اجتثاث
صاحت تريدُ الخلاص، أخرجَت دفائن قلبها، خيّبت ظنونهُ حول قصصِ الكنوزِ الدفينة، حرقت أحلامهُ التي خطّها معها، همسَ بأذنها : ألم ترتوي بعدُ؟ تبعثَرَ صراخها من حولهِ وارتفع، صلبَت أنوثتها فوقَ مقصلتهِ، لطّخت ضميرَهُ بنوباتٍ من الجنونِ، طعنتهُ بخناجرِ العِنادِ، وأمطرتهُ اتهاماتٍ ليسَ لها جذرٌ أو فرعٌ، أجابَ طلبها: ارحلي.
نزَفت من محجريها دمعًا حارقًا، حملت قلبهُ قبلَ أمتعتها، وتركتهُ تصهرهُ الذكرياتُ، ويغتسلُ بدمعها من عارِ الحبّ…
النص للأديب رائد العمري
مدخل
تتأسس القصة القصيرة جدًا – أو ما يُعرف اختصارًا بـ “ق.ق.ج” – على خاصية التكثيف واللمحة الدرامية الخاطفة، بحيث تستعيض عن السرد المطوّل بلغة عالية الكثافة، توظّف الرمز والاستعارة وتترك مساحة واسعة لتأويل القارئ. في هذا السياق، يقدّم لنا الكاتب القيصر رائد العمري نصّه الموسوم بـ «اجتثاث»، الذي ينهض على جدلية الانفصال العاطفي بوصفه شكلًا من أشكال الإعدام الرمزي.
العنوان ودلالته
العنوان «اجتثاث» يفتح أفقًا تأويليًا غنيًا. فالاجتثاث في اللغة فعل اقتلاع الجذور، وهو ما يوحي بإلغاء كل ما هو أصيل ومتجذر. هنا، يضع الكاتب قارئه منذ البداية أمام صراع وجودي: هل يمكن اقتلاع الحب من جذوره؟ وهل الانفصال مجرد قرار، أم أنه جرح يترك ندوبًا عصية على الشفاء؟ بهذا المعنى يصبح العنوان مفتاحًا لقراءة النص، حيث يتحوّل الفعل العاطفي إلى عملية قسرية من الإزالة والهدم.
البنية السردية
النص يقوم على بنية مشهدية مكثفة: المرأة الصارخة بالخلاص، الرجل المتمسك بأحلامه، ثم المواجهة العنيفة التي تنتهي بالانفصال. إلا أن هذه البنية، على قِصرها، لا تسعى إلى رسم أحداث متسلسلة تقليدية، بل تكتفي بإبراز ذروة الصراع ثم الانحدار نحو النهاية المأساوية.
يتضح ذلك من خلال اعتماد الكاتب على الجمل الفعلية المتتابعة: (حرقت – صلبت – لطخت – طعنته – أمطرته…)؛ أفعال عنيفة وسريعة الإيقاع، تخلق إحساسًا بالتراكم والضغط، وكأن القارئ يعيش لحظة الانفجار الداخلي نفسها التي يعيشها أبطال النص.
اللغة والصورة الشعرية
لغة النص تنتمي بوضوح إلى شعرية القصة القصيرة جدًا. فالكاتب يجنح إلى بناء صوره عبر استعارات كثيفة:
“صلبت أنوثتها فوق مقصلته” صورة صادمة تستحضر فضاء الإعدام بوصفه مشهدًا عاطفيًا.
“لطخت ضميره بنوبات من الجنون” تلوين نفسي يشي بتحطيم البعد الأخلاقي.
“يغتسل بدمعها من عار الحب” مفارقة لغوية تجمع بين التطهير والعار.
هذه الصور تكثّف البعد التراجيدي للنص، وتحول الحكاية من واقعة عاطفية خاصة إلى رمز إنساني شامل للصراع بين التمسك والانفصال، بين الحلم والانكسار.
النقد الفني
على المستوى الفني، يمكن تسجيل ملاحظتين أساسيتين:
. القوة: القدرة على خلق حالة شعورية عبر اللغة وحدها، دون حاجة إلى حوار مباشر أو سرد تفصيلي. النص يترك أثرًا وجدانيًا عميقًا ويستفز القارئ لإعادة إنتاج التجربة في داخله.
. المأخذ: أحيانًا يطغى الجانب البلاغي على البنية السردية، فتتحوّل القصة إلى مقطع شعري أكثر من كونها سردًا قصصيًا. وهذا ما قد يجعل بعض القراء يتوقفون عند جمال الصورة دون التقاط الحكاية الكامنة وراءها.
الخاتمة ودورها
العبارة الختامية “ويغتسل بدمعها من عار الحب” تمثل قفلة مفتوحة بامتياز. فهي تحمل دلالتين متناقضتين: التطهير عبر البكاء، والعار الذي يلتصق بالحب نفسه. بهذا التناقض، يوسّع الكاتب أفق النص ويمنحه حياة تتجاوز الصفحة، لأن القارئ يبقى معلّقًا بين الدموع والعار، بين الغسل والدنس.
خلاصة
إن «اجتثاث» نص قصير جدًا لكنه مشحون بطاقة درامية عالية، يعتمد على التكثيف، والصورة الشعرية، والمفارقة لبناء لحظة مأساوية. ينجح الكاتب في تجسيد شعرية القصة القصيرة جدًا، ويؤكد قدرة هذا الجنس الأدبي على حمل هموم إنسانية كبرى في سطور قليلة. ومع ذلك، يبقى التوازن بين السرد واللغة الشعرية تحديًا أمام النصوص من هذا النوع، وهو ما يثير النقاش النقدي حول حدود هذا الجنس الأدبي المتفرّد.