بقلم: د.منال الشربيني
كان لنا وقفة حقيقية أمام المسلسل الرمضاني” حبيب الله، الذي أخذنا منذ انفتح ” التتر”إلى عالم الصحراء، حيث دارت أعظم الحواريات السردية على وجه الأرض، وعلى الإطلاق، واحتلت بهجة الألوان مساحة الصحراء،لتكسر حدتها، في إيحاء هايل يسري في مخيلة المتلقي بسلاسة مع كل حلقات المسلسل لينتهي بنا إلى لوحة حية للصحراء، خلقتها الأحداث والرسالة المحمدية، فبدت الصحراء مغايرة لما كانت عليه في أعمال سابقة تناولت تلك الحقبة من التاريخ، وجاءت الشخوص حقيقة لافتة، وجاءت ملابس الشخصيات متناسقة بهية، تعكس ضمنا بهاء أحداث الحقبة، الذي يزداد بريقًا يومًا بعد يوم، طوال حلقات المسلسل، ليوحي للمتلقي ببزوغ صحراء أخرى، بهية، تُربِّت على قسوتها الرسالة المحمدية، والتي نجح الإخراج البديع، في نقل المتلقي بين المشاهد، بسلالسة منقطعة النظير، فلم نشعر بالنقلات بين المشاهد بعضها البعض، وكأنما هي لوحة تجري حوادثها بولوج الليل في النهار، وانبثاق النور من الظلمة، وجاء العمق البصري ” depth of field” خاليا من الارتباك، حيث اهتم مصمموا الجرافيك، بتفاصيل التفاصيل، سواء في أداء الشخوص لأدوارهم، أو في تناسق تعبيرات لغة الجسد، حيث تزامن بكل حرفية زمن الحركة في المجمل، ليمنح المتلقي صورًا حياتية حية مع مرتبة الشرف، الا المشاهد الأولى كانت لتكون قمة في الثراء لو انفتحت على مشهد صراع ما، أو مشاحنة ما، أو ربما إحدى المعارك، كي يخرج الأمر عن التقليدية في افتتاح الأعمال التي درجنا على رؤيتها طويلًا. أما على الصعيد اللساني والخطابي واللغوي، وهي العناصر التي تنبني عليها الأعمال المرئية، أو المسموعة، أو المقروءة، فقد أدهشنا السيناريست” محمد هلال البيلي” بلغة سلسة، سهلة، طيعة، و رقراقة، تدفقت معبرةً عن حقبةٍ زمنيةٍ خطيرةٍ، ومهمة، في حياة الصحراء، بما لها، وما عليها،ومن هنا، نرى بوضوح قدرة ” البيلي” على الصياغة الجيدة، والإمساك بزمام اللغة، وتطويعها بما يتفق والزمن والأحداث، وأرى أنه نجح أيضًا في توصيل الرسالة بشكل معاصرٍ، متجددٍ، ومجدَّدٍ، حيث كان ممتازًا في توصيل المعاني الفرعية، والضمنية، للغة الحوار، كما أجاد في تشكيل المسكوت عنه في اللغة ببراعة متناهية،وكانت عباراته ذات مفهوم دلالي، وفرعي واضحين، مما يجعلنا نرى أن بإمكانه مخاطبة الوعي الإنساني بلغة يمكن للمتلقي البسيط التفاعل معها سلبًا، وإيجابًا، ولقد نقلنا” البيلي” بالفعل بلغته الفصيحة السلسة، مناقشةً، وعرضًا، وشمولًا إلى توقع انفراجةٍ في لغة الخطاب الموجه للمتلقي العادي، الذي تلوث سمعه وذوقه العام من فرط ما اجتاح الشوارع من لهجة هابطة في كل بقعة من المكان، بأسلوب راقٍ، يمكنه معه الاقتراب من اللغة العربية، التي يتم ذبحهاعلى مدار اللحظة، على كل المنابر- منابر أهلها- في كل مكان، ليكسر بذلك” محمد هلال البيلي” ما عهدناه من قبل، من لغة قاسية وقديمة، فيما عدا بعض الألفاظ التي كان من الممكن الاستغناء عنها، أو ابدالها بمرادفات أقرب للمتلقي العادي، فالخطاب هنا خطاب أيديولوجي، روحاني، والمتلقي يستقبل الخطاب بفرحة المتعبد، الباكي أحيانا، والمكبر كثيرا، والمفاخر بدينه دومًا، يدفعه حبه لسيد الخلق لأن يجلس متعبدا بين يدي سيرته الزكية، أذكر على سبيل المثال لفظة” نُقلة”،وأراها ثقيلة على السمع، وكان من الممكن تفاديها بلفظة” تحولًا”، الدراج سماعها، لدى المتلقي العادي، أما من الناحية ” المفهومية” والدلالية” فقد جاء الخطاب السردي موفقًا بدرجة ممتاز، لولا ” الأفورة في التمثيل” والتي حملها إلينا صوت الممثلين، حيث جرت لغة” البيلي السلسة”، على ألسنة الممثلين ثقيلة من فرط ما منحوها من ” استرسات”، فبدا واضحا للغاية بطء الحوار، ورتابته، الأمر الذي لم يختلف كثيرا عن تيمة الأداءالحواري القديم الذي اعتدنا سماعهفي مسلسلات دينية سابقة، مما ابتعد في غالب الأحيان عن ” مقتضى الحال، ولغة “البيلي” الرائعة السلسة، وربما أضرت أحيانا بجمال لغته المبدعة، ّذلك على المستوى الصوتي ، أما على المستوى الصرفي واللفظي فقد أجاد كل طاقم العمل دوره بحرفية علينا أن نشيد بها. وإن كان المسلسل قد جذب في غالب الأمر الفئة العمرية حتى سن ” السادسة عشر” بشكل مبهر، ذلك لرتابة اللغة المتحدث بها من قبل المؤديين، فإننا نرجو في الأجزاء المقبلة ان تتم مراعاة حيوية اللغة بكل دقة حتى تجذب الفئات العمرية بين” 18-30″، والتي بها ينبني وعي الأمة، ولسان حالها، وضميرها، وهي أمور يرى جميعنا أنها تمر بمأزق حقيقي لا بد له من وقفة، واعتقد أن ” البيلي” ” ضرب كرسي في كلوب الجمود اللغوي”، فله كل التقدير. تلك تحيتي للحوار الذي انبني عليه مسلسل” حبيبُ الله”، أنحني احتراما للغة الحوار الرائعة،والسينارست المبدع ” محمد هلال البيلي”، وأعتبره انفراجة لا بد من إتاحة الفرصة لها، كي تعزز من موقف لغتنا الجميلة التي يتعمد البعض تغييبها، والتي يعكس تغييبها تجهيل أمة ” الضاد.ولا بد أن نطالبه ببقية أجزاء لهذا المسلسل القيم. وأنحني لكل القامات الموقرة التي شاركت بجدارة في تشكيل المسلسل وتجسيده،حتى خرج بتلك الصورة البهية، أمتعتمونا على مدار الشهر الفضيل، وتميزتم بجدارة وسط كل الغثاء الذي شهده الشهر الفضيل، كل التقدير للسادة مصمموا الجرافيك، الأنيميشن، الممثلين، والإخراج المبهر والباهر والذين بحق، لولاهم لما خرجت لغة السيناريست الرائع بكل هذا البهاء والرقي، عمل مصري مميز بالفعل، لكم جميعا كل التقدير.