لآفاق حرة
قراءة نقدية لنص “لحظة ذهبية“.
للروائي والناقد السوري محمد فتحي المقداد.
بقلم: حسين سالم صالح الوحيشي. اليمن
يمكن تصنيفها على أنها قصّة قصيرة في فن الخيال الأدبيّ، وذلك لأنّ القصّة تحتوي على أحداث خياليَّة ورمزية، وتُركّز على الرِّسالة، أو المعنى الذي يحمله النصّ، بدلًا من الحبكة الدراميَّة الكبيرة، أو تطوُّر الشخصيَّات.
وبما أنّها قصّة قصيرة تحتوي على رسالة ومعنى عميق، فإنّها يُمكن أن تصنَّف أيضًا كقصة قصيرة في فنِّ الأدب الرمزيِّ، أو الأدب الفلسفيَّ.
*الأوقات:
وقت الدّوام، المساء وقت النَّوم الذي لم يستطع النَّوم فيه، اليوم الثاني، حتّى المغرب وقت ذهاب الشَّمس، فصل الخريف. في رواية “لحظة ذهبيّة“، يتمّ اِسْتخدام الأوقات المذكورة في القصّة؛ لإبراز المزيد من الرمزيَّة والمعاني؛ فالوقت المذكور خلال الدَّوام يرمز إلى الرُّوتين اليوميّ، والحياة الرَّتيبة. التي يعيشها الموظَّف الشَّاب في عمله، ويعكس الوقت المذكور في المساء وقت النوم، الذي لم يستطع النَّوم فيه. حالة عدم الارتياح، والقلق التي يشعر بها الموظَّف؛ بسبب التنمُّر، والاستهتار الذي يُواجهه في عمله.
ومن خلال ذكر اليوم الثاني، يتم تسليط الضُّوء على مدى تكرار هذه الحالة من التنمُّر والاستهتار، والوقت المذكور حتَّى المغرب، ووقت ذهاب الشَّمس؛ يعكس النِّهاية والانتهاء، والتحول الذي يحدث في حياة الموظَّف الشَّاب، حيث يتعلَّم كيفيَّة التَّعامُل مع المُدير المتنمِّر، والمواجهة والخروج من هذا الوضع.
أما فصل الخريف، فيرمز إلى المرحلة الانتقاليَّة بين الصَّيف والشِّتاء، ويمكن تفسيره كتشبيه لحالة الموظَّف الشَّاب الذي يواجه تحوُّلًا في حياته، ويخرج من فصل الاستهتار والتنمُّر إلى فصل جديد، فصل جَنْي الثِّمار من الثِّقة بالنفس والتحوُّل.
*الأفراد:
الموظَّف الشَّاب المُهمِل والمتكاسل، صاحب الملف المليء بِلَفْت النَّظر وبالإنذارات، “المدير عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يُلقي أوامره على الموظَّفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له، الوزيرُ مادام قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بِمَوْهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا“.
النَّاشِر المُتابع، والمتآمر المُزوِّر لإنجازات من مات. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النَّقد والتذمُّر من كثرة الأخطاء الإملائيَّة والنحويَّة غير راضٍ عن نفسه، ولا نجرؤ نسبة تذمُّره، لأنَّه يمكن أن يَدُسَّ السُمَّ بالعسل ، لابدَ أن نتملَّق له , مثل أن يكتب “خَلوةٌ في مَقْبرة“. في قصَّة الموظَّف الشَّاب الذي يعمل في مكتب حكوميٍّ، ويتعرَّض للتنمُّر والاستهتار من قبل مديره المتنمِّر.
والوزير الذي يُعطي المِنَح والمقابلات اللَّغويَّة، ويوحي الكاتب أنَّ المِنَح تُعطى، لمن يستحقَّها، وهذا يدل على وطنيَّة الوزير وجَوْدة السُّلطة الحاكمة.
على مدى أحداث الرِّواية، تتطوَّر شخصيَّة الموظَّف الشَّاب، وتتحوَّل من شخص خجول، ومُتردِّد إلى شخصيَّة قويَّة ومُستقلَّة، حيث يتعلَّم كيفيَّة التعامل مع المُدير المتنمِّر، وكيف سيوجِّهه، ويبدأ في التفكير في مستقبله، وفي اِتِّخاذ خطوات للخروج من الوضع الذي يعيشه.
أمَّا المدير المتنمِّر؛ فتظهر شخصيَّته بوضوح، كشخصيَّة شايب فاقدة للتفاهم والعطاء، وهذا يدلُّ على فساد في النِّظام الوظيفيِّ لا لِسُلطته، ويتصرَّف بطريقة مهينة تجاه الموظَّف الشَّاب، أمَّا الوزير الذي يُعطي المنح والمقابلات اللغويَّة؛ فيتمتَّع بسلطة كبيرة ويتصرَّف على طريقته.
أخيرًا، المُقتَحِم اللغويِّ، الذي يرى نفسه أفضل من الكُتَّاب والمؤلِّفين، يتميَّز بشخصيَّة مُتعجرِفَة ومُتحامِلة، ويحاول تصحيح أعمال الكُتَّاب والمؤلِّفين، وتحسينها، وتقديم نصائح لهم، بينما في الواقع يكون هدفه تعزيز ثقته بنفسه، وإثبات أنَّه أفضل منهم.
*الأماكن:
المكتب، البيت، على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ، حيث الأمواج والصُّخور المُتكسِّرة ، الغرق بعمق البحر، المطبعة.
في رواية “لحظة ذهبية“، تُستَخدَم الأماكن المذكورة في القصّة؛ لإضفاء الرمزيَّة، والتعبير عن حالة الشخصيَّات، والمتناقضات النفسيَّة والجنسيَّة.
في المكتب، تظهر الرمزيَّة النفسيَّة للحياة الرَّتيبة، والمُملَّة التي يعيشها الموظَّف الشَّاب، والتي تُضايقه، وتجعله يشعر بالقلق والتوتُّر.
أمَّا البيت، فتُمثِّل الرمزيَّة الجنسيَّة والأمان والرَّاحة، وتعبيرًا عن الرَّغبة الدَّائمة لدى الموظَّف الشَّاب في العودة إلى بيته والاسترخاء.
أمَّا المكان على الشَّاطئ، وعند حافة جُرف عميق، فتُمثِّل الرمزيَّة النفسيَّة للخطر والتحدِّي والمُغامرة، وتعكس الرَّغبة في الهروب من الواقع اليوميِّ، والبحث عن الحريَّة والاستقلاليَّة.
وفي المطبعة، تظهر التناقضات النفسيَّة والجسديَّة، هذا المكان ليصنع، ويطبع الكتب والمطبوعات، ولكنَّ هذا المكان يرمز أيضًا إلى القيود، والتحكُّم، والإجهاد الذي يشعر به الموظَّف في عمله.
أمَّا الغرق بعمق البحر؛ فيمثِّل الرمزيَّة النفسيَّة للغرق في الأحاسيس، والمشاعر، والصُّعوبات التي يُواجهها الموظَّف الشَّاب في حياته، وتعكس الرَّغبة في الهروب من هذه الصُّعوبات، والانغماس في العالم الخياليِّ والمجهول.
*الألفاظ والمعاني:
النشوة الحبور تغشاة، القُطر، إضبارته، لتطمر، جدال، التنسيب، مادام ، لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه: اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه . طين قاع البحر , الرمل على قاع البحر ، “خَلوةٌ في مِحْبَرة” رحاب العنوان
في رواية “لحظة ذهبية“، تستخدم الألفاظ الجماليَّة والحسيَّة؛ لتعبِّر عن المزيد من المعاني النفسيَّة والجنسيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، وخاصَّة الألفاظ ذات الصِّفات الحيويَّة الهلاميَّة. مثل البصق والتَّفْل، وطيب البحر، والخلوة في المحبرة.
في العبارة “النشوة الحبور تغشاه“, تستخدم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الشُّعور بالفرح والسعادة الذي يشعر به الموظف الشَّاب، عندما ينجح في تحقيق طموحاته.
وفي العبارة “القطر، إضبارته، لتطمر“، تُستخدَم الألفاظ الحسيَّة للتعبير عن الحالة المتوتِّرة، التي يشعر بها الموظَّف الشَّاب؛ بسبب التنمُّر، والاستهتار الذي يتعرَّض له في عمله.
