وأخلع جلدي
ــــــــــــــــــــــ
وأخلع جلدي ..
وأرتديك
ثوبا من ضياء ..
ارتديك ..
غيمة تطير بي
حيث البياض
و عطر البياض
حيث أنت..
أفقأعيني ..
واستعير شمس عينك
تبدد ..
ظلمة يومي
وتصلب ..
عتمة روحي
يا أنت ..
منذ عمرين وأكثر
أناديك ..
أنا الكهل الكسيح
المخنوق بدمعه
من يعيد إلي جنوني
وذاك الصغير المشاغب فيّ
ألاك
أأبكيك ..
وماذا تعني الدموع
إلا عجز النخيل..
وعجز السماء
وموت التراب ..
أمام الغياب
منذ عمرين وأكثر
انتظرك فجرا ..
يطفئ وجعي
ويعيدني حيا ..
بعد أن صار عمري
سراب ..
محمد صوالحه
—————————
حين تُغَيِّر القصيدة جلدها و تتحدث عن نفسها و كأنها هي من يكتبُ الشاعر و ليس هو من يكتبُها ، ويغيبُ هو داخل السطور و يتركنا نبحث عنه عن علامة أو إشارة تدلنا عليه ، حين يغرق داخل ما كُتِبَ مستسلما لكل ما يُؤْخٓذُ منه و كل ما يأخذُهُ من نفسه، يأخُذُه إليْهِ، إلى ذلك الغائب الذي رحل و ترك الشاعر يتخبط داخل يأسه .. مطبقا على نفسه و مغلقا كل بؤرة نطل منها عليه، أو يدلنا ولو بإشارة بسيطة عما أُريدٓ و ما يُرِيدُ .. و كأننا بالنص يكتب نفسه، فمجرد أن يفكر الشاعر بالكتابة يجد نفسه يكتُبُ و يُكْتٓبُ فتتحول القصيدة بين يديه من مجرد كلمات ولغة شعرية مجردة تتشكّل في سطور و تتبلور لتصبح شيئا محسوسًا ندرك وجوده بين السطور، تتحوَّل من مجرّد كلمات ذات مفاهيم بسيطة و عادية إلى روحية، تتشكَّل في شكل كائن حي يُغيِّبُ الشاعر و يظهر هو واضحا، جلِيا ومضيئا يكاد ضياءه يطمس حضور شاعرنا .. تتعرّى القصيدة فتعرِّيه و تكتب عنه و تُظهرُ ما خفي علينا، هكذا تبدأ هي فعل العُرِي لتعريه من جلده ، من نفسه و من القصيدة.
أما الشاعر فيتحرّر من قيود الواقع ويبحث لنفسه عن مكان يحقِّق فيه ذاته، مكان يحس فيه أنه موجود و أنه مازال حيًّا يرزق لم يرحل مع الأموات و لم يمُت مع الأحياء، هكذا يلقي بنفسه داخل متخٓيّلِه الشعري عبر القصيدة، يخلع جلده استعدادًا للسباحة في بحرها الشاسع، الرحب و المتلألئ .. ينطلق حرًّا، طليقًا بين السُّطُور، يفعل ما يحلو له و يخبِّر عمّا يريد بشفافية و صدق لا يحتاج معهما لتجمُّل . بهذا يسمح لنا برؤيته مجردا لا شيء يستره، و لا شيء يخفيه ، يسمح لنا بتفحصه من الداخل والتمعن جيدا، برؤيته عن كثب، يهيء لنا مناخا مناسبا لفتح قفل من أقفال أبوابه الموصدة ، ويسهل لنا الرؤيا ، فنراه كما هو ، مجردا بلا تشويه .
وحين ينزع عنه جلده و نظن أنه سمح لنا فعلا برؤية ما خفي منه نتفاجأ به يغطي حقيقته بارتدائه ” له” ثوبا من ضياء ، كان بإمكان شاعرنا أن يختار ثوبا من *نور* كرمز للطهر و النقاء ، لكنه اختار الضياء كرمز للتوهج و السطوع ، و كأنه ينزع عنه رداءه الأسود ليرتديه هو _ودائما يتحدث ، أو يخاطب شخصية مجهولة بالنسبة للقارئ_ غيمة تطير به حيث البياض و عطر البياض حيث يوجد هو ( أي مخاطبه ) بعيدا عن الأرض و ما تعج به من ضوضاء، إزدحام، و مشاكل الكثير من المشاكل و الأزمات فإن الألوان فيها اختلطت و أصبحت تشكل لدى الشاعر لونا واحدا رماديا يميل إلى السواد، من أجل هذا نجده يثوق الى مغادرة المكان و الإرتفاع عاليا في السماء حيث الضياء ، النور و البياض .
“و أخلع جلدي” هي إرادة الشاعر في تحقيق ذاته و إثبات وجوده عن طريق التعرًِّي ، الذي أصبح رغبةً عنده يحاول من خلالها التطهر من نفسه و أشيائه و متعلقاته ، فهو تعب من كونه هو و أراد أن يكون شيئا آخر مغايرا، أراد أن يخلع عن نفسه جلد التعب ، المعاناة و الأسر … و ربما القُبح أيضًا ليتحرر فيه هو يلبسه لباسًا للبياض ، الطُّهر و الجمال ، فهو يخلع عنه “نفسه” ليلبسه “هو” وكأنه يغيِّب وجوده و حضوره بهذا الواقع ليحضر و يطل علينا من خلال الآخر، ذاك البعيد القريب، الغائب الحاضر.. بعيد بُعد المكان حاضر في الذاكرة، غائب عن الوجود، حاضر بوجدان الشاعر و بقلبه أيضا، هذا الأخير (أي الشاعر) بكل أثقاله و متاعبه أصبح يحس أنه قبيحا و مكبّلًا بواقع مر زادت متاعبه و أعباءه، و عندما يلبسه هو سيتحرّر من نفسه و يصبح جميلا ، طليقًا و نقيًّا ، فهو بالنسبة له رمز للحياة المثالية التي طالما بحث عنها، حياة وردية لم ولن يعرف فيها الشقاء، رمز للحب و العطاء، رمز للطهر و النقاء . و هذا لا يعني أن شاعرنا ليس طاهرا أو أنه لا يتصف بصفات الجمال و النبل، لكنه يخلع جلده ليكشف لنا مدى نقاءه و صفاء سريرته، يجعلنا نراه من الداخل و نكتشف صفات الجمال و النقاء الذي يخفيه برغبة منه أو بدونها، أصبح يُرَى مظلمًا لا توهج و لا ضياء، كئيبًا، حزينا و شبه ميت . كثير من الناس و الشاعر من بينهم مع الواقع المر و أحداثه أصبحوا يَرَوْن بمنظار أسود لا نور يتخلله و لا ضياء، يفتقدون للبهجة و الفرح . و هذا كله يدفع الشاعر للبحث عنهما في الكتابة عالمه المضيء ، الواسع و الرحب الذي يلتجئ إليه كلما زادت الضجة والإزدحام داخل قلبه و أحسَّ بالإختناق .
من خلال القصيدة ندرك أن الشاعر محمد صوالحة فقد نفسه منذ غادره مخاطبه فهو دائم البحث عنها، لا يكاد يجد نفسه إلا من خلال اللآخر. وإحساسه و رغبته في العُرِي تمخضت عن تجربته مع الألم، تجربة معاناة قاسية فقد فيها الكثير وخسر فيها الكثير فهو الآن يكشف عن نفسه كي لا يخسرها و لا يضيعها.
