لغوية، بل هي المادة التي يتشكل منها فهمنا للذات الشاعرة وتفاعلها مع العالم. تتجاوز الصور في هذه القصيدة وظيفتها التقليدية لتُصبح كائناتٍ دلاليةً حيةً تُفكك الحدود بين المادي واللامادي، بين المرئي والمحسوس، لتُنتج دلالاتٍ متجددة وعميقة.
تبدأ القصيدة باستعارة بديعة تُذهل القارئ بجرأتها، “كونتك غيمة / تجوب الفضاء / تمطر عطراً وظلاً”. هنا، لا يقف الشاعر عند تشبيه ذاته بغيمة، بل يتجاوز ذلك ليُصبح هو فعل التكوين، وليس المقصود بهذا التكوين الإلهي بل تكوين إبداعي خيالي، فالشاعر يختلق هذه الغيمة ليلطف الجو عنده.
فهذه الغيمة ليست سحابةً مألوفةً تحمل الماء، بل هي كيانٌ روحيٌّ متفردٌ يرتاد الفضاء اللامتناهي، مما يُضفي على الذات الشاعرة بعدًا كونيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. إنها “تمطر عطراً وظلاً لا ماءً”، وهذا التمايز جوهري. فالعطر هنا ليشير لرائحة زكية، بل هو تجسيدٌ للجمال الروحي، للأثر المعنوي الباقي، للجوهر الخفي الذي يُضفيه الشاعر على الكون. إنه يدل على النفحات الروحانية، والإيحاءات الخالدة، وتلك البصمة العميقة التي يتركها الإبداع. أما الظل، فهو لا يُشير إلى الظلام أو الغموض، بل إلى السكينة والراحة والحماية التي يمنحها الشاعر للآخرين، عبر شعره الذي يظلل الأرواح المتعبة، أو قد يُشير إلى الجانب الأكثر عمقًا وغموضًا في ذات الشاعر، ذلك الجانب الذي لا يُدرك بالعين المجردة بل يُحسّ ويُختبر. وهذه الاستعارة تُحطم التوقعات المألوفة للصورة، وتُجبر المتلقي على الغوص في أعماق الدلالة الرمزية.
وتُواصل الصور نموها العضوي، لتنتقل من الفضاء الخارجي إلى أعماق الذات، “وفي روحي / تنثر ياسمينًا وفلاً”. هنا، نرى الذات الشاعرة وهي تُشكل ذاتها من الداخل، تُخصّبها وتُنبت فيها الجمال. “الياسمين والفل”، وهما رمزان تقليديان للنقاء والجمال والصفاء والبهجة، لا يُنثران في حديقةٍ خارجية، بل في الروح، مما يُعزز فكرة أن مصدر الجمال والخير متأصلٌ في الذات الشاعرة. وهذه الصورة تُبرز تأثير الذات على الذات نفسها، وكيف أن الإبداع ينبع من نبعٍ داخليٍّ صافٍ، ينعكس جماله على العالم الخارجي والداخلي معًا. إنها عملية توليد للجمال من داخل الكينونة. فتكرار صيغة “ومن آياتي أن جعلتك” يمنح القصيدة طابعًا خاصًا، أشبه بـتجلي الذات. الشاعر هنا لا يصف ذاته فحسب، بل يضعها في مرتبةٍ عليا، فيصبح في عالمه الخيالي والفريد قادر على خلق صور جمالية لا متناهية غير موجودة في الواقع، يحاول هو استحضارها في عالمه، ظانا أن الإبداع والخلق واحد، محاولا امتلاك قوةٌ صانعةٌ تُشكل الوجود الذي يريده ويرغب فيه. وهذا ما يعطي للهلوسات معنى، يجعل القارئ يعتبر أن كل إبداع هو هلوسة، والهوية ليست سوى إبداع.
فهذا التكرار ”ومن آياتي أن جعلتك“ لا يُفسر على أنه غرور، بل يُعبّر عن إيمانٍ راسخٍ وعميقٍ بقوة الذات المبدعة وقدرتها المطلقة على التأثير والتكوين. إنها صيغةٌ تُعزز فكرة أن الشاعر يرى في ذاته تجسيدًا لقوةٍ إبداعيةٍ كبرى، تُضاهي في تأثيرها القوى الكونية.
