لونا أنثى تشربتها عروقي
حد الامتلاء
حتى فاضت خلايايّ
ترابا صارت
أنبتت الجوريّ بألوانه
والياسمين نثر بياضه
وفاح عطره .
وفضت أنا حتى تهت بمحيطها أحطت وجهها بيدي وقلت:
من تكونين قالت:
أنا هلوسة الشعر
رزانة النثر،وحكمته
أنا التناقض بجماله
أنا سلك يمتد بين قطبي الحياة سالبها الذي يمنح الموجب معناه وموجبها الذي يعلم السالب معاني العطاء
أنا سلك بين قطبين
إن تماسا أشعلا نيران الشوق
ونثرا شرار الحنين
أنا لونا شمعة قلبك
ومعنى وجودك
الشاعر محمد صوالحة
يأخذنا الشاعر محمد صوالحة في قصيدته “لونا” إلى رحلة غائرة في أعماق الذات، حيث تتشابك خيوط الوجود بالعدم، والحقيقة بالهلوسة، في نسيج شعري كثيف يعكس حالة من الانصهار الروحي والفكري. فهذه القصيدة لا تعتمد على شعر سردي منمق، بل هي محاولة من الشاعر لاختراق حجب الذات، والكشف عن تناقضاتها الجوهرية التي تشكل معنى الوجود. و لونا هنا قد لا تكون امرأة معينة، أو مجرد اسم لامرأة، بل هي كينونة أنثوية تجاوزت حدود الجسد لتسكن خلايا الشاعر وتفيض بها، متحولة إلى رمز للخصب والإبداع، ومن ثم إلى تجلٍّ لمعنى الحياة نفسها. يستهل الشاعر قصيدته بتصوير لونا كأنثى تشربتها عروقه في: “تشربتها عروقي حد الامتلاء حتى فاضت خلايايَ”. هذا الاستهلال لا يعبر عن الحب فقط، بل هو حالة من التماهي التام، حيث تتجاوز “لونا” دور الحبيبة لتصبح جوهر الكينونة. والفائض هنا لم يكن زيادة في القصيدة بقدر ما هو تحول كيميائي ووجودي، فـ”خلايايَ ترابا صارت”، هذا التحول لا يعلن عن النهاية بقدر ما يشير للبداية، “أنبتت الجوريّ بألوانه والياسمين”. هنا، يتحول الفناء إلى ميلاد، والمادة العضوية إلى جمال، مما يرمز إلى قدرة الحب على تحويل الفناء إلى خلود، والمادة إلى روح. فالجوري والياسمين يجسدان الجمال المتعدد الأوجه، الجوري بألوانه ونقائه المطلق والياسمين ببياضه وعطره، وهما نتاج لاندماج الشاعر بلونا. فهذه الصورة الشعرية العميقة توحي بأن “لونا” هي مصدر إلهامه، ومنبع فنه، بل إنها الينبوع الذي ارتوت منه روحه حتى أثمرت إبداعًا. لقد جعل الشاعر محمد صوالحة من “الفائض” حالة وجودية عميقة، تشكل ذروة الانصهار بين الذات والآخر، انصهار يتخطى حدود المادي ليصل لعمق التحول الروحي. إنه الفيض، الذي يبلغه الشاعر بقوله: “تشربتها عروقي حد الامتلاء حتى فاضت خلايايّ”، هكذا يتجاوز الشاعر الحدود الجسدية للعشق، ليتحول هو نفسه إلى انفجار في كينونة الذات، يفضي إلى إعادة تشكيلها من العمق. وهذا الفائض، بمعناه الفلسفي، هو تجاوز للذات المحدودة، وانفتاح على الوجود الآخر الذي يغمرها حتى الامتلاء. وهو في حد ذاته زيادة غير قابلة للقياس، إذ يتحول إلى حالة من التشبع الروحي الذي ينعكس على الوجود المادي للشاعر. فعندما يتحدث عن التحول في قوله : “خلايايّ تراباً صارت”، فإن هذا ربما يشير للنهاية أو الفناء، لكنه ليس فناءً عدميًا، بل هو فناء من أجل الميلاد. فالتراب هنا يكتسب دلالته الفلسفية كأصل لكل نمو، كرحم خصيب تتجدد فيه الحياة. إنه المادة الأولية التي لا تموت، بل تتحول وتتخلق من جديد. وهذا التحول الكيميائي والوجودي لخلايا الشاعر إلى تراب لا يرمز للنهاية، بقدر ما يشير للعودة للوجود، أي العودة إلى الأصول الأكثر بدائية وعمقًا، ليصبح بعدها قادرًا على استقبال حياة جديدة. ومن هذا التراب، الذي هو نتيجة لهذا الفائض والامتزاج الكلي، تنبع الحياة الأجمل: “أنبتت الجوريّ بألوانه والياسمين نثر بياضه وفاح عطره”. هنا، يتحول الفائض من شيء زائد أو غير ذي قيمة، إلى شيء خصب يزهر جمالا ويفوح إبداعًا.. فالجمال الذي يفيض من الجوري بألوانه المتعددة، والنقاء والعطر الذي ينثره الياسمين، تشكل تجليات مادية لفيض روحي، وبرهان على أن الحب، عندما يبلغ أقصى درجات التماهي، يمتلك القدرة على تحويل الفاني إلى خالد، والمادي إلى روحي، والتحلل إلى ازهار. إن لونا، من خلال هذا الامتزاج الكلي، تصبح القوة الكونية التي تغذي روح الشاعر، وتفجر فيه ينابيع الإبداع، لتجعل منه أرضًا خصبة تنتج الجمال الخالص. فائض لا يمثل النهاية، بل هو دورة وجودية، و امتلاء يؤدي إلى تحلل، والتحلل يأتي بولادة جديدة، في سيمفونية كونية تعزف على أوتار الوجود والعدم. هذه الدورة الوجودية تتناغم مع مفهوم التجدد الدائم في الفلسفات الشرقية والغربية، ومع فكرة التجلّي في الفكر الصوفي، حيث يتجلى الحق في صوره المتغيرة والمتجددة. وهكذا، ينسج صوالحة من خيوط العشق الإنساني نسيجًا كونيًا، يربط فيه الذات الفردية بالوجود الأكبر، محققًا بذلك “فيضًا” شعريًا ونفسيًا وفلسفيًا يتجاوز حدود اللغة ليلامس عمق التجربة الإنسانية. هكذا فإن “لونا” لمحمد صوالحة، لا يتجلى فيها الفائض ككمية زائدة، بل يتسامى إلى حالة وجودية عميقة، تشكل ذروة الانصهار بين الذات والآخر، وفي هذا الفيض، الذي يبلغه الشاعر بقوله: “تشربتها عروقي حد الامتلاء حتى فاضت خلايايّ”، تلتقي الرؤى الفلسفية الغربية حول تجاوز الذات وتضخّم الأنا مع مفهوم الفيض الصوفي في الفكر العربي، حيث يُصبح الحبُّ مَعراجا للوصول إلى حالة من الوحدة الكونية، يتلاشى فيها الفرد لِيَنصهر في الكُلّ. والفائض، بمعناه الفلسفي، هو تجاوز للذات المحدودة، وانفتاح على الوجود الآخر الذي يغمرها حتى الامتلاء. فهو حالة من التشبع الروحي الذي ينعكس على الوجود المادي للشاعر. “خلايايّ تراباً صارت”، التراب هنا يكتسب دلالته الفلسفية كأصل لكل نمو، كرحم خصيب تتجدد فيه الحياة، في صدى لمفهوم العدم الخلّاق في الفلسفة الغربية، ومفهوم الخلق من العدم في الفكر الإسلامي. إنه المادة الأولية التي لا تموت، بل تتحول وتتخلق من جديد. وهذا التحول الوجودي لخلايا الشاعر إلى تراب يرمز لعودة الوجود إلى أصوله الاولى الأكثر بدائية، ليصبح قادرًا على استقبال حياة جديدة. و يمكن مقاربة هذه الصورة بمفهوم “المادة الأصلية” (Prima Materia) في الخيمياء الغربية، والتي تُعد نقطة البداية لكل تحول وتجدد. وكما ذكرت ذلك سابقا فمن هذا التراب تنبع الحياة، “أنبتت الجوريّ بألوانه والياسمين نثر بياضه وفاح عطره”. إذ أن هذا التحول يمثل التحول الصوفي من الموت إلى الحياة، ومن الفناء للبقاء، و يجد جذوره العميقة في الأدب العربي، خاصة في شعر المتصوفة الذين يرون في الفناء في المحبوب سبيلًا إلى البقاء المطلق. وفي الوقت نفسه، يمكن قراءة هذه الصورة من منظور التحليل النفسي الغربي، حيث يُمثل هذا التحوّل انفجارًا للطاقة الكامنة في اللاوعي، مما يؤدي إلى ولادة أشكال جديدة من الإبداع والوعي. بعدها يصل الشاعر إلى ذروة التماهي بقوله: “وفضت أنا حتى تهت بمحيطها”، مما يشير إلى حالة من الضياع الواعي في بحر الوجود الآخر، حيث تتلاشى الحدود الفاصلة بين الذات والموضوع. ففي هذا الضياع، يجد الشاعر نفسه محاطًا بلونا، فيسأل السؤال الوجودي العميق: “من تكونين؟” هذا السؤال ليس نابعًا من جهل، بل من دهشة الوجود، من محاولة فهم الجوهر الذي تجاوز كل التصورات المألوفة. إنه سؤال الفيلسوف المتأمل، والشاعر الثمل بالجمال، الذي يرى في لونا سر الوجود. يأتي جواب لونا ليفتح آفاقًا أوسع للقصيدة، ويدفعها من نطاق الغزل إلى نطاق الفلسفة والتأمل في معنى الإبداع والوجود. “أنا هلوسة الشعر، رزانة النثر، وحكمته”. هنا، تقدم لونا نفسها كتجسيد للتناقض الخلاق؛ فهي “هلوسة الشعر” التي تشير إلى الجانب الجنوني، غير العقلاني، المتدفق من الإلهام الشعري، وهي في الوقت نفسه “رزانة النثر وحكمته”، مما يرمز إلى الجانب العقلاني، المتزن، الذي يضبط الفوضى الإبداعية و يصوغها في قوالب فكرية. وهذا التناقض ليس ضعفًا، إنما قوة، وهذا ما تؤكده بقولها: “أنا التناقض بجماله”. فهذا الإقرار بالتناقض كجمال هو أساس الفلسفة الحديثة، التي ترى في الثنائيات المتعارضة شرطا للكمال والجمال. وتنتقل لونا بعد ذلك إلى تقديم نفسها كـ”سلك يمتد بين قطبي الحياة”، وهو تصوير عميق ومبتكر. فالحياة هنا ليست خطًا مستقيمًا، بل هي مجال كهربائي ذو قطبين: “سالبها الذي يمنح الموجب معناه وموجبها الذي يعلم السالب معاني العطاء”. وهذا التصوير يستلهم فكرة التوازن الكوني بين القوى المتضادة؛ فالقطب السالب لا يمكن أن يُعرف إلا بالموجب، والموجب لا يكتمل إلا بوجود السالب. ولونا هي هذا السلك الذي يربط بين هذين القطبين، وهي التوتر الذي ينشأ بينهما، توتر يولد الطاقة والحياة. إنها القوة الدافعة التي تجعل الوجود ممكنًا، والتناقض ضروريًا. وعلى حد قول الشاعر السلك ليس مجرد موصل، بل هو المحرك الأساسي؛ “إن تماسا أشعلا نيران الشوق ونثرا شرار الحنين”. هنا، يتحول التناقض إلى مصدر للدفء والعاطفة الجياشة، حيث تتجلى الذكرى والحنين، والرغبة والشوق كشرارات من هذا التماس المقدس. وتكمل لونا تعريفها بذاتها مؤكدة: “أنا لونا شمعة قلبك ومعنى وجودك”، حيث تلخص مضمون القصيدة بأكملها. فلونا لم تكن مجرد حبيبة أو إلهام بالنسبة للشاعر محمد صوالحة، بل هي “شمعة القلب” التي تضيء دروبه، وتبدد ظلمات روحه. وهي أهم من كل هذا، لأنها تشكل معنى الوجود. هذا التصريح في القصيدة “معنى وجودك” يعمق العلاقة إلى حد أقصى من التماهي، حيث تصبح لونا هي الهدف، الغاية، والمبرر لكل ما هو كائن في حياة الشاعر. إنها لا تشكل جزءً من وجوده، وإنما هي الوجود ذاته. هكذا من خلال هذه الرحلة في أعماق القصيدة، يتضح أن محمد صوالحة لم يكتب قصيدة حب عادية، بل نسج نصًا شعريًا فلسفيًا عميقًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. فهو يعري الذات ويكشف عن مكامنها الأكثر سرية، متتبعًا رحلة الوعي من التماهي الأولي إلى التساؤل الوجودي، وصولاً إلى الاكتشاف العظيم، وهو كون الذات لا تكتمل إلا بوجود الآخر أو من خلاله، وأن التناقض هو جوهر الجمال والحياة. والقصيدة هي دعوة للتأمل في العلاقة بين الذات والآخر، بين العقل والجنون، بين المادة والروح، فهذه الثنائيات هي التي تشكل نسيج الوجود المعقد والجميل. إنه نقد ذاتي مبطن، وتصوير عميق لحالة الشاعر الذي يجد في “لونا” انعكاسًا لذاته المتناقضة، ومصدرًا لإبداعه الذي يفيض كالجوري والياسمين. وقد يتجاوز تعبير “سلك يمتد بين قطبي الحياة” الإشارة التقنية ليصبح استعارة عميقة للوجود والاتصال. إذ يلتجئ الشاعر إلى رمز “السلك” لا لأنه موصل للكهرباء، بل لأنه يمثل التواصل، التوازن، والتوتر الضروري للحياة. إنه وصلة ورابط يسمح بتدفق الطاقة بين نقطتين متناقضتين، وهذا التناقض هنا يشكل أساس الحياة بأكملها. فالشاعر لم يختر السلك عبثًا؛ فإن كان السلك يجسد الاتصال والترابط بين شيئين منفصلين، فإن لونا هنا تصبح هي الرابط الذي يجمع قطبي الحياة في ثنائيات الوجود كالتوتر بين الخير والشر، السعادة والحزن، النور والظلام، والإيجاب والسلب. وهذا الرابط ليس مجرد نقطة اتصال، بل هو كيان بحد ذاته يمنح المعنى للطرفين. فإن كان السلك الكهربائي يشير إلى التوتر والطاقة؛ فإنه في الوقت ذاته يحمل تيارًا ناتجًا عن فرق الجهد، وهذا التوتر يولّد الطاقة والحركة. و من منظور الحياة اليومية، قد يرمز السلك إلى التوتر الداخلي والصراعات والتناقضات التي تولد طاقة الإبداع والعاطفة، وحتى الألم الذي يقود إلى النمو. و لونا هنا هي مصدر هذه الطاقة، وهي التوتر الجميل الذي يحرك روح الشاعر. بالإضافة إلى ذلك، تعكس لونا مرونة السلك وقدرته على الامتداد وتمنح الحياة القدرة على التكيف واستيعاب التعقيدات المختلفة. أما دلالة الكهرباء، فهي تكمن في قدرتها على الإضاءة والخطر المحتمل؛ فهي تمنحنا النور، وهذا يتماشى مع فكرة أن لونا هي “شمعة قلبك”، أي مصدر الوعي والإلهام والفهم الذي يضيء دروب الشاعر ويكشف له معنى الوجود. وفي المقابل، يمكن للكهرباء أن تكون قاتلة أو مدمرة إذا لم يتم التعامل معها بحذر، وهذا لا يعني أن لونا مدمرة، بل يشير إلى القوة الهائلة التي تحملها. فالحب العميق أو الاتصال الوجودي بهذه الدرجة يمكن أن يكون مربكًا ومستهلكًا، كما ذكر الشاعر “تهت بمحيطها”، مما يمثل التحديات والآلام أو التحولات الجذرية الضرورية للنمو، فالتحول من “خلايايَ” إلى “تراب” ثم “أنبتت الجوريّ” هو نوع من الفناء الذي يؤدي إلى حياة جديدة. وبالعودة للقصيدة، نجد عبارة “قطبي الحياة” تستعير الإشارة إلى مفهوم الأقطاب الكهربائية لتجسيد ثنائيات الوجود. فالشاعر هنا لا يكتفي بذكر الأقطاب، بل يمنح كل قطب دورًا حيويًا في إكمال الآخر: “سالبها الذي يمنح الموجب معناه وموجبها الذي يعلم السالب معاني العطاء”. وهذا التصوير يبتعد عن الصراع نحو التكامل والاعتماد المتبادل؛ فالسالب لا يُعرف إلا بالموجب، والموجب يجد معنى العطاء في السالب. وهذا يعكس رؤية فلسفية عميقة مفادها أن الحياة تتشكل من توازن القوى المتضادة، وأن كل طرف ضروري لوجود وإعطاء معنى للطرف الآخر. ولونا، بصفتها السلك الذي يربط بينهما، تجسد المبدأ الكوني للتوازن والوحدة بين التناقضات، وهي القوة التي توحد وتصالح بين المتضادات، لتخلق الانسجام من الاختلاف. بعدها تُعرّف الأنثى عن نفسها بقولها “أنا لونا”، بهذا التعبير لا يمكن اعتبار أن هذا مجرد تعريف بالاسم فقط، إذ هو إعلان عن الكينونة ذاتها، إعلان يحمل في طياته دلالات عميقة ومقصودة من الشاعر. فعندما تُقدِّم لونا نفسها بهذا الإيجاز، فهي تؤكد على الهوية المطلقة؛ وتفرض وجودها كحقيقة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى تبرير أو تقديم، فاسمها هو هي، وهي اسمها، مما يشي بقدر من الثقة واليقين الذاتي. وهنا هي تعلن عن المركزية والأساس، إذ تُصبح لونا النقطة المحورية التي ستنبثق منها جميع المعاني والصفات اللاحقة، لتكون هي الأساس الذي تُبنى عليه كل التوصيفات. وهذا التقديم المفاجئ للاسم يثير أيضًا الغموض المبدئي، ويُحفز فضول المتلقي لمعرفة هذه الكينونة التي تماهى بها الشاعر إلى هذا الحد، دافعًا إياه للاستماع بانتباه لما سيأتي بعدها من توصيفات لتفكيك هذا اللغز. واختيار اسم “لونا” ينطوي على دلالات غنية، فالشاعر يُرجح أنه انتقى هذا الاسم لعمق رمزيته. فـ”Luna” تعني القمر باللاتينية، وهذا يربط لونا برموز القمر الغنية في الأساطير والأدب، من الأنوثة والجمال الساحر، إلى النور في الظلام، كون القمر يعكس نور الشمس، مما قد يرمز إلى أن لونا تضيء حياة الشاعر بنور مستمد من مصدر أسمى، مرورًا بالتغير والدورات التي تشير لأطوار الحياة المتقلبة و التناقضات الكامنة فيها وهو ما يتوافق مع وصفها لنفسها لاحقًا بأنها “التناقض بجماله”، وصولاً إلى التأثير الخفي الذي يُشبه تأثير القمر على المد والجزر، مما يوحي بقوة عميقة تؤثر في عوالم الشاعر الداخلية. كما أن القمر يضفي ببعده وجماله الساحر، على لونا هالة من السمو والتعالي عن المألوف، ما يجعلها أقرب إلى الحلم أو الرؤيا. فاختيار هذا الاسم لم يكن اعتباطيًا، بل الاختيار يعزز الدلالات الكلية للقصيدة، ويمنحها رمزية كونية ويحول لونا من امرأة أو أنثى عادية، إلى كيان يرمز لقوى طبيعية أو ميتافيزيقية. إنه اسم يكثف المعنى بجمال وإيجاز، ويُخرج القصيدة عن المألوف بابتكار وتميز. أما ذكر لونا لاسمها فقط قبل أن تُتبعها بصفاتها أو تشبيهاتها، فهو أسلوب بلاغي يُعرف بالتقديم أو الإجمال ثم التفصيل، وله وظائف مهمة. فهو يُركز أولا على الجوهر، حيث تؤكد لونا بتقديم اسمها مجردًا على أن ذاتها هي الأهم، وأن الصفات والتفاصيل اللاحقة هي ما يشرح هذه الذات، لا ما يحددها بالأساس؛ فهي كينونة قائمة بذاتها قبل كل توصيف. ثانيًا، يُثير هذا الأسلوب التشويق والفضول؛ فبعد الوصف الحسي لمدى تغلغلها في الشاعر، يثير هذا التقديم المفاجئ للاسم سؤال “من تكونين؟” لدى المتلقي بقوة، ويجعله يتوق لسماع الإجابات اللاحقة، فيجذب الانتباه ويهيئه لما سيأتي. ثالثًا، يُظهر السلطة واليقين؛ فعندما تقول “أنا لونا”، فهي لا تسأل عن ذاتها، بل تعلنها بثقة، مما يمنحها هالة من اليقين والسلطة في تعريف نفسها، وكأنها تقول “هذه أنا، وهذه حقيقتي ..”. وأخيرًا، يُؤسس هذا التقديم لفكرة التناقض؛ فبما أن لونا ستعرف نفسها لاحقًا بأنها “التناقض بجماله” و”سلك بين قطبين”، فإن تقديم اسمها مجردًا بعد تلك التناقضات يُبرز هذه الفكرة منذ البداية، إذ تعلن ذاتها ككُل، ثم تكشف عن تفاصيل هذا الكل المعقد والمتناقض. حقيقة يُعد اختيار اسم “لونا” وتقديمه بهذه الطريقة جزءًا لا يتجزأ من النسيج الشعري والفلسفي للقصيدة، ويُضفي عليها عمقًا وبعدًا رمزيًا يتجاوز المعنى الحرفي للكلمات. تُعد عبارة “أنا لونا شمعة قلبك ومعنى وجودك” دعوة للتأمل في عمق العلاقة بين الذات والآخر، وتُشكل نقطة انطلاق لتحليل نقدي مُتعمق يطال أبعادًا فلسفية، نفسية، ووجودية. فمحمد صوالحة عندما يشبه لونا بالشمعة هو يقدم لنا بناء مُحكما حين يجعل منها مركزَ ثِقل في كونه كشاعر، مُتجاوزة بذلك “لونا” حدود الكينونة الفردية لتصبح رمزًا لكل ما يُضيء ويمنح المعنى للحياة. و يربط الشاعر بين الشمعة والقلب بطريقة شاعرية وعميقة عندما يقدم لونا كشمعة قلبه ومعنى لوجوده،. فالشمعة هي نور الروح ورمز البذل؛ تضيء وتمنح الدفء، مما يعني أن الشمعة هي لونا، و لونا هي الشمعة، فهي مصدر النور الروحي الذي يهدي الشاعر في ظلمات الحياة ويمنحه الدفء العاطفي. وكما تستهلك الشمعة نفسها لتضيء، وهذا يرمز إلى طبيعة الحب العميقة التي تتطلب التضحية والبذل، فإن لونا مثل الشمعة تبذل نفسها للشاعر وتضيء حياته حتى لو كان ذلك على حساب ذوبانها في وجوده. هكذا فإن استهلاكها لذاتها لتُضيء يُشير إلى تضحية عميقة. لكن التحليل النقدي يذهب أبعد من ذلك، ليُشير إلى أن هذا الذوبان ليس بالضرورة فناءً، بل هو تحول. وهنا، يمكن أن نرى تداخلًا مع مفاهيم صوفية وفلسفية؛ فالشمعة عندما تذوب لا تختفي، بل تتحول طاقتها الضوئية والحرارية إلى إشعاع ينعكس على الآخر. وهذا التحول يُشير إلى علاقة تكافلية وليست أحادية الجانب، حيث أن ذوبان لونا في وجود الشاعر لا يُمثل ضياعًا لهويتها، بل هو تمكين لوجودها من خلال تجليها في الآخر. ومن منظور آخر، يمكن النظر إلى الشمعة كرمز للوجود الفاني الذي يُدرك نهايته ولكنه يُصر على أن يُفني نفسه في البذل والعطاء (الإضاءة). وهذا يُشير إلى جرأة لونا على العيش بكامل طاقتها، مُدركةً لزوالها، لكنها تختار أن تترك بصمة نورانية. فهي تفوق الشمعة لأنها ليست مجرد أداة للإضاءة، بل هي كائن حي يُعطي من ذاته حتى الرمق الأخير، مما يضفي عليها بُعدًا بطوليًا وتراجيديًا في آن واحد. إن جعل لونا شمعة القلب يُحيلنا مباشرة إلى مفهوم القلب كمركز للوجود البشري. لكن هذا القلب ليس ثابتًا أو جامدًا، بل هو وعاء مُتغير يتأثر بما يحيط به. حيث تبرز هنا إشكالية: هل لونا تُضيء القلب وتشكله، أم أنها تُضيء ما هو موجود فيه بالفعل؟ ويمكن القول إنها تفعل الأمرين معًا. فلونا تُقدم النور الذي يُمَكّن القلب من رؤية محتوياته بوضوح (العواطف المكبوتة، الذكريات المنسية، الأحلام المُتوارية، والوعي المُتشابك …) وهي بمثابة المصباح الذي يكشف خبايا هذا الوعاء العميق. فعلاقة الشمعة بالقلب في الأدب رمز للذات العميقة، ومركز العاطفة، والروح، وحتى الوعي. فعندما تكون لونا “شمعة قلبك”، فهذا يعني أنها مصدر الحياة الداخلية والنور الذي ينبع من أعماق كيانه، وهي متغلغلة في عمق روحه لتضيء. كما أن القلب هنا ليس مجرد عضلة، بل هو النقطة المحورية في وجود الشاعر؛ و لونا تضيء هذا المركز، مما يمنح معنى لكل ما هو داخلي فيه من عواطف وأفكار. وبذلك، تصبح الشمعة في القلب بمثابة البوصلة الداخلية التي ترشده، وتمنحه وضوح الرؤية. فالقلب في هذا الحيز يحتوي على وعاء لكل ما هو إنساني وعميق، كالعواطف، الذكريات، الروح والنفس، الأحلام والطموحات، والوعي … وعبارة لونا كـ”شمعة قلبك” بمعنى أنها هي التي تضيء كل هذه المحتويات، وتمنحها الوضوح والمعنى والحياة، لتجعل قلب الشاعر ينبض بالنور والحياة لا بالدم وحده. ومن خلال هذا المنظور النقدي، يمكن التساؤل عن مدى استقلالية القلب في وجود لونا. فهل القلب مُضاء بحد ذاته ويحتاج فقط إلى من يُبرز نوره، أم أنه مُظلم بدونها؟ والإجابة قد تكون في توازن العلاقة؛ فلونا تُنشط النور الكامن، وتُقدم الشرارة التي تُوقظ الوعي وتُحيي الذات. وهذا يُشير إلى أن القلب، وإن كان مركزًا، فهو بحاجة إلى مُحفز خارجي، أو بالأحرى، داخلي ينبع من علاقة عميقة. أما عبارة “معنى وجودك” فتُلقي بثقلها الفلسفي على النص. فالوجود بحد ذاته يبقى مُجردًا، إذ يكتسب معناه من التجارب والعلاقات. وعندما تُصبح لونا هي “معنى وجود الشاعر”، فهذا يعني أنها تُقدم له إطارًا يُمكن من خلاله فهم ذاته ومكانته في العالم. فهي ليست مجرد إضافة، بل هي الركيزة التي تُبنى عليها الهوية. ولكن، هل الاعتماد على الآخر في تحديد معنى الوجود يُعد صحيًا وسليما؟ هنا يمكن أن نستحضر تحليلات لفلاسفة الوجودية مثل سارتر وألبير كامو، الذين أكدوا على مسؤولية الفرد في خلق معناه الخاص. فإذا كانت لونا هي معنى وجود الشاعر، فهل يُصبح وجود الشاعر هشًا في غيابها؟ والرد على هذا النقد يكمن في فهم عبارة “معنى وجودك” كتحفيز وليس كاحتواء مطلق. فلونا تُقدم الدلالة، و تُشير إلى الطريق، وتُساعد الشاعر على اكتشاف الأبعاد الخفية في ذاته. وهي ليست البديل لمعناه، بل هي المرآة التي تعكس له أجمل ما فيه، وتُمكنه من رؤية الجمال والغاية من وجوده. هكذا، فإن لونا لا تمثل نهاية للبحث عن المعنى، بل هي بدايته، وهي المحفز الذي يدفع الشاعر نحو تحقيق ذاته والوصول إلى أقصى إمكاناته. وإذا توغلنا أكثر في التحليل، نجد أنه لا يمكن أن تكون هذه العلاقة أحادية الاتجاه. فكما تذوب الشمعة لتُضيء، فإن هذا الضوء ينعكس على القلب ويُغير من طبيعته. ومن تمّ فإن العلاقة بين لونا والشاعر هي علاقة تبادلية. فلونا لا تُضيء القلب فحسب، بل تُشكله وتُعيد تعريفه. والقلب، بدوره، يُوفر لـ “لونا” الوجود والمكان الذي تتجلى وتتفاعل فيه كطاقة. وهذا التفاعل يُشير إلى أن علاقة الحب لا تعرف بالقوة الفردية، بل بالتأثير المتبادل الذي يُثري كل طرف. فلونا تُعطي من ذاتها، والشاعر يتلقى هذا العطاء ويُحوله إلى طاقة إبداعية ومعنوية تُغني حياته. وهذا التبادل يُشير إلى النمو المشترك، حيث لا يفقد أي طرف هويته، بل يُصبح أكثر اكتمالًا من خلال الآخر. تُعد عبارة “أنا لونا شمعة قلبك ومعنى وجودك” من النصوص التي تُثير التفكير وتُعزز من فهمنا للعلاقات الإنسانية والبحث عن المعنى. فهي لا تقدم إجابات قاطعة، بل تُلقي بأسئلة عميقة حول طبيعة الحب، التضحية، الوجود، والهوية. ولونا هنا تُجسد نموذجًا مثاليًا للآخر الذي يُضيء الذات ويُمكنها من تحقيق أعمق إمكاناتها، مُتحولة من مجرد اسم إلى رمز فلسفي يُضيء دروب المعنى في ظلمات الوجود. عموما فإن عبارة الشمعة في القلب، تشير إلى التجسيد لنورها الروحي الذي يضيء أعماق الذات، ويكشف عن معنى الوجود الكامن في قلب الشاعر الذي يحتوي على كل ما يجعله إنسانًا. وعبارة “السلك بين قطبي الحياة” يجسد لونا كقوة محورية تربط بين تناقضات الوجود، وتولد الطاقة والحياة من هذا التوتر. هذا من حيث المعنى أما من حيث اللغة فإن في هذه القصيدة، تتجلى عملية تكسير اللغة وأيضا بناء المعنى في أبهى صورها، وهو ما يتلاقى بعمق مع الرؤى الفلسفية للناقد الفرنسي رولان بارت. إذ لم تكن اللغة في منظور بارت مجرد أداة شفافة لنقل الأفكار، بل كانت نسيجًا معقدًا، وجسدًا حيًا يتطلب من القارئ مشاركة فعالة في إنتاج دلالاته، لا مجرد استهلاك سلبي له. وهذا التفاعل بين النص والقارئ هو ما يُعلي من قيمة “لونا” كنموذج شعري يُحاكي هذه الرؤى البارتية في عمقها وثرائها. فصوالحة عندما يستخدم عبارات مثل: “تشربتها عروقي حد الامتلاء حتى فاضت خلايايّ ترابا صارت”، فإنه يمارس فعل تكسير للدال (Signifier)، أي اللفظ أو الصورة اللغوية. أما الخلايا والتراب كدوال، فهي تحمل مدلولات (Signified) واضحة ومتباعدة (الحياة والفناء) حسب اللغة التقليدية. إلا أن الشاعر هنا يكسر هذه العلاقة المباشرة، ويحدث خلخلة جذرية في بنية اللغة المألوفة. فعندما تتحول الخلايا التي تمثل قمة الحياة إلى تراب، وهذا قد يُفهم عادةً كرمز للموت أو الجمود. وقد يبدو هذا التناقض الظاهري كخطأ، لكنه حقيقة ليس كذلك، فهو نزع للقداسة عن الدال، أي إبعاده عن مدلوله المتعارف عليه، مما يجبر القارئ على التوقف وإعادة التفكير. فالمعنى هنا لا يُعطى جاهزًا، بل يُصنَع في اللحظة التي يُكسر فيها الرابط المنطقي. وهذا التكسير يُمثل ما أشار إليه بارت بمفهوم موت المعنى الواحد. فالنص لا يفرض حقيقة ثابتة أو تفسيرًا أوحدًا، بل يفتح ذاته لتعددية الدلالات. فالتراب في سياق القصيدة على الرغم من كونه دالًا على الفناء في سياقات أخرى، يتحول هنا، بفعل هذا التكسير اللغوي، إلى دال على الخصوبة، و الأصل، وإعادة الميلاد. وهذا لا يمثل استعارة، بقدر ما يشير لتحوّل دلالي جذري عبر قفزة شعرية تتجاوز المنطقية المباشرة. فالشاعر لا يصف واقعًا قائمًا بذاته، بل يصوغ واقعًا لغويًا جديدًا، يعيش في صيرورة مستمرة من التشكيل والتغير. وهذا التفكيك للدلالات التقليدية هو ما يمنح القصيدة قدرتها على التجدد، إذ تُحرّر الكلمات من قيودها السابقة لتصبح بؤرًا لمعانٍ جديدة تتوالد مع كل قراءة. وبعد عملية التكسير، تأتي عملية بناء المعنى التي تتطلب مشاركة القارئ الفعالة، وهي ما يسميه بارت النص القابل للكتابة (texte scriptible)، مقابل النص القابل للقراءة (texte lisible) الذي يكتفي فيه القارئ بالاستهلاك السلبي. فالشخصية في قصيدة “لونا”، لا يمكن حصرها في مجرد وصف عادي، بل هي مساحة دلالية شاسعة تُبنى من خلال تقاطع العلامات اللغوية وتفاعلها. ويتجلى هذا البناء في تