يقول الشاعر جداية:
“عيناك مرآتان يا امرأة
عيناي
فصل للشتاء
والقلب فصل للربيع
وأنا الجنون بموسم الزيتون
في فصل الخريف
والشمس فينا ذات صيف”
قد يمر القارئ بهذه الكلمات مروراً عادياً، يلمس جمالاً ويمضي، لكن من أراد الإبحار في مخيلة الشاعر سيلمس جمالاً وإحالةً غير عادية. من هنا سأقف على هذه الكلمات البسيطة وقوفاً متعمقاً في الشرح، علّي أصل إلى مخيلة جداية الخصبة.
يقول جداية
عيناك مرآتان يا امرأة
استهل جداية هذه المقطوعة الشعرية بالعينين، فقال “عيناك مرآتان” وكما يعلم الجميع أن العينين هما سرُّ الجمال والغزل عند الشعراء، ولكن جداية هنا رسم صورة أخرى للعينين، فقال مرآتان، ونفى عنهما ما اعتاده الشعراء من غزل، ثم قال “يا امرأةً” فأتى بأداة النداء ثم أتبعها بلفظ نكرة، وهذا يؤكد سخط الشاعر على الموصوفة، فالمجيء بنكرةٍ يفيد التهكم وإنكار ذات الموصوف.وكأنه أضاف شتاءً آخر إلى شتائه ، والصورة الأعمق في الشطرين هو انعكاس شتاء عينيه المثقل بالدموع والحزن في عيني المحبوبة التي سخط عليها بإنكار مشاعرها وذاتها في ذاته، فرسم في عينيها شتاءه بعد أن عاشه بنفسه وهذه حالة نفسيةٌ عميقة عبّر عنها جداية بطريقة مذهلة بسيطة معقدة.
ولكنه لم يكتف بذلك، فقال:
“والقلب فصل للربيع” نعلم ان واو العطف تفيد الجمع والمشاركة، فكيف استطاع الشاعر أن يجمع الألم الذي يعيشه مع حالة الزهو والاخضرار في قلبه الربيعي، هنا أستطيع أن أقول على الرغم من كل السخط الذي تملَّكه الشاعر إلا أنه يحتفظ بقلب عاشق مخضر الأرجاء، مهما بلغ الغضب به فإنه مليء بالحياة والمحبة، ولا تغيره تقلبات الفصول، ونلاحظ هنا أن اتبع الشتاء بالربيع بتراتب الفصول الطبيعي.
ثم جاء ليقول وينقلب في ذات أخرى “وأنا الجنون بموسم الزيتون، في فصل الخريف”
لماذا أعادنا جداية إلى الخريف وخالف ترتيب الفصول؟
من المعلوم أن موسم الزيتون في الخريف، وهذا جنون الزيتون المعتاد، إذ اعتدنا أن أغلب أنواع الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف وبعضها يثمر في الشتاء، لكن الزيتون يبقى شامخاً في الخريف، لا تنحني أوراقه بل يعاند ويقاوم ليثمر في هذا الفصل الذي يرهق الشجر والحجر والبشر، وهذا هو جداية الشاعر المفعم بجنون العشق الخريفي المثمر، وهذه صورة إبداعية عميقة فيها إحالة واستحضار قرآني بديع، لهذه الشجرة المباركة التي أقسم بها رب العزة في (سورة التين)، وكأنه أراد بأن هذا الجنون له قدسيته في القلب.
ولكن الخاتمة جاءت على غير المتوقع.
عندما قال: “والشمس فينا ذات صيف”
وهنا تتشكل لوحة بديعة من الشوق الذي عبّر عنه الشاعر بلهيب شمس صيفية حارقة، رغم كل ذاك السخط والتناقض في المشاعر، إلا أنه يؤكد أن الشوق ساكن في قلبه وقلب المحبوبة كشمس صيفية.
ولكن أي صيف قصده جداية، لقد أتى بها غير معرفة، مع أنه عرّف الشمس، فهو شوق واحد ولكن حرارته ولهيبه يختلف بينه وبين تلك المحبوبة التي قصد، فكل منهما يتمثل صيفه، وهذا يؤكد أن درجة الاشتياق بينهما متفاوتة.
مقطوعة صغيرة تحمل كل هذه المعاني والتفسيرات، هي مقطوعة بديعة لا يستطيعها إلا شاعر يمتلك خيالاً شعريا كبيراً.