يُتوج هذا التجسيد بتصوير الذات كـ “فجرٍ نديٍّ / يُداعب عيون الزهر / ويغسل وجه الصباحات / بالأغنيات”. “الفجر” هو رمزٌ كونيٌّ للأمل والبداية والنور والتجدد، و”الندى” يُشير إلى الرقة والعذوبة والخصوبة. وهنا، يتحول الشاعر من مجرد مراقب، ليُصبح جزءًا لا يتجزأ من دورة الطبيعة المتجددة، يمنحها الحياة والجمال. إن “مداعبة عيون الزهر” و”غسل وجه الصباحات” هي أفعالٌ تُضفي على الطبيعة صفاتٍ إنسانيةٍ، وتُظهر الشاعر ككيانٍ حيويٍّ يتفاعل معها بجمالٍ وحنان. والأهم من ذلك هو أداة الغسل، إنها ليست بالماء، بل بالأغنيات، وهي ترمز إلى الإبداع الشعري والفني. هذه صورةٌ مبتكرةٌ تُكسر فيها الحدود بين المادي واللامادي، فالصباحات، وهي كيانٌ زمنيٌّ ملموس، تُغسل بكيانٍ مجردٍ وهو الأغنيات، في دلالةٍ على دور الشعر في تطهير الروح وتجديد الحياة وبعث الجمال في كل يوم جديد. إنها عملية إبداعية تُعيد تشكيل الواقع وتُضفي عليه بعدًا روحيًا وجسمانيًا فريدًا.
القصيدة في جوهرها، لا تُقدم صورًا فحسب، بل هي تُشكل نسقًا دلاليًا متكاملًا تتضافر فيه الصور لترسم صورةً شاملةً للذات الشاعرة ككيانٍ كونيٍّ مُبدع، يفيض بالجمال والخير، ويُعيد تعريف الوجود من خلال عدسة الابداع والوحي الداخلي.
يُشكّل هذا المقطع من القصيدة، “بالهلوسات … ويتلو عليها / ما تيسر / من نبضه / ويوحي لها بعض ما يوحي”، نقطة مفصلية تُلقي ضوءًا كثيفًا على العمق النفسي للشاعر وتُبرر العنوان اللافت “آيات الجنون”. إنّ كلمة الهلوسات ليست مجرد لفظ عابر، بل هي بمثابة المفتاح الدلالي الذي يفتح آفاقًا واسعة لفهم العلاقة المعقدة بين الوعي، اللاوعي، والإبداع. وهنا، لا يتداخل الواقع مع اللاوعي وحسب، بل تتلاشى الحدود الفاصلة بينهما في تجربةٍ وجوديةٍ وفنيةٍ تُعيد تعريف الإدراك الحسي والمعرفي.
من منظور التحليل النفسي، وخصوصًا ما طرحه سيغموند فرويد حول تأثير اللاوعي على السلوك والإبداع، يمكن اعتبار هلوسات محمد صوالحة تجسيدًا لعودة المكبوت من عالم اللاوعي إلى سطح الوعي. فهذه الهلوسات ليست بالضرورة دليلاً على مرض نفسي بالمعنى السريري، بل قد تكون إفرازًا لنشاط عقلي مكثف وغير مُقيّد، حيث تُصبح الصور والأفكار التي تُقمع عادةً في عالم اليقظة أكثر حرية في الظهور والتعبير. وفي هذه الحالة، يتحول الشاعر إلى وعاءٍ مادي لهذه الصور والأصوات الداخلية، مُترجمًا إياها إلى لغةٍ شعريةٍ. ومن خلال هذه الترجمة يتحول لكيان روحي.
إنّ قدرة الشاعر على “تلاوة” ما “تيسر من نبضه” و”إيحاء بعض ما يوحي” تُشير إلى أنّه ليس مجرد مُتلقٍ سلبي، بل فاعلٌ يُعيد تشكيل هذه التدفقات اللاواعية، ويُصيغها فنيًا في نسقٍ شعريٍّ. وهذا التداخل بين الواقع واللاوعي يُمكن مقارنته بما يُعرف بالحالة الحدّية في النقد الأدبي والفلسفي، وهي تلك المساحة الغامضة التي لا تنتمي بشكل كامل إلى عالم اليقظة المنظم ولا إلى عالم الأحلام الفوضوي. وفي هذه الحالة، يصبح الشاعر على حافة الإدراك، مُطلًا على عوالم غير مرئية للوعي العادي، مما يمنحه رؤى فريدة وقدرة على التعبير عن تجارب تتجاوز المألوف. حيث تصبح الهلوسات بهذا المعنى بواباتٍ إلى اللاوعي الجمعي، أو إلى مستويات أعمق من الوجود، تُغذي الإبداع وتُثريه.