و كي يلتقي بمخاطبه عليه أن يخلع عنه جلده، أو بمفهوم آخر يتعرى من نفسه ليلبس الآخر هذا الأخير الذي يوجد بمكان لا حاجة فيه للثياب، و لا حتى لجلد يستر به نفسه، هناك كلهم عراة، بعضهم لباسهم نار و آخرون لباسهم نور وتقوى. و الشاعر كي يذهب حيث يريد عليه أن يتعرى من نفسه ، تبعاته و ذنوبه أيضا، عليه أن يرتدي لباس الطهر و النقاء، لباس التقوى.
فهناك ثنائية قائمة بين فعلي *التعري و الإرتداء* لكن المفهوم الديني يقوم على فكرة إبطال الثنائية القائمة بينهما على أساس أن العُري أو التعري لا يناقض الإرتداء ، بل هو وجهها الآخر فالدين يؤكد على فعل اللبس و إن كان من غير ثياب، فالمؤمنون لباسهم ليس ثياب بل نورا و تقوى، و لباس أبينا آدم و أمنا حواء لم يكن ثيابًا، عندما كانا في الجنة غفِلا عن معنى العورة، و قد جاء على لسان وهب بن منبه (٤) وغيره”كان لباسهما النور” و بعد أن أزلّهما الشيطان و أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما كما جاء بالنص القرآني قال تعالى: ((فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)) (١) وقد اختلف أهل العلم في حقيقة لباسهما قبل المعصية، بعضهم يقول أنه كان من جنس الأظفار ، وبعضهم قال أنه كان نورا، وبعض آخر قال أنه كان من لباس الجنة.
وقال السعدي (٢) :{ فَدَلاهُمَا } أي: نزلهما عن رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها، فأقدما على أكلها { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } أي: ظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في اللباس الظاهر، حتى انخلع فظهرت عوراتهما، ولما ظهرت عوراتهما خَجِلا وجَعَلا يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة، ليستترا بذلك . وقال مجاهد (٣) : “نزع عنهما لباس التقوى”
و الشاعر محمد صوالحة بنزعه أو خلعه لجلده، فهو اختار الخلع على النزع لما فيه من أثر بليغ و عميق في ذاته، فهو يعطي مفهوم التجرّد، يعني تجرّٓدٓ من جلده، لم يُبقِ منه شيئًا.. وكأننا به يخلع ذنوبه و آثامه ليلبس لباس الطهر، لباس الصفاء و التقوى، يخلع كل ما يمكن أن يشده لهذه الدنيا ليصعد للسماء مرتديا رداء البياض وعطر البياض، فهو عندما اختنق و اشتد عليه الألم -ألم الفراق- اختار أن يلبس غائبه الذي جعل له صفات يتصف بها فشبّهه بالضياء و النور لصفاء سريرته فهو على ما ذكر الشاعر كان طاهرا، نقيا، واضحا … و شبهه أيضا بالغيمة في عطاءها و في البهجة التي ترتسم على كل من رآها لأنها رمز للغيث و الخير، لهذا جعل من غائبه غيمة فهو معطاء، سخي و محب، يعطي بحب و حنان لا يوصفان . اختاره غيمة تطير به حيث هو، حيث البياض و عطر البياض . و كأننا نراهما أمامنا بمكان كله بياض يسطعان من بعيد لا سواد، لا دخان، ولا ألم .
فالشاعر من كثرة ما تعب من نفسه، من آلامه و واقعه، جعل يبحث لنفسه عن مخرج، عن مفر، عن طريق توصله حيث يريد .. و لم يجد طريقة أضمن و أسهل من الغوص داخل نفسه و البحث فيها عن مكان مضيء مشرق يجد فيها كل ما يريد و يحضر فيها كل غائب .
إن الحب الذي يجمع بين شاعرنا ومخاطبه كبير لدرجة أنه استطاع أن يغيره و يجعل منه إنسانا آخر يبحث في نفسه عن صفات مخاطبه”غائبه” ليتحلى بها فهو يرغب أن يصبح مثله مثل مخاطبه ليس شكلا بل مضمونا و إن خلع جلده .
