إنَّ نصّ محمد صوالحة لا يُقرأ بوصفه هروبًا من الذات، بل هو نزوعٌ قسريٌّ نحو جذرية المكان. فقد لا تكون الكتابة عند محمد صوالحة هلوسة بقدر ما هي حالة “جذبة” صوفية تدفع السارد إلى محراب المدينة، متحررًا من وهم الرؤية العقلانية المُستهلكة. فهلوسة الشارع، ليس نصّ هروبٍ عادي، لأنه يمثل نزوعًا قسريًّا نحو جذور التعري، و هواشتباكٌ وجوديٌ عنيفٌ مع النمطية الخادعة. حيث أن الأديب محمد صوالحة هنا، لا يكتفي بملل النوم، بل يتجاوزه لكُره الأحلام المتكررة، وهي دلالة على اغتراب الوعي عن سرده الأصيل، و رفضٌ للتواطؤ مع دورة الروتين المُملة والقاتلة.
منذ الوهلة الأولى عندما نحاول التوغل داخل المقروء نجد اللامقروء يبسط ذراعيه مُشرعة معلنا عن التمزق الأول. فرفض النوم وكراهية الأحلام المتكررة هو اغترابٌ عن بيت الوعي الذي أصبح قيدًا، و تمرّدٌ على زمن السرديات المُلزمة. حيث أن ركْل السرير هو إعلان عن هجرة داخلية ترفض التواطؤ مع الرتابة، وتفضح عجز اللغة العادية (كلمات لا تستطيع إصلاح ما بتر منها) عن ترميم جراح الروح. ففعل ركل السرير وبعثرة ما عليه يُشبه ما يسميه المتصوفة الخرق، إنه تمزيق لحجاب الألفة والاعتياد. ثم بعدها تأتي صدمة الغرابة أمام المرآة، حيث يرى محمد صوالحة ملامح جديدة، لا يتعرف عليها، فهو أمام المرآة لم يعرف الشخص الذي أمامه لأن هذه الأخيرة تعكس ملامح أخرى لا يعرفها .. فهو بقدر إصابته بصدمة عدم معرفته لنفسه بقدر دهشته لمُواجه تشكّلاته اللاواعية، تمامًا كمن يخرج من ذاته ليشاهدها في كل قبحها و تيهها. هذا التمزق الداخلي يجد خلاصا في التعري الطقسي. حيث أن صوالحة هنا يذهب إلى الشارع ليمارس التعري من خُبثه و وساوسه، متخذًا من الشارع زاويته الروحية التي تفرض عليه فعل التجرد.
وهكذا، تصبح المرآة لا أداة للتعرف، وإنما ميدانًا لصدمة الغرابة، حيث لا يعثر السارد على وجهه المعهود، بل على ملامح جديدة تُشيّر إلى التحوّل الباطني القادم.
وتتمثل الرؤية العميقة في تحويل المدينة إلى موضوع عشق و كائن يحتضن. أما الشارع في هذه الحالة فيتجرد من كونه فضاءً لعبور الخطى، ليتحول إلى زاوية روحية، تتلقى شكوى السارد و معاناته. فهو هنا ذاك المعشوق الأزلي و الكينونة المُتسامية التي تحتضن خطى السارد و جنونه، مُلغيًا سلطة اللغة التواصلية التي تعجز عن إصلاح ما بتر منها.
ويتحول الرصيف لشيخ مُرشِد ينادي، ويهمس بكلام ليس مسموعا، بل مُتلقّى بالقلب. وهذا هو فقه الاحتواء الذي يُمارسه المكان على الذات المنهكة، حيث يمنحها الطمأنينة ويعيد لها الطفولة المفقودة. والطفولة لا تمثل ماضيًا زمنيًا، لأنها في أصلها حالة أصالة و جنون مُطهِّر.. طفولة تُعيد للذات براءتها وخصوبتها الإبداعية. حيث أن صوالحة يستعمل الرصيف كرمز للأصالة غير الفاسدة التي ترفض أي تكريم مُزيف و تبحث عن الطين المتحرك القابل للخطأ. هذا الطفل هو الذي يمنح النشوة و يزرع قصيدة الأمس وترتيلة الآتي.