وفي عبارة “جدال، التنسيب، مادام، لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية“، تُستخدَم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الحالة الدَّائمة للموظَّف الشَّاب في مكان عمله، حيث يبقى يتحدَّث، ويجادل في محاولة لتغيير الظُّروف السيِّئة التي يعيشها.
وفي العبارة “خَلوةٌ في مِحْبَرة“، تستخدمُ الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الحالة النفسيَّة للموظَّف الشَّاب، الذي يشعر بالوحدة والانزواء في مكان العمل، ويُعتَبر هذا التعبير رمزًا؛ للبحث عن الاِنْفراد والتأمُّل في الذَّات.
وفي العبارة “اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه“، تستخدم الألفاظ الحسيَّة للتعبير عن الحالة الجسديَّة للمُوظف الشَّاب، الذي يشعر بالتوتُّر، والتوتُّر العالي، ويصف هذا التعبير ردَّ الفعل جسديًّا بشكلٍ ملحوظ من جانب الموظَّف.
وفي العبارة “طين قاع البحر، الرمل على قاع البحر“، تستخدم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الجمال الطبيعيِّ، والأمان الذي يشعر به الموظَّف الشَّاب عندما يقف على الشاطئ، ويشير إلى الرمزيَّة الثقافيَّة للشَّاطئ كمكان للاِسْترخاء والاستجمام.
وأخيرًا، في عبارة “طيب البحر“، تستخدم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الجمال الرُّوحيِّ والرُّوحانيّ، والرمزيّة الدينيَّة للبحر كمصدر للسَّلام والتآلُف والروحانيَّة
.
*الحدث أو الانتحار:
يذهب إلى العمل، يُبشِّر بفوزه بالمنحة الثقافيَّة، الحصول على منحة، المشروع سيتفرَّغ بموجبه لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق ، يتذكَّر الماضي والروتين البائس، يفرح بالانتصار والتحرُّر من المدير، “أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ“.
في رواية “لحظة ذهبيّة“، يظهر الحوار الذَّاتي للبطل بوضوح من خلال تفاصيل يومه، وأفكاره وأحلامه وتطلُّعاته.
يبدأ الحوار الذاتيّ بتأكيد أهميَّة العمل، والتفرُّغ للعمل الأدبيِّ الأهمِّ في حياته، ويتذكَّر الماضي والرُّوتين البائس الذي يعيشه في عمله الحاليّ.
يفرح البطل بالانتصار والتحرُّر من المدير، ويحلم بالنَّجاح والشُّهرة، والحظِّ الجيِّد والتقدير والثناء، وهذا يعكس الرَّغبة النفسيَّة والجنسيَّة في الاعتراف والتقدير والنَّجاح.
وفي نهاية الرِّواية، يشعر البطل بالرضا والإنجاز؛ بسبب حصوله على المنحة الثقافيَّة، وتحقيق أحلامه وتطلُّعاته. يتَّضح أنَّ الحوار الذاتيّ للبطل؛ يُركّز على الأمل والتفاؤل والتطلُّع إلى المستقبل، وعلى النَّجاح، والتحرُّر من الرُّوتين البائس، والحصول على الإنجازات الكبيرة.
*حدث أم انتحار:
يذهب إلى الشَّاطئ ، يعقد اجتماع ، يقف عل حافة جرف مُخاطرًا
يصرخُ وينظر.. يرتدّ الصَّدى ، يتابع قرص الشَّمس الذاهب، ووقف يستمع أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل. لم ينتحر، وإنَّما هَوَى. “اِهْتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه . مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة .
بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة ، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه”.
يتسلَّق يتعلَّق به لنجاة، ومع ذلك فهو يكرهه، ويتمنَّى أن يتُفَّه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه. يمكن تفسير الحدث الذي وقع في الرِّواية بأكثر من طريقة، ولكن يمكن فهمه كرمزيَّة لمحاولة البطل الخروج من الرُّوتين المُملّ، والتقيُّد بالقيود التي يفرضها عليه النظام الاجتماعيّ، والمؤسَّسات الرسميَّة.
قد يرمز الاجتماع الذي عُقِد إلى محاولة البطل للتواصل مع الآخرين، والبحث عن الدَّعم والمساعدة، وربمَّا يرمز الوقوف على حافة الجرف إلى رغبته في المغامرة، والالتزام بشيء يتعدَّى القيود المفروضة عليه.
وربما تكون الرمزيَّة الأكثر وضوحًا هي الكتابة على طين قاع البحر، فقد يرمز ذلك إلى رغبة البطل في الحريَّة، والتحرُّر من القيود، والتعبير عما يريده بلا قيود أو حواجز.
بالنسبة للحدث الذي حدث عندما هوى البطل من على حافَّة الجُرف، يمكن فهمه كرمزيَّة لفشل محاولات البطل في الهروب من الرُّوتين والقيود، وربَّما يشير إلى الصُّعوبات التي يواجهها الفرد في تحقيق الحريَّة الشخصيَّة، والتحرُّر من القيود الاجتماعيَّة والنفسيَّة.
وربما يعكس هذا الحدث أيضًا صعوبة البطل في التأقلم مع المتغيِّرات، والتحدِّيات الجديدة، والتغيِّيرات التي يواجهها في حياته.
يمكن تفسير نهاية القصة في رواية “لحظة ذهبية” بأنَّها تحمل رمزيَّة الفشل والانتكاسة، وتأكيد على أنَّ الحياة قد تكون قاسية ومليئة بالمصاعب والتحديات التي يصعب التعامل معها. يمكن أن يكون الكاتب الذي ينتحر رمزًا للأشخاص، الذين يشعرون بالإحباط واليأس، والعجز عن التغلُّب على الصِّعاب.
ومن خلال تغيير عنوان الرواية من “خَلوةٌ في مَقْبرة” إلى “خَلوةٌ في مِحبَرة“، يمكن فهمه كرمزيَّة؛ لتحول الكاتب من الكتابة في مكان مُظلم، ومُحطَّم مثل المقبرة إلى الكتابة في مكان، يُمثّل الأمل والتجدد والإبداع مثل المحبرة.
ولكن بعد الخبر المفجع عن انتحار الكاتب، تصبح الصَّفحة باهتة وفارغة، ممّا يشير إلى أنّ العمل الذي قام به الكاتب، قد فَقَد معناه، وقيمته بسبب فعلته النهائيَّة.
ويمكن أن يكون تغيير العنوان وحذف اسم الكاتب من الرِّواية رمزًا لضرورة تحويل الانتباه من الفرد إلى العمل الذي قام به، وأنّ الإنجازات الحقيقيّة تكمن في الإبداع والتميّز، وليس في الشُّهرة أو الاسم المشهور.
وربّما تشير نهاية القصّة أيضًا إلى ضرورة الحفاظ على الصِّدق، والأخلاق والمبادئ الأساسيَّة في الحياة، وعدم الوصول إلى مرحلة اليأس، والانحطاط الذي يمكن أن يؤدّي إلى نتائج كارثيّة.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه الكاتب قبل عام؛ قرّرت دار النَّشر طباعته.
– “كيف كتبها الروائيُّ..! “خَلوةٌ في مَقْبرة” ؟، هذيان
لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها “خَلوةٌ في مِحبَرة“.
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
– “تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب.
قالوا: إنّه انتحر“.
دمعتان حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرًا من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
ينمحي اسم الكاتب وتؤول لغيرة. هتَكَ عرض القصّة بلا رقيب أو حسيب. ما أنذله.
“من فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛ فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين، وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية بالخطّ العريض”.
النهاية مجتمع بيروقراطيّ روتينيّ تحكمه إضبارة، وتنمُّر المدير على الموظفين اليائسين المهملين. إلّا من بعض المحاولة، أو المخاطر، ولو أنه ضرب الحظ معه، وفاز بالمنحة من المحاولة، ومات من سذاجة المخاطرة، قبل أن يردَّ الصَّاع صاعَيْن على المُدير الشَّايب المعاند المتنمِّر.
لم يجد على الشاطئ أصحابًا، ولم يسمع إلَّا أصداء، وأصوات الأمواج الهادرة، والصُّخور الحادَّة المُتشرِّخة والمُخادعة المُتفتِّتة.
