قراءة في قصيدة للشاعر اياد حلمي شوشاري بقلم أحمد وليد

بعد التحية

يقال أيها السادة

انه في ظل الخيانة

استراحت يوما بندقية

واكتفى المجد

بسرد الحكايا

عن حروب الجاهلية

يقال ايضا

إن صبيا

لم يعشق البرد يوما

لكنه كان من ضمن المسرحية

ويقال أيضا

أن أبطالها ماتوا جميعا

والقاتل مجهول الهوية

لم يربح الخاسرون

سوى بعض الهزيمة

لم يخسر الرابحون

سوى تلك البندقية

بربكم أيها السادة

لا تقروا بالحقيقة

في الشرق

ام في الغرب

كلنا ظلال ترامت

مثل أبطال

المسرحية .

يتقمص الشاعر دور الحكواتي فيبدأ بالتحية قبل أن يبدأ كلامه في سرد أحجياته بطريقة تلقائية و عفوية دون أن يخضعها لميزان التوافق فهو لا يحاول أن يوافق بين تصوراته التي تحملها أحجياته و بين الحقيقة أو الواقع المحسوس كما هو بل يجعلها تتوافق ضمن المضمون أو النتيجة التابثة لكليهما و ربما أسس لبناء صورة للواقع خاصة به أو فرضها عليه واقعه . و قد ظهرت تلقائيته في السرد ابتداء من كلامه عن *الخيانة* ربما حاول غيره إخفاءها كحقيقة و عدم التطرق إليها لكنه تطرق إليها بتلقائية و عفوية فجاءت الصورة و إن بدت غامضة متكاملة تتوافق و اتساق النسق الداخلي للشاعر و مسايرته للواقع في شكل إيحائات محملة بدلالات عميقة المعنى ترجمت انفعاله الداخلي و رؤاه العميقة اتجاه فكرة أساسية * الخيانة* و ليست أي خيانة إنها خيانة تتعطل من خلالها الأفعال .

الوطن دائما يحتاج لمن يكونه ، يشكله في شكل مجتمع حضاري متماسك يسمو عن المصالح الشخصية و الإنتماء له يحتِّم على المواطن الدفاع عنه وبقناعة تامة تشمل العقل و الروح .

لكن مع الخيانة يكثر الفساد و الكذب و … تسمو المصالح الشخصية على حساب مصلحة الوطن و المواطن و هكذا يتعطل فعل الدفاع عن الوطن و بالتالي يتعطل فعل البندقية فلا داعي لوجودها و كنتيجة حتمية عليها أن تركن و تستريح كما جاء بقول الشاعر (( استراحت يوما بندقية)) فالشاعر يكتب بطريقة يصعب فيها على المتلقي الإدراك ليس بفعل التعجيز و لكن لأن الموقف يتطلب ذلك فإحساس الشاعر و توتره و انفعاله الذي يحاول توصيله للقارئ يفوق شعوره، يجعله يخرج من الواقع الذي يسيطر عليه و يحاول التعبير عنه بطريقة تجريدية يعتمد فيها على رمزية  لا تُفهم و لكنها تحسّ و تُدرك رمزية بأسلوب مناسب و غير متعمد، فالشاعر أمام الواقع المزري يجد نفسه مضطرا في التعبير عما يشعر به إلى الخروج من حالته الشعورية المدركة و الدخول في حالة لاشعورية في عالمه الغير مدرك هكذا يدخل أعلى حالات التعبير مُنطلقًا من أعماق الذات و الوعي متجها إلى الخارج ، فهو عندما كتب انطلق من الخارج ( الواقع ) إلى الداخل ( عمق الذات ) ثم صاغ أفكاره و مفاهيمه و انفعالاته فصدرت من عمق الذات ( الداخل ) للتعبير عن الواقع ( الخارج ) و بأسلوب فني غير عادي حيث انصب على سرد حكاية منسوجة من ألف بداية و تؤسس لنهاية واحدة محتومة و معروفة ، نسج خيوطها مما خزنته ذاكرته و وعاه العقل و المنطق عنده .