فالحب الذي لا يغيرك للأحسن و لا يطهر قلبك ليس حباً، الحب الطاهر النقي يطهر القلوب من كل شيء، يجعل الإنسان نقيا ، يغسله و يطهره، يعيد ولادته من جديد. و الشاعر بخلعه لجلده وكأنه يولد من جديد يخلع شخصا ليلبس آخرا وليدا جديدا، يلبس نفسه في شخص آخر يحبه كثيرا، كيف لا يلبسه و لا يحاول التمثل به وهو من كان سببا من أسباب وجوده، هو من جعل منه ماهو عليه الآن، هو من علمه معنى الحياة و معنى الحب . فالحب طهر و نقاء، و الشاعر عندما غاب عنه مخاطبه افتقده لدرجة أنه أصبح ضائعا من دونه، كان سنده في هذه الدنيا، وعينُ البصيرة التي يرى بها ( افقأ عيني .. واستعير شمس عينك) فالشاعر يعبر عبر لغة رمزية شديدة الغرابة لكنها بنفس الوقت شديدة البساطة، فهي مُبَسّطة لدرجة أن القارئ العادي يفهمها أو يفهم منها ما يظهر له بسطحها، فسطحُ القصيدة يبدو بسيطًا لكنه أعمق من العُمقِ نفسه، فما خفي لا يمكن استقراءه بسهولة ، فهو يتطلب الحنكة و الخبرة والمعرفة، أي الإلمام باللغة و أسرارها .
يرغب الشاعر في أن يفقأ عيناه و يستعير -ليس عينا الغائب- بل شمس عينيه، بصيرته و معرفته للأشياء و حكمته في فهم الأمور واتخاذ القرارات . كل هذه الأشياء يتصف بها هذا الغائب الذي كانت له تجارب حياتية كبيرة . و الشاعر يستعير هذه الشمس لتضيء يومه وتبدّد ظلمة و عتمة روحه، فهو الآن تعتمت الدنيا بعينيه و كأننا به لم يعد يرى إلا بمنظار روحه السوداء المعتّمة، فيقول :
تبدد ..
ظلمة يومي
وتصلب ..
عتمة روحي
شاعرنا لا يمكن أن يرى الواقع كما نراه نحن، فالواقع عنده متحوِّل حسب نفسيته و إحساسه، و الواقع الآن تحوَّل عنده ١٨٠ درجة بعدما فقَد والده رحمة الله عليه، أصبح واقعه فراغًا يؤلمه، يتعبه و يستنزفه .
وجوده بهذه الدنيا أصبح مؤلمًا فهو لا يمكنه رؤية نفسه إلا من خلال الآخر، و هذه الرؤية لا تتأتى و لا تتحقَّق إلا بالإبتعاد عن نفسه وعن الواقع، يبتعد بنفسه عن كل ألم، عن كل حزن باحثًا عن فضاء للسعادة يجد فيه جوابا لتساؤلاته التي لا تنتهي، هذه التساؤلات يحاول من خلالها فهم نفسه و التخفيف عنها، فيلبَسُ النص ثوبَ وعيٍ و إدراك يوصله إلى حقيقة كونه أصبح كهلا و كسيحا .. مخنوق بدمعة… و كأننا بتلك الدمعة محسورة لا تكاد تنزل ، تنحصر في حلقه و تسبِّب له الإختناق، فينادي ” يا أنت” و يسأل مناداه : *من يعيد له جنونه و ذاك المشاغب داخله*، فمنذ سنتين (منذ عمرين وأكثر)عندما توفي والده فقد الشاعر ضحكته و فقد الطفل المشاغب الذي يسكنه ، فقد كل شيء.. فقد نفسه. “منذ عمرين” ربما قصد بها سنتين، و ربما قصد بها عمره الأول الذي قضاه مع والده، و كان يناديه ” أبي” و الثاني بعدما غاب عنه في الواقع و الحلم أيضا عبر الذاكرة التي شُلَّت فلم يعد قادرًا على مناداته “أبي أو أبت” أصبح هذا النداء يؤلمه لدرجة أنه أصبح يخاطبه خطاب المخاطب الغائب ” يا أنت” التي يجدها قادرة على التعبير عن وجعه أكثر، وحدها تساوي بينه و بين غائبه، فلا يمكن أن يلبسه دون وجه مساواة بينهما، فلكي يلبسه عليهما أن يكونا متساويان ..”يا أنت” فرضت نفسها على الشاعر جعلته ينطقها و ينادي بها دون إرادة منه .
يا أنت ..
منذ عمرين وأكثر
أناديك ..
أنا الكهل الكسيح
المخنوق بدمعه
من يعيد إلي جنوني
وذاك الصغير المشاغب فيّ
إلاك
و يسأل ما إذا كان يفيد البكاء، ويجيبُ أن لا فائدة من الدموع أمام عجز النخيل، عجز السماء و موت التراب .. يعني أنه منذ مات والده، ترك المكان فارغا، أصبح كل شيء يفتقده النخيل و السماء و الأرض “موت التراب” أي أنه بعدما ترك داره و أرضه لم يعد هناك أحد يرعاها، يرعى النخل و الزرع، يرعى الدار بناسها، و يرعى الأرض و كل ما عليها من خيرات تتدفق هبة و عطاء بين يدي والده الذي يمدُّ يديه للسماء متوسِّلًا، داعيًا، راضيا و شاكرا .. أما الآن بعد غيابه كل شيء بات ميِّتًا و الشاعر من ضمن هذه الأشياء المتروكة افتقد اليد التي تراعاه ، تحنو عليه، و تمسح على راْسه، افتقد القلب الذي يمنحُهُ الحياة .
أأبكيك ..
وماذا تعني الدموع
إلا عجز النخيل..
وعجز السماء
وموت التراب ..
الشاعر مازال ينتظرُ عودته (الغائب) ليعيد له الحياة و يُطفئ وجعه ، و قد استعمل كلمة “يُطفئ ” لأنه أصبح يحسُّ النار مضمرة في أحشاءه بسبب الغياب، لم يعد يحتمل بعده وغيابه عنه، فقدَ صبره و فقدَ السيطرة على نفسه، فبعدما جعلنا نعيش في كنف القصيدة حالة من الصفاء و الطمأنينة، البياض والأمل . الآن يعيدُنَا إلى الإحتراق، الإشتعال ، الوجع و السراب ..
أمام الغياب
منذ عمرين وأكثر
انتظرك فجرا ..
يطفئ وجعي
ويعيدني حيا ..
بعد أن صار عمري
سراب ..
رغم كون الشاعر يعلم جيدا أن من أخذه الموت لا يعود، إلا أنه مازال يأمل في عودته و يطلبه بإلحاح، وقد لا يقصد عودته في عالمه الواقعي بل بعالم أحلامه، عالمه الإفتراضي الذي يلجأ إليه كلما اشتد عليه الألم .. كان يهرب من الواقع إلى القصيدة ليعيش الْحُلْم، و يُعيد ذكرياته ليعيش بعضًا من الفرح و السعادة، لكن الغريب بالأمر نجده هرب من وجعه بواقعه إلى القصيدة ليعلن عن وجع آخر بطريقة مقلقة، وجع يجمع بين المتناقضات ( بياض – ضياء – شمس – فجر – غيمة – الصغير – المشاغب – حي … # ظلمة – عتمة – وجع – كهل – كسيح – مخنوق – دمعة – موت – سراب …) وجع كله ألم، احتراق و اختناق .
فأصبح الوجع الذي يخفيه بواقعه مُعلَن عنه بالقصيدة ، وجعه يملأ أركان القصيدة بعدما ملأ كيان الشاعر، وجعٌ يثبتُ الشاعر من خلاله وجوده، فهو أصبح مفقودًا و لا يظهرُ إلا بظهور الألم . أي أنه لا يحِسُّ وجوده الفعلي إلا من خلال الوجع .
هكذا يحاول الشاعر الإبتعاد عن كل شيء، عن العالم، عن نفسه التي فقدها و لم يَعُد يجدها إلا من خلال الكتابة، التي يحاول بواسطتها الغوص داخل ذاته و البحث فيها عن مكنوناتها، عن كل الأشياء التي ترهقه و من ضمنها الغياب .
الشاعر يتخد من الوجع مطيّة للتواصل مع نفسه و مع الآخر، فهو الآن لم يعد يتواصل مع نفسه مادام يفتقد الاخر، ولا يمكنه تحقيق نفسه داخل الآخر إلا بفعل “الخلع” الذي يسهل عليه ارتداء الآخر و التمثل في شخصه، و الإتحاد معه، هكذا يهيء لنفسه إطلالة جديدة يعبِّر من خلالها بصدق عن ذاته ورغباته و كل الأشياء الدفينة التي يخفيها عن الملأ و لا يعلنها إلا في القصيدة من خلال فعل الكتابة أو “الخلع”. منذ بداية القصيدة و الشاعر يعلن عن خلعه لجلده كرؤيا شعرية يحلم فيها بالإنعثاق من قيود الحزن، الألم و الوجع و الإنغماس في الآخر جاعلا منه رداء و موطنا لرؤياه التي تحلم بالبياض و التجلي، تحلم بعالم لا مدرك لكنه يظل ممكنا يتجاوز فيه الشاعر المرئي والمألوف والمحسوس.. عالم يصبح فيه الإنسان أبيضا ، متوهجا ومضيئا أكثر، وفي إعلان صريح وضمني إلى التجدد والولادة من جديد، ولتحقيق هذا يرقى الشاعر بالقصيدة إلى مرتبة أرقى و أنقى حيث يحقق مبتغاه الذي ينشد فيه العودة إلى أصل الأشياء و جوهرها، يعود إلى نفسه يعود للحياة .
————————–
هوامش:
(١) {الأعراف: 22}
(٢) هو الشيخ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي من بني تميم ويعرف اختصاراً ابن سعدي (1889-1956) ولد في بلدة عنيزة في القصيم يوم 12 محرم عام ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية، وتوفيت أمه وله من العمر أربع سنوات وتوفي والده وهو في السابعة، فتربى يتيماً ولكنه نشأ نشأة حسنة، وكان قد استرعى الأنظار منذ حداثة سنه بذكائه ورغبته الشديدة في التعلم، وهو مصنف وكاتب كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
(٣) مُجاهِد بْن جَبْر (ويُقال: جُبير) (21-104 هـ – 642-722م) مولى السائب بن أبي السائب المخزومي القرشي. ويعرف اختصاراً في المصادر والكتب التراثية بمجاهد. وهو إمامٌ وفقيه وعالمُ ثقة وكثير الحديث، وكان بارعاً في تفسير وقراءة القرآن الكريم والحديث النبوي.
(٤) المؤرخ وهب بن منبه هو وهب بن منبِّه بن كامل بن سيج بن ذي كبار (34 هـ – 114 هـ) هو تابعي جليل، له معرفة بكتب الأوائل وإخباري قصصى يُعد أقدم من كتب في الإسلام. كان ممن قرأ الكُتب ولزم العبادة وواظب على العلم وتجرد للزهد. وعدّه أصحاب السِيَر من الطبقة الثالثة من التابعين. قال الذهبي عنه: ورِوايته للمسند قليلة، وإنما غَزارة علمه في الإسرائيليات، ومن صَحائف أهل الكتاب . روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومحمد بن ماجة في التفسير.