*الألفاظ والمعاني:
طين قاع البحر والرمل على قاع البحر ، “خَلوةٌ في مِحْبَرة” رحاب العنوان؛ نجد بالألف اللَّمحات الجنسيَّة العميقة النَّشوة الحُبور تغشَّاه، القُطُر، إضبارته، لتطمر، مادام ، لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه : اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه
أيتفُّ الأغنية العالقة بجزء حيويٍّ صمغيٍّ بفمه؟. أيستلذَّه أم يكرهه؟. وما زال ذك الجزاء الحيوي بفمه. أيعلَقُ بالمدير؛ لينقذه
أم يتفَّه هو الآخر؟.
ألفاظ ومعانٍ أخرى: إضبارة، التَّنسيب: معنى وألفاظ إداريّة شامية.
*جدل:
يتناول النصّ موضوعات مهمّه، يتميّز النصّ بأسلوب سرديٍّ بسيط وهجومي، يلقي الضوء على الحالة النفسيَّة، والعاطفيَّة للشخصيَّة الرّئيسة، وكيف يتفاعل مع الأحداث التي تحدث له.
من الناحية الفنيَّة، يتميَّز النصّ بالوصف، والانتقاء اللُّغويّ الجيّد .
كما يتميّز بالتناوب بين الفعل والوصف، ممّا يُضفي على النصّ حيويَّة وتشويقًا. من الناحية النفسيَّة، تمثّل الشخصيّة الرّئيسة حالة الطُّموح، والاهتمام الذاتّي، والتحدّي مثل الطموح والحظّ، والحلم والموت والإبداع الذي يواجهه الإنسان في حياته. والتعامل مع الآخرين.
يتمثّل المدير في هذا النصّ، كشخصيّة تخوض صراعًا مع الشخصيّة الرّئيسة، وتعكس القوّة والسّلطة التي يتملّكها المدير في العمل.
ويعكس النصّ أيضًا التوتّر العاطفيّ، والذي يمكن أن يؤدّي إلى الانتحار. فهل هو اِنْتحر أم سقط؟. من الناحية الأدبية، يعتبر هذا النصّ قصّة قصيرة جيّدة، ويحتوي على العديد من المواضيع الأدبيّة المهمة.
يتميّز بقوّة الرّسالة التي يحملها النصّ، إنّ “لحظةٌ ذهبيَّةٌ” لــ “محمد فتحي المقداد“؛ يدور حول موضوع الطّموح، والأحلام، وكيف يمكن للإنجازات الشخصيّة؛ أن تُصبح مصدرًا للنّشوة والفخر الذّاتيّ.
التي قد تحول دون تحقيق هذه الطّموحات. كما يتطرّق النصّ إلى موضوع الخسارة، والانتحار، والتّضحية بالحياة من أجل إنجازات الشخصيّة وتحقيق الأحلام.
*كيف تريدني أن أسالك عن الموضوع أعلاه من الناحية النقديَّة:
الموضوع الرّئيس لرواية “لحظة ذهبية” هو الحريّة الفرديّة والتضحية، وكيف تؤثّر هذه القيم على حياة الأفراد وعلاقاتهم. وتتمحور الرّسالة الرّئيسة، التي يحُاول المؤلّف إيصالها للقارئ: حول أنّ الحريّة الفرديّة ليست مجرّد حقّ، بل هي مسؤوليّة تتطلّب تضحيات: وقرارات صعبة.
وتشير الرّواية إلى أن المسؤوليّة الاجتماعيّة، والأخلاقيّة تأتي مع الحرية، وأنّه يجب على الأفراد تحمّل مسؤوليّاتهم والتضحية من أجل الآخرين، والمجتمع الذي يعيشون فيه. كما يؤكّد المؤلّف على أهميّة الذاكرة والتاريخ في فهم الحاضر وبناء المستقبل.
وفيمايلي القضايا الاجتماعيّة التي تتناولها رواية “لحظة ذهبية” وكيف يتعامل المؤلّف معها:
قضيّة الحريّة، والاستقلاليّة الفرديّة، وكيف يمكن للأفراد الوصول إلى الحريّة، والتحكم في حياتهم، وتحقيق طموحاتهم وأحلامهم.
قضيّة التعليم والثقافة، ودورهما في تشكيل الشخصيّة، وتطوّر الفرد والمجتمع.
قضية العلاقات الإنسانيّة، وأثرها على حياة الأفراد وقراراتهم، وكيف يمكن للعلاقات الإيجابيّة أن تساعد الأفراد على التغلّب على التحديّات وتحقيق النّجاح.
يتعامل المؤلف مع هذه القضايا بشكل واضح وصريح، ويستخدم الأحداث والشخصيّات في الرواية؛ لتسليط الضوء على هذه القضايا، وإيصال رسالتها إلى القارئ بشكل فعّال. ويعتمد المؤلّف على الواقعيّة، والإنسانيّة في تعامله مع هذه القضايا، ويظهر التفاعل بين الشخصيّات، والتأثير الذي تتركه هذه القضايا في حياتهم وقراراتهم، ممّا يجعل القارئ يتعاطف معهم ويفهم رؤية المؤلّف لهذه القضايا.
بالنسبة للرّواية، فإنّ المؤلّف يتناول موضوع الحريّة الفرديّة، والتضحية بشكل عام من خلال شخصيّات مختلفة في الرّواية، ويستخدم الأحداث، والتفاعلات بين الشخصيّات لإظهار أهميّة الحريّة الفرديّة، والتضحية في تحقيق الأهداف، والتغيير في المجتمع.
*التشبيه والتصوير اللفظي:
يستخدم المؤلّف التّشبيه، والتصوير اللّفظيّ؛ لإيصال الأفكار والمشاعر بشكل أكثر قوّة وجاذبيّة، ممّا يُساعد على توصيل الرّسالة الرّئيسة للرّواية بشكل أكثر فعاليّة.
*الرمزية:
يستخدم المؤلّف الرّموز في الرّواية للإشارة إلى معانٍ مُعيّنة، ممّا يساعد في توصيل الرّسالة الرئيسة للرّواية بشكل أكثر عمقًا وتأثيرًا.
وتساعد هذه الأساليب الأدبيّة على توصيل الرّسالة الرئيسة للرّواية بشكل أكثر فعاليّة، حيث تساعد على إيصال المشاعر، والأفكار، والرّؤى بشكل قويّ وجذّاب، وتجذب اهتمام القارئ وتجعله يشعر بالتعاطف والتأثُّر بالأحداث، والشخصيّات في الرّواية.
*بناء القصة: يجب أن يشمل النصّ مقدّمة، وتطوّرًا، ونهاية مأساويّة، كما أنّه كان هناك توازنًا بين الوصف والحوار والأحداث. ويبدو أن عنوان القصّة “لحظة ذهبيّة”؛ يشير إلى أنّ القصّة؛ قد تركّز على لحظة حاسمة في حياة الشخصيّة الرّئيسة.
*العناصر الرئيسية: فإن العناصر الأساسيّة للقصة اشتملت على الشخصيّات، والقصّة، والمكان، والزّمان. وكانت الشخصيّات متعدّدة الأبعاد، وذات مصداقيّة، وتتفاعل بشكل معقول مع الأحداث في القصّة.
واحتوت القصّة على عدّة أحداث مثيرة للاهتمام، وتحرّكت القصّة إلى الأمام. وكان المكان والزمان موضوعيْن بشكل جيّد ويُدَعِّمان القصّة.
وبالنسبة للإخفاقات الأدبيَّة أو اللّغويَّة؛ فهي قد تشمل الأخطاء النحويَّة والإملائيَّة. ومع ذلك، يجب ملاحظة أنّ التقييم الحقيقيّ لأيّ قصّة؛ يعتمد على العديد من العوامل الأخرى، بما في ذلك الموضوع، والأسلوب والغرض والجمهور.
***
النص المقصود بالقراءة النقدية
….
لحظةٌ ذهبيَّةٌ
(قصة قصيرة)
بقلم. محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح. قراره الأخير:
– “مديري عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا”.
اجتماع ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
“لَكْتُبْ اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ“
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ. يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية “خَلوةٌ في مِحْبَرة” قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل مع نفسه:
– “كيف كتبها الروائيُّ..! “خَلوةٌ في مَقْبرة” ؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها “خَلوةٌ في مِحبَرة“.
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
– “تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنّه انتحر”.
دمعتان حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرًا من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛ فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين، وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية بالخطّ العريض.
5/ 4/ 2023