خط و رسم مسارٓ حكاية أو مسرحية محكمة القفلة ، غيّب فيها حضُوره لِيظْهر ثانية مع ذوات عديدة غيّبها أيضا لكنها شكلت حكايته عبر نمطية الحضور بالإختفاء ..

فالحكاية أو المسرحية كما أرادها الشاعر أصبح الأبطال يلعبون أدوارها بالمتخيل الشعري بعدما انهت أدوارها بأرض الواقع ، فالشاعر انطلق من أحداث الواقع الكثيرة و المتشعبة و لخصها في حكاية واحدة انبثقت من حدث واحد بارز و معروف (الخيانة) خيانة الوطن ، البلاد ، و الأرض ، خيانة الأمانة و المبادئ .. و بالتالي خيانة الإنسان للإنسان فالإنسان عندما يخون، يخون نفسه قبل غيره ، و عندما يخون الوطن يخون منظومة الحقوق و الواجبات التي تضمن له العيش الكريم ، يخون الأسس و المبادئ و بالتالي يفقد الإنتماء، يصبح فردا دون جماعة .. يفقد الإحساس بالمواطنة ، يفقد الوطن .

و الشاعر لم يُخرِج نفسه من إطار حكايته “كبطل” باختياره فسٓردُ الحكاية تطلّب منه أن يتقمص دور الحكواتي يحرك الأحداث و الشخوص بخيوط لا يمكنها أن تنفلت من بين أصابعه لكن هذا لا يمنعنا من استشفاف حضوره ضمن الشخوص فكلهم مجتمعين يشتركون في هذا العمل الدرامي إن أمكننا تسميته هكذا .

و كما أسلفنا الذكر فالشاعر لترتيب حكايته انطلق من منظومته الواعية التي تسكنه محاولا من خلالها التعبير داخل منظومته اللاواعية المنبثقة من قدرته كشاعر على التعبير بالقول المتمرس في اللاوعي  ليصل بنا إلى الإدراك أو منظومة الوعي بالقول .

يقال أيها السادة

انه في ظل الخيانة

استراحت يوما بندقية

واكتفى المجد

بسرد الحكايا

عن حروب الجاهلية

جاء بناء المشهدية الأولى للأحجية في شكل نسق تكاملي تضٓمّن إشارات وصفية تركيبية لها وظيفة إيحائية قابلة للتأويل تجذب القارئ و تمهد له المناخ المناسب لخوض غمار مغامرة الفهم ، التحليل و التأويل و تؤسس تدريجيا للمشهدية التالية ثم التي تليها في إطار بنيات فنية تتابعت فيها المشهديات في إطار لقطات ذات أبعاد فلسفية رؤيوية عميقة ضمنت لهذه الأخيرة (المشهدية) صفتها الإبداعية و توهجها .

يقال ايضا

إن صبيا

لم يعشق البرد يوما

لكنه كان من ضمن المسرحية

ويقال أيضا

أن أبطالها ماتوا جميعا

والقاتل مجهول الهوية

لم يربح الخاسرون

سوى بعض الهزيمة

لم يخسر الرابحون

سوى تلك البندقية

بربكم أيها السادة

لا تقروا بالحقيقة

في الشرق

ام في الغرب

كلنا ظلال ترامت

مثل أبطال

المسرحية

لم يتعمد الشاعر الإشتغال على الرموز المتضادة من أجل التناقض، بل لتحقيق الفعل الدراماتيكي المتصاعد وراء الصراع النفسي الداخلي المبني على متصالحات منسجمة تتناقض داخل النص (الجسد المكتوب) و تنسجم في الذاكرة ( الجسد اللامكتوب )

