لصحيفة آفاق حرة:
______________
ً
قراءة في قصيدة” إني متعب جداً” لنضال القاسم
الناقد: د. سلطان الخضور
الجزء الأول
يعكس الجزء الاول من هذه القصيدة الصور التي خزنتها الذاكرة للواقع المأزوم والمستقبل المرسوم, فما بين وجع الواقع وما ينتجه من ألم, وصورة المستقبل وما تنتجه من أمل ثمة فرق بائن بينونة كبرى. تتشكل فيه فلسفة المقارنة, فالشاعر القاسم في هذه القصيدة يعيش كابوس الحرب والهزيمة, ويقتات على ذكريات الماضي الجميل ويسهو ويصحو على حلم المستقبل الواعد, فالحكايات التي عاشها في قريته الصغيرة المتواضعة تسكن قلبه المجروح, هذا القلب يسهو ولا يصل في إغفاءته إلى النومة السابعة فيبقى متحفزاً يصحوا بين الحين والآخر على شمعة تشعلها ذكريات تلك الحكايات لتعود به إلى مرحلة الطفولة التي عاشها في مرابع الصبا, عاشها فصارت جزءاً من شرايين قلبه, تتدفق لتعيد له سيرته الأولى التي تجاوز الزمان زمانها ولم يمسح آثارها, حتى صارت تكبر وتكبر وترتسم حلماً لتشكل خارطة للوطن يتجدد الحلم على كل بقعة من بقاعها, لينتصب الوطن المرسوم ويشكل اللوحة الخرافية التي يتمنى الشاعر أن يراها عليه, لدرجة الشهوة وهي الرغبة الشديدة.
تضيء الحكايات قلبي فأصحو
وأرتد طفلاً كنته ذات يوم
أشتهي
وطناً خرافياً جميلاً
وعندما يصحو من سهوة النوم, يكون المزج بين ما كان وما سيكون, فالشجر والفاكهة والماء من ذكريات الماضي الجميل, التي ما زالت صورتها تتجدد في الذاكرة لتصبح حلماً كانت معالمه قد تشكلت في سن مبكرة, لكن الحرب التي صار بسببها الواقع ذكرى, وباتت الذكرى حلماً كلما تجدد ساهم في نحت أطراف السنين التي يحياها والتي أمضاها في حالة من التجوال بين هذه المدينة وتلك, وكل هذه المدن مدن غريبة ليس بينه وبينها أي رابط روحي كذاك الذي يربطه بالوطن, والشاعر القاسم معروف بكثرة تجواله بين مدن الشرق ومدن الغرب بحكم العمل, والتي ساهمت في إنهاكه بدلاً من أن تكون بديلاً أو خياراً متاحاً لجلب البهجة والسرور.
وتسحضرني في هذا المقام قصة ذاك الفلسطيني ذو المنصب والمال والجاه والحياة المترفة, عندما قال في مقابلة تلفزيونية ما يفيد أن كل هذه الأموال وهذا المنصب والجاه لا يساوي عندي مكان قبر لي في قريتي المتواضعة, فالتعب الذي وصل درجة الإنهاك والذي يعاني منه الشاعر وأي منفي عن وطنه ليس تعب جسدي بقدر ما هو تعب نفسي وروحي بسبب الجفاء والبعد عن الوطن وما سببته نتائج الحرب للشاعر من قلق وجوع جماعي لا يشترط أن يكون تأثيره مباشراً عليه.
أشتهي…
شجراً وفاكهة وماء
قد أنهكتني الحرب والمدن الغريبة
إني متعب جداً
ورثت من الحرب أوزارها والخواء
ويعود الشاعر للحديث عن الهزيمة, لكن خطابه هذه المرة يختص به أباه وبلدته الصغيرة كما يصفها وهي كما نعلم من قصيدة سابقة أنها بلدة” دير الغصون” التابعة لمحافظة طولكرم الفلسطينية, فنار الهزيمة الذي وصفه بظلها ليشير إلى القدرة على إخمادها وتحويل النار إلى ظل, هو ظل موحش يخيم على بقاع البلدة, ويسبب طعماً مذاقه العلقم وتعباً لدرجة الشقاء لمن يقطنها ولمن يقطن بعيداً عنها.
موحش ظل الهزيمة فوق بلدتنا الصغيرة يا أبي
علقم طعم الشقاء.
إني متعب جدا
الجزء الثانيً
ويعود القاسم في هذا الجزء من القصيدة لفلسفة استحضار الماضي الذي تستعيده الذاكرة كلما فُعّلت, لتعيد رسم البيت الذي كان قد بني من الطين, والذي يعرف الشاعر تفاصيله بشكل تام, ويعرف موقعه الذي كما أخبرنا على مفارق الطرق, هذا البيت وما أحاط به من أحجار وصفها الشاعر بالبيضاء المرصوصة والتي أجتهد لأقول أنها أحجار السور الذي يحيط بالبيت. ومن عادة الفلاحين في تلك الحقبة من الزمان أن يحيطوا بيوتهم بسور من الحجارة التي عادة ما يجمعونها من أراضيهم المجاورة, فيرصصونها بإتقان على علو متر تقريباً لحماية البيت من الناس ومن اعتداءات مواشيهم. المهم في الأمر هنا أن هذه الحجارة أخذت اللون الأبيض بفعل المطر المتكرر الذي يغسلها بشكل مستمر, وما ذكر لونها إلا رغبة من الشاعر في إضفاء جو من الأمل على واقع محسوس يخفف من حرقة الفراق.
في الذاكرة
بيت من الطين أذكره تماماً على مفارق الطرق
وأحجار بيضاء بيضاء مرصوصة من غير سوء
ويعود لفلسفة المزج بين الطبيعة وما تحوي والبيت وما يحوي, وما تحوي الطبيعة وما يحوي البيت غير الحسرة والحزن, ففي ذكر الجمال المفقود ألم معقود, وفي ذكر البيت والجفاء جفاف للروح, فبراعم الورد التي كانت, كانت تضوع أي تنتشر بقوة لتفوح برائحة العطر الجميلة, والعصافير التي تتنقل بين الهناكين- هنا وهناك – كانت مصدراً للطمأنينة, والنعناع الطري يئن بأحواضه الحزينة, وبئر الماء الذي جف قاعه يكاد يسمع أنينه, والأصدقاء القدامى جزء من المكان وحنينه, هذا وذاك كلما جاء الضوء بالحكايات يوقظ القلب من سهوته ويدميه.
براعم ورد تضوع بالشذا
عصافير تمرق بين الهنا… والهناك
نعناع طري
وبئر ماء جف طين قاعها .. وأصدقاء
وتأبى الحسرة التي خلفتها نتائج الحرب والفقد وما سببته من وجد, إلا أن تستبيح معاقل التذكر في الذاكرة, فنسمات الريح الهادئة التي كان يتنسم نسيمها الورد وتتهادى على وقعها العصافير, صارت بفعل الحرب ريحاً شديدة تحيل النسيم إلى عاصفة تعصف بكل ما تلاقيه, فصارت كالذئب الذي يتضور جوعاً يبحث عن فريسة يطق عنقها فيستلذ بما شاء من لحمها, باتت تعوي لتخلخل أشجار السرو والكينا التي عبرت عن أصالتها فبقيت هاماتها مرتفعة ووقفت شامخة في وجه الريح.
ولم تكتفي نتائج الحرب بالتأثير على الورد والعصافير, بل بات الضوء يئن تحت وطأتها ويرتجف, معلنا رفضه لما آل إليه, ومثله جدول الماء الذي كان ينساب بهدوء ويعطي معنى للحياة بات كالقطة الأليفة التي تموء طلباً للطعام لتستقيم لها الحياة, وقد بات جدول الماء كذلك لقمة سائغة للبعوض, وقد شاء الشاعر أن يقرن مخالب البعوض بمخالب الغزاة قاصداً التحقير.
ريح كنود في زحمة الحرب تهوي كذئب
واشجار سرو وكينا اشرأبت فوق هامات الأصيل
ذبالة ضوء يئن ويرتجف
وجدول يموج بالحياة رقراقاً شجيا
يموء مثل قطة أليفة
تلوكه مخالب البعوض والغزاة
إني متعب جداً
الجزء الثالث
ولم يختلف هذا الجزء من القصيدة عن سابقيه, فالذاكرة حين تُفعّل تأتي لمن اختزن بما اختزن, وتقول ما سجل على جدرانها من ذكريات وصور وحكايات, وتختلط الصور, صور البيت بنوافذه المضيئة بصور قرقعة الحرب وطبوله حين تدق, فذاك الصوت الموحش للحرب يلقي بثقله على البيت العامر المضيء, وعلى تلك النوافذ المطمئنة الناعمة.
وفي اليت امرأة هي أم للبيت وما احتوى, هي أم أمضت الجميل من عمرها فيه, لكن ذكراها بقيت تدغدغ ذاكرة الشاعر كلما استحضر صورتها, أم عاشت تفاصيل حركاتها وسكناتها فيه ومضت.
قال الشاعر لو أنها .. وسكت, وقال لكنها وسكت, وكأني به في لحظة التذكار هذه فاضت عيناه.. فسكت, نعم سكت ليبحث عمن يكمل حرقة في القصيد. لكن ما الذي كان من الممكن أن يقوله لو أنه أكمل التمني والاستدراك؟ من المؤكد أنه سيقول لو أنها بقيت لتعود إلى ذاك البيت العتيق, لو أنها بقيت لتمنحني فسحاً أخرى من فسح البر, لو أنها بقيت تضيء عتمة الليل وتعيد الضوء إلى النوافذ الناعمة. لكنها مضت, مضت إلى مشوار اللاعودة, إلى طريق رسمت باتجاه واحد, ذهبت لتبقى ذاهبة… لا لتعود.
في الذاكرة
صوت بعيد موحش
ضوء يملأ البيت
نوافذ ناعمة
عينان حانيتان لامرأة مضت إلى السماء
لو أنها…لكنها…
وينعطف الشاعر بمفردات القصيدة, ليعطف بالواو على أمه أولئك الناس الملقون بالطرقات, أولئك المكدودون كالأشباح وهم يتألمون عاجزين عن الحديث, لا يسمع الشاعر إلا أصوات أنفاسهم التي وصفها بالحرّى, ليعبّر عن غضبهم من هذا الوضع, فقد كان من الممكن لو أنهم يقوون أن يدقوا باب بيته, لكنهم ولشدة آلامهم لا يقوون على المسير ودق الباب, فلم يفعلوا, فبقي الباب على حاله ومضوا, ولو أنهم لم يمضوا, لكنهم مضوا.
والناس مكدودون كالأشباح في الطرقات
أسمعهم
أنفاسهم حرى
يدهم تدق الباب
لو أنهم…
لكنهم…
ويعطف على أمّه والناس قميصه الذي ذهب مع الريح حيث طار في اللامنظور من الرؤى, فلم يكن الوقت يسعف الأهل للملمة الأشياء أو حتى جمع ما كان من الملابس على حبل الغسيل, لينتقل إلى التأكيد على المعرفة بالقميص حيث يذكر أنه كان فضفاضاً واسعاً وكان لونه أخضر, حيث ضاع ذلك القميص, ولو أنه بقي لكان شاهداً على جرائم الاحتلال, لكنه ضاع كما ضاعت البلاد.
وقميص ضيعته الريح خلف المدى
كان فضفاضاً وأخضر واختفى منذ أن ضاعت بلادي
لو أنه…لكنه…
…
إربد – الأردنّ