يُمكن أيضًا النظر إلى هذا الجانب من منظور نظرية الإلهام الإبداعي التي ترجع جذورها إلى الفكر اليوناني القديم مرورًا بالرومانسية. فالجنون هنا ليس عبثيًا أو مرضيًا، بل هو جنونٌ مقدسٌ أو جنونٌ إلهامي يُمكّن الشاعر من تلقي إيحاءاتٍ تتخطى حدود الإدراك العادي. والشعر، بهذا المعنى، ليس نتاجًا لعملية عقلانية بحتة، بل هو ثمرة لحالةٍ من الوعي المتغير، حيث يتجاوز الشاعر ذاته الفردية ليرتبط بمصدرٍ أعمق للإلهام. أما التعبير “ما تيسر من نبضه” فيُعزز هذه الفكرة، فـ”النبض” هنا ليس مجرد دقات قلب، بل هو دلالة على الحياة الداخلية الجياشة، والحدس العميق، والطاقة الإبداعية الخام التي لا تخضع للمنطق دائمًا.
علاوة على ذلك، تشير هذه الهلوسات لمفهوم التجربة الصوفية أو النشوة الروحية، حيث يصل الإنسان إلى حالةٍ من الاتحاد مع المطلق، أو رؤية حقائق تتجاوز الإدراك الحسي اليومي. فالشاعر، في لحظة “الهلوسة”، قد يختبر نوعًا من الكشف الذي يُلهمه الصور والمعاني التي يُترجمها لاحقًا إلى قصيدة. وهذه التجربة، وإن بدت جنونية للبعض، إلا أنها تُعدّ مصدرًا عميقًا للمعرفة والإبداع في العديد من التقاليد الروحية والفنية.
وللتعمق أكثر في الجانب النفسي، يمكننا النظر إلى القصيدة من منظور كارل غوستاف يونغ ونظريته عن اللاوعي الجمعي والأركيتايبات (النماذج البدائية). فكارل يونغ، على عكس فرويد الذي ركز على اللاوعي الفردي، افترض وجود طبقة أعمق من اللاوعي يتشاركها جميع البشر، تحتوي على نماذج وصور أولية ورثتها الإنسانية عبر تاريخها.
فعندما يتحدث الشاعر عن الهلوسات التي توحي لها بعض ما يوحي، قد لا تكون هذه الإيحاءات نابعة فقط من تجاربه الفردية المكبوتة، بل قد تكون صدى لأركيتايبات كامنة في اللاوعي الجمعي. على سبيل المثال : أركيتايب “الظاهرة الإلهية/الخالقة” وتتجسد هذه الفكرة في صيغة “ومن آياتي أن كونتك…” و”جعلتك”. فالشاعر هنا يرتفع بذاته إلى مقام كوني عالي جدا، وهذه الصورة قد لا تكون نرجسية بقدر ما هي تعبير عن الأركيتايب البدائي للإله أو الصانع الأعظم الكامن في اللاوعي الجمعي للبشرية، والذي يُسقط الشاعر قوته الإبداعية عليه.
أركيتايب “الروحانية/الجمال الخالص”، وتتمثل في صور “العطر والظل” و”الياسمين والفل” و”الفجر الندّي” كلها تُحيل إلى مفاهيم الجمال والنقاء والبدايات الجديدة. وهذه الصور ليست مجرد صور حسية، بل هي رموز ذات دلالات عميقة ومتجذرة في الوعي البشري عبر العصور، ويمكن أن تُعدّ أركيتايبات للجمال الروحي والخصب والتجدد. فالشاعر هنا لا يخترع هذه الصور، بل يستدعيها من مخزون اللاوعي الجمعي، مما يمنحها قوة تأثير عالمية.
أركيتايب “الشعوذة/الجنون المقدس”، فكلمة الهلوسات نفسها تقع ضمن هذا الأركيتايب. ففي العديد من الثقافات البدائية والقديمة، لم يكن الجنون يُنظر إليه دائمًا كمرض، بل كحالةٍ من التواصل مع عالمٍ آخر، أو كـ “مسٍّ” من الآلهة أو الأرواح، يمنح الفرد قدرات خاصة، بما في ذلك النبوة والإبداع الفني. والشاعر هنا يُعيد تأهيل هذا المفهوم البدائي للجنون، مُظهِرًا إياه كقوةٍ مُحفِّزةٍ للإلهام، وكـ “آيات” تتجلى من خلالها الحقائق المخفية.
ومن منظور يونغي، تُصبح القصيدة بمثابة رحلة “تَفَرُّد (Individuation) للشاعر، حيث يُحاول دمج جوانب وعيه ولا وعيه، بما في ذلك الظلال (الجوانب الخفية) والأنماط البدائية، ليُحقق ذاتًا متكاملة ومبدعة. وهذه العملية النفسية تُترجم في النص إلى صورٍ رمزيةٍ تتجاوز المعنى الحرفي، وتُقدم رؤيةً عميقةً للعلاقة بين النفس البشرية، الكون، وفعل الإبداع. فالشاعر لا يخاف من جنونه لأنه يُدرك أنه طريقه للوصول إلى جوهره العميق وإلى مصادر الإلهام الكامنة في اللاوعي الجمعي.
بهذا التحليل، تكون آيات الجنون لا تعبر عن تجربة ذاتية، بل هي نافذةً على آليات عمل النفس البشرية في إنتاج الفن، وعلى كيفية استدعاء الشاعر لجوانب من الوعي الجمعي لتشكيل عالمه الشعري الفريد.
تُقدّم قصيدة “آيات الجنون” نسيجًا شعريًا غنيًا يدعو إلى قراءاتٍ متعمقةٍ من زوايا نقديةٍ متعددةٍ، لا سيما من منظور نظريات التلقي وجماليات القبح في الشعر الحديث. وهاتان النظريتان تُسلطان الضوء على كيفية تفاعل القارئ مع النص، وعلى دور الجماليات غير التقليدية في تشكيل المعنى.
تُركز نظريات التلقي، التي يُعدّ هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر من أبرز روادها، على دور القارئ في إكمال معنى النص، إذ تُؤكد أن النص الأدبي ليس كيانًا ثابتًا، بل هو عمليةٌ تفاعلية يعاد فيها إنتاج المعنى مع كل قراءة. وفي إطار قراءتنا لآيات الجنون، يمكن ملاحظة عدة جوانب، حيث أن القارئ يبدأ بقراءة القصيدة بعنوانها “آيات الجنون”، وهذا العنوان بحد ذاته يُشكل صدمةً لأفق التوقع التقليدي. فكلمة “آيات” تُحيل إلى القداسة والوحي والنظام، بينما “الجنون” يُشير إلى الفوضى والاضطراب واللاعقلانية. وهذا التنافر يخلق توترًا فوريًا، ويُجبر القارئ على إعادة ضبط توقعاته. فالشاعر هنا يتعمد كسر هذا الأفق، مما يُثير فضول القارئ ويدفعه إلى البحث عن المعنى وراء هذا التناقض الظاهر.
فالقصيدة مليئة بالفجوات الدلالية التي لا يُقدم الشاعر لها تفسيرًا مباشرًا. فعلى سبيل المثال، “تمطر عطراً وظلاً لا ماءً”، أو “يغسل وجه الصباحات بالأغنيات”، وأخيرًا “بالهلوسات… ويتلو عليها ما تيسر من نبضه ويوحي لها بعض ما يوحي”. هذه الأسطر تُقدم صورًا غريبةً وغير مألوفة، وتُترك للقارئ مهمة ملء الفراغات وتأويل دلالاتها. فمن هو هذا “الظل” الذي تُمطره الغيمة؟ وكيف تُغسل الصباحات بـ “الأغنيات”؟ وما طبيعة هذه “الهلوسات” التي تُصبح “آيات”؟ كل هذه أسئلة تُحفز القارئ على المشاركة الفعالة في بناء المعنى، مستعينًا بخبراته وثقافته وتجاربه الشخصية. فالقصيدة لا تُخاطب قارئًا سلبيًا، بل تفترض قارئًا نشطًا، مُنفتحًا على الغرابة والتجريد، ومستعدًا للغوص في عوالم اللاوعي والرمزية. هذا القارئ الضمني لهذه القصيدة ليس هو قارئ الشعر الكلاسيكي الذي يبحث عن المعنى الواضح والقافية المنتظمة، بل هو قارئٌ حداثيٌّ يُقدر التجريد اللغوي والفني، ويُمكنه تقبل فكرة أن الجنون قد يكون مصدرًا للإلهام.
تُعتبر جماليات القبح مفهومًا نقديًا حديثًا يُخالف النظرة التقليدية للجمال التي تركز على التناسق والانسجام والكمال. فهي تحتفي بكل ما هو مُهمش، ومُشوّه، وغريب، ومُزعج، وتُعيد اكتشاف الجمال في اللاجميل، وفي الوعي بأن القبح يمكن أن يكون مصدرًا للعمق الفني والتعبير عن حقائق أعمق. وفي “آيات الجنون”، يمكن رؤية جماليات القبح من خلال الجنون كجمالية متجاوزة. فاختيار كلمة “الجنون” في عنوان القصيدة، وفي المقطع الأخير بالهلوسات، يُعدّ تحديًا صريحًا للمفاهيم الجمالية التقليدية. فالجنون، في الثقافة السائدة، غالبًا ما يُربط بالخلل والنقص والاضطراب، وهو نقيض الجمال والكمال. لكن الشاعر هنا يُعلي من شأن الجنون والهلوسات ويجعلها “آيات”، أي مصادر للوحي والجمال. وهذا التحول يُعدّ تجسيدًا لجماليات القبح، حيث يُعاد تقييم ما هو مُقبح اجتماعيًا أو عقلانيًا، ليُكتشف فيه بعدٌ جماليٌّ وفنيٌّ عميق. حيث يتعمد الشاعر تكسير المألوف لخلق الجمال الجديد. وصور القصيدة ليست صورًا جميلةً بالمعنى التقليدي دائمًا. “غيمة تمطر عطراً وظلاً” فقد تبدو جميلة، لكن الهلوسات تُدخل عنصرًا من عدم الاستقرار والغرابة. وهذا الخرق للمألوف، وهذا التشويه لـ “المعقول” في اللغة والصورة، هو جزء من جماليات القبح. فالهدف ليس إنتاج صورة مريحة للعين أو العقل، بل إثارة التفكير، وإزعاج القارئ، وإجباره على مواجهة حقائق تتجاوز الجمال السطحي. و القبح هنا ليس قبحًا ذاتيًا، بل هو تفكيكٌ لمعايير الجمال النمطية لفتح المجال أمام جماليات أكثر تعقيدًا وإثارة.
التعبير عن تجارب الهامش، فغالبًا ما يرتبط مفهوم جماليات القبح بالتعبير عن تجارب الهامش، وعما هو مُستبعد أو مُخيف أو غير مفهوم. والهلوسات تُشير إلى هذه التجربة الهامشية، إلى ذلك الجانب من النفس البشرية الذي لا يُقدم نفسه بشكلٍ واضحٍ أو عقلاني. والقصيدة تُعطي صوتًا لهذا “الجنون الداخلي”، وتُظهره ليس كشيءٍ يجب إخفاؤه أو علاجه، بل كجزءٍ أصيلٍ من الذات المبدعة، قادرٍ على إنتاج آيات من الجمال.
القصيدة التي بين أيدينا حداثيةٌ بامتياز تُتيح قراءاتٍ غنيةً من منظور نظريات التلقي التي تُعزز دور القارئ، ومن منظور جماليات القبح التي تُعيد تعريف معايير الجمال وتُبرز العمق الفني في ما يبدو غير مألوف أو جنوني. إنها دعوةٌ للقارئ للانخراط في عملية إبداعية مشتركة مع الشاعر، والكشف عن جمالٍ خفيٍّ في أبعادٍ نفسيةٍ وفنيةٍ غير تقليدية.
ومن منظور نفسي، يمكن فهم الهلوسات ليس كمرض عقلي بالمعنى السريري، بل كحالة من الوعي المتسامي أو التجربة الصوفية أو الجنون الإبداعي. حيث يرى العديد من النقاد والفلاسفة، مثل ميشيل فوكو في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، أن الجنون يمكن أن يكون شكلاً آخر من أشكال المعرفة، أو مصدرًا للإلهام الفني. فالشعراء والفنانون غالبًا ما يُعانون من حالات من “الوعي المتغير” الذي يُمكنهم من رؤية العالم بطرق غير تقليدية، واستلهام أفكار وصور لا يستطيع العقل الواعي الوصول إليها.
فالشاعر هنا لا يخشى الاعتراف بـ “الهلوسات”؛ بل يُدمجها في نسيج تجربته الإبداعية. إنها ليست عائقًا، بل هي جزء لا يتجزأ من مصدر الإلهام. “يتلو عليها / ما تيسر / من نبضه” تُشير إلى أن هذا الإلهام نابع من أعماق الذات، من النبض الحي، من التجربة الداخلية الأصيلة. و”يوحي لها بعض ما يوحي” تُعزز فكرة أن الشاعر هو وسيط لتلك الإيحاءات التي قد لا تكون مفهومة بشكل كامل للعقل الواعي، ولكنها تُشكل جوهر تجربته الفنية. ويُمكن أن تُفهم الهلوسات أيضًا على أنها حالة من التدفق الفكري أو الاستغراق الكامل في العملية الإبداعية، حيث يتجاوز الشاعر حدود العقل المنطقي ويُفسح المجال للحدس والخيال للسيطرة. في هذه الحالة، تصبح الحدود بين الذات والعالم، وبين الواقع والحلم، ضبابية، مما يُمكن الشاعر من إنتاج أعمال فنية فريدة وغير مألوفة.
إذا حاولنا ربط هذه القصيدة بآراء نقاد مثل الناقد الروسي ميخائيل باختين ونظريته عن “التعددية الصوتية” أو “البوليفونية”، حيث تتعدد الأصوات والرؤى داخل النص الواحد. في “آيات الجنون”، نجد صوتًا ذاتيًا قويًا ينبثق منه الشاعر كـ”غيمة” و”فجر”، وفي الوقت نفسه، يتخلل هذا الصوت اعتراف بالهلوسات، مما يُضفي بعدًا آخر على هذه الذات، و يجعلها ليست ذاتًا أحادية، بل متعددة الأوجه والمعاني.
كما يمكن استحضار آراء النقاد البنيويين وما بعد البنيويين الذين يُركزون على تفكيك النص للكشف عن دلالاته الخفية وتناقضاته الظاهرة. وفي هذه القصيدة، يُمكن تفكيك العلاقة بين “الآيات” المقدسة والجنون، وكيف أن ما يُعد جنونًا في سياق قد يُعد إلهامًا في سياق آخر، لاسيما في سياق الشعر. ومن ناحية أخرى، يُمكن تطبيق رؤى النقد النفسي التي أسسها سيغموند فرويد وتطورت على يد تلاميذه. فالشاعر هنا يُعبر عن دواخله العميقة، عن اللاوعي الذي يُشكل جزءًا كبيرًا من شخصيته وإبداعه. “الهلوسات” تُشير إلى صور وأفكار قد تكون مكبوتة في اللاوعي وتظهر على السطح في شكل إبداعي. إذ يُمكن اعتبار هذه القصيدة بمثابة تنفيس نفسي للشاعر، حيث يُخرج ما بداخله من مشاعر وأفكار بطريقة فنية.
تُعد قصيدة “آيات الجنون” نصًا شعريًا عميقًا ومُفعمًا بالرمزية، يُقدم رؤية ذاتية فريدة عن الإبداع والوعي.
فالقصيدة تُبرز قوة اللغة الشعرية في التعبير عن التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها، وتُشير إلى أن “الجنون” ليس بالضرورة عجزًا أو نقصًا، بل قد يكون مصدرًا للإلهام والإبداع، ونافذة على عوالم أخرى من الفهم والمعرفة. والشاعر، في هذه القصيدة، يُجسد ذاته ككيان كوني يُقدم الخير والجمال، مُدركًا أن جذور إبداعه قد تمتد إلى ما هو أبعد من العقل الواعي، إلى عوالم “الهلوسات” التي تُثري تجربته الفنية وتُضفي عليها أصالة وتميزًا.
يتبع