كان المشهد الثاني يضم صبي لا يحب البرد .. و وجوده بالمسرحية لم يكن عبثا بل كان مقررا فالمسرحية هي هذا العالم الواقعي المفروض على من يوجد به بكل ما فيه من قهر و ظلم و .. فالصبي شخص ضمن باقي الشخوص الموجودة بالمسرحية أو بالعالم تُفرض عليه أشياء لا يحبها لكن حتمية وجوده بهذا العالم تحتِّم عليه البقاء و التحمُّل . و كثيرا ما وُجد أطفال بالعراء بحكم الأوضاع السارية بالمجتمعات العربية  مثلا الأوضاع بسوريا بعد هدم البيوت تشتت العائلات و تشرد الأطفال ، أصبحنا نجد الأطفال بالعراء و تحت سقيع البرد و ما أكثرهم . و هذا لا يقتصر على مجتمع دون الآخر .. و قد أسس الشاعر لهذه الصورة بذكر عدم حب الصبي للبرد  وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وجوده بالعراء بجو بارد .. و قد لا يكون الجو باردا فقط بل مثلج إن صح التعبير و هكذا استطاع الشاعر تكثيف الصورة و إظهار المأساة بعمق يفوق التصور العادي.

و يسترسل الشاعر في سرد الأحداث و إنهاء المسرحية بقتل كل أبطالها و قد تعمد جعل القاتل مجهول بالمسرحية لأنه معروف بأرض الواقع فلا داعي لتعريفه ، فعل القتل له دافع أو دوافع لم يتطرق لها الشاعر كي لا يستغبي القارئ و لا يطيل عليه و هذا ما يتطلبه الإبداع “التلميح و الإيحاء و الإختصار قدر الإمكان” .

هكذا يحاول الشاعر قلب معطيات الأحداث و صياغتها بمنظور جديد محاولا التوغل داخل الرؤية الشعرية و الغوص في عمقها و ما يبثه من معطيات إيحائية تدخل صلب المشهد الدرامي المبني على جملة من الأفكار المتناقضة التي تتحرك داخل النص بهدف إغنائه و توضيح ما خفي منه .

أبطال المسرحية ينقسمون إلى قسمين خاسرون ” ربحوا” و رابحون ” خسروا” ، و الربح بالأصل خسارة و الخسارة ربح ، الخاسرون ربحوا الخسارة فهم يصنفون ضمن من لا حول لهم و لا قوة و إن كانوا قوة المجتمع او الوطن الدافعة و المدافعون عنه بأرواحهم إلا أنهم شاركوا بهزيمة أنفسهم سواء بإرادتهم أو غصبا عنهم ، فهم إما سكتوا على الظلم و أنقادوا كالقطيع .. أو حاولوا و دافعوا بكل قواهم ضد قوى ظالمة و خفية تساند بعضها بعضا و تؤسس للسيطرة على العالم لكن لم يحققوا شيئا.

و اذا حاولنا فهم ( لم يخسر الرابحون سوى تلك البندقية) نفهم أن الرابحون هم الطبقة العليا للمجتمع “أصحاب رؤوس الأموال و الحكام” و كلهم يسيطرون على البلاد و خيراتها .. هؤلاء انساقوا وراء مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الوطن و المواطنين و بهذا لم يكثفوا الجهود للدفاع عن هذا الوطن بل أصبحوا يبيعون الأوطان تحت مسميات جديدة و يعقدون الصفقات ضمن ما يصطلح عليه ” التنمية الإقتصادية” فلم يعد هناك أهمية للدفاع عن الوطن و بالتالي لا داعي للبندقية .

و ينهي الشاعر كلامه بتوجيه الخطاب للسادة المشاهدين و دعوتهم لعدم قول الحقيقة أو الإقرار بها سواء بالشرق أو بالغرب كي لا يلاقوا نفس مصير أبطال المسرحية ( القتل) . فكل الشخصيات التي تجسدت في هذه المشاهد يجمع بينها عنصر واحد مهم جدا هو القتل كمصير حتمي و متوقع . بعدها يقحم الشاعر نفسه ضمن أبطال المسرحية  معتبرا أنه و الناس المتحدث عنهم بالواقع ليسوا سوى ظلال وجدوا قهرا بعالم لا يعيش فيه سوى الظل متقمصا دور إنسان .

النص زخم رؤيوي للأحداث و إحساس انفعالي عميق ساهم في تفعيل الرؤيا و اعتبارها مظهرا من مظاهر الكشف تدل على واقع الشاعر المحسوس و تكشف أسراره و تنفذ إلى أعماقه بهذا يسهل علينا معرفة فلسفة الشاعر و تصوره الخاص الذي كوّنه عن المستقبل و التنبؤ به .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!