ويبلغ التجلي ذروته في الكتابة كوشم روحي. فأن تُنقش الكلمات على الكفّ والصدر و جبين الرصيف، هذا يعني أن الجسد والمكان أصبحا نصًا واحدًا. حيث يبلغ الإفصاح ذروة اللذة في فعل الكتابة على الجسد والمكان. كتابة تنقش كوشمٌ وجوديٌ يُمارس لذة الإفصاح والخطيئة المشتهاة. هذه الكلمات لم يوجهها الكاتب للقارئ ولم يفكر بذلك لأنها تعكس سرّ المحراب الذي لا يقرؤه إلا السارد والرصيف وسيدة العشق أميرة القلوب عمان. هنا، تتحول عمان من عاصمة إلى الأم الكبرى Magna Mater، أو إلى مقام الوليّة الصالحة التي تُعيد توجيه الجنون وترشد إلى الطفل الذي تاه. فتصبح عمان مقامًا روحيا يستمد منه الشاعر والكاتب محمد صوالحة قوته وجرأته ليقول كل الأشياء المسكوت عنها.
ويظل التناقض الكوني هو جوهر الرؤية التي يحاول محمد صوالحة التعبير عنها، فدلالة اللونين الأبيض والأسود على حجارة الرصيف تمثل جدلية العماء والوضوح، وهي الثنائية التي ترمز لثقل الحياة (الأسود) والسعادة الوشيكة (الأبيض). والسر يكمن في الجدلية المُشَكَّلَة من رمزية الألوان، فالأبيض والأسود والأصفر ليست صبغات أو طلاء بألوان عادية، بل هي مكونات الذاكرة الجمعية للمدينة. فتضمين اللون الأصفر إلى جانب الأبيض والأسود في حجارة الرصيف ليس اختيارًا عفويًا، بل هو تأكيدٌ لشرط الحصاد والمجازاة الوجودية. فالأصفر يشير لموسم الحصاد، وهو تقليديا يرتبط بالزرع الذي بلغ مرحلة النضج، وهو ما يجعله رمزا للنتيجة أو الثمرة التي تُجنى. فنحن لا نحصد إلا ما زرعناه في الماضي.
هكذا فإن الأصفر، كرمز للنضج وبلوغ الثمرة، يجعل الرصيف يتحول إلى رحى الحصاد، حيث لا يزرع محمد صوالحة قمحًا ماديا، وإنما يزرع خطواته وجنونه الصادق عبر سنين التيه. وعندما يرى اسمه مكتوبًا على الحجارة، فإنه يحصد اعتراف المكان بوجوده وبصدق تجربته الداخلية. هذا الحصاد هو ثمرة التعري الروحية التي مارسها كاتبنا عندما رفض النمطية و واجه عيوبه، مما يجعله يستحق أن يجني النشوة والتحليق كجزاء لهذا الإخلاص الجذري للذات. فوجود الأصفر إلى جانب القطبين المتناقضين (الأبيض للنشوة والأسود للفناء) يجعل منه نقطة فاصلة تدمج التناقض، وهذا تجسيدٌ للحالة التي يتم فيها توليد الفرح والتحرر من معاناة الماضي. وبالتالي، فإن الأصفر على الرصيف لا يعتبر لونا حياديا، بل هو توقيعٌ كونيٌ يؤكد أن النشوة التي يشعر بها هي استحقاقٌ نابعٌ من صدق رحلته الداخلية، وأن الشارع يمنح هداياه لمن زرع فيه خطوات العشق والجنون الصادق، خطوات الفرح، الحيوية والحياة. فالارتكاز على ثنائية الأبيض والأسود يقود لفهم العلاقة بين هذه التضادات الكونية. وهذا يُمثّل تجاوزًا للمنطق الثنائي الذي يحكم العالم المادي. إلا أن الفرح لا يأتي من فهم هذه الثنائية، بل من قبول التناغم الكوني بينهما. حيث أن شاعرنا محمد يطير به الفرح إلى فضاءات أخرى، متحررًا من الحلم الكاذب الذي يظن أنه قد مات.
ويُختتم النصّ بمحراب خاص لا يدخله إلا من اغتسل بالندى وتوضأ بدمع لا يشبه الدمع، وهو تأكيد على أنَّ هذا الاتحاد مع المكان هو طقس تطهيري لا يدركه إلا الخاصّة. فالشارع في النهاية ليس سوى مرآة مُطلقة، تعكس الروح الكونية لصوالحة وتُعيد صياغة كيانه انطلاقا من حضن المدينة التي ألهمته فن الكتابة اليوم وبالأمس وفي الآتي كطقس من طقوس الحياة.
“تأخذني النشوة وهو يرسم صورة للونا إبنة الليل الذي أعشق، وأخرى لسما … وأغرق بحلم جديد.” إن هذه الفقرة الختامية في نصّ محمد صوالحة هي نقطة الإرساء بعد عاصفة التعري والهلوسة، وهي تمثل صعودًا روحيًا يتجاوز حدود المكان المادي ليبلغ محراب الأنثى/المدينة المُقدسة في زمان اللاّزمان، زمان لا يوجد إلا في ذاكرة المدن العريقة … هنا في هذه الذاكرة، ذاكرة عمان و رصيفها الحاتمي الكرم، لا يتلقى الشاعر والكاتب محمد صوالحة هدايا من الرصيف فحسب، بل يتم اصطباغه بوجودٍ أنثويٍ جديدٍ يمثل الخلاص من سُلطة الواقع المُلزم. حيث تأخذه النشوة لا عبر حالة انفعالية، لكن عبر تجسيد فوري للخلق والإلهام. فالرصيف، بوصفه الشيخ المُرشد وكائن الذاكرة، يتحول إلى رسّامٍ من عالم آخر، رسّام يجسّد النساء بريشة من سحر (لونا، سما، وحسان أخر) نساء يمثلن النماذج الأزلية Archetype للقوة والإحياء. فلونا ابنة الليل هي رمز الغموض والخصب واللاوعي، وهي الأنثى التي تقترن بالليل الذي يعشقه محمد صوالحة. هذا العشق ليس للظلام، بل للقوة السرية التي تنبع من الخفاء، تماما كما تنبع الكتابة من اللاوعي المُعلن. أما سما رمز العلو والارتفاع، فهي التي أنعشت أحلامه. وهي الأمل الذي لم يفسده التكرار، والوعد بأن هناك دائما سرديةً جديدةً تنتظر الولادة.
أما باقي الحِسان اللواتي لم يُعرَفن يُمثلن الإمكانية غير المحدودة .. فهنّ تجسيد للجنون والإبداع الذي لم يُكتشف بعد، وهنّ يكملن مشروع التحرر من قيد الاسم والهوية والمرجع.
ويُتوّج هذا التجسيد الأنثوي في جمل “حيث أنت تقيمين بمحرابك”. هذه الـ “أنتِ” بالإشارة إلى المرأة المُبهمة الجامعة لكل شيء والتي فيها كل ما يحبه أديبنا ويسعى إليه، هي عمان المُقدسة أو القصيدة الخالصة، أو الكتابة بالمشاعر .. هي منطق اللامنطق في محراب المنطق .. أو الحقيقة ذاتها دون تشويه. حيث يتحول المحراب إلى مقامٍ صوفيٍ له شروط دخول صارمة.
والاغتسال بالندى ليس ماءً عاديا، بل هو الماء الطاهر النقي الذي يرمز إلى التطهر من دنس الدنيا والسرديات المُلوثة. إنه طقسٌ لإعادة تشكيل الطين. والتوضؤ بدمع لا يشبه الدمع، هو دمع مُصفّى، دمع الندم على الخطيئة والخطأ المُرتكَب في سجل البشرية .. أو دمع الخشوع العميق الذي يتجاوز البكاء العادي ليصبح إقرارًا بالتوبة الروحية. هنا، وكما عوّدنا محمد صوالحة في كتاباته السابقة نجده يمارس فعل القبح بكل تمظهراته ليتطهر منه ومن قبح العالم.
وفي الختام تنتهي بنا الرحلة بفعل الاتكاء على حافة الرصيف و الغرق في حلم جديد. هذا الاتكاء هو استقرار بعد التيه، وإعلان عن الرضوخ الطوعي لسلطة المكان. فالحلم هنا لا يُكرر الماضي، بل هو حلم مُبتكر يُولد من رحم التطهير والاتحاد بالأنثى/المحراب. إنه ولادةٌ لسرديةٍ جديدةٍ للذات التي وجدت حقيقتها في كونها نصا مكتوبا على حجارة الشارع المقدس. “هلوسة الشارع” هو تعبير عن ممارسة فعل القبح بكل أبعاده الخفية أمام النفس، ثم إعلانه على الملأ في شكل نص، ليصبح الشارع هو المرآة الحقيقية التي تُجبر محمد صوالحة على التعري ونزع الزيف، وإدراك الخراب المبهرج الذي يحيط به، قبل أن يغرق في حلم جديد على حافة الرصيف، حلم لم يُخضعه بعد لعجلة الزمن الميتة.
أحمد وليد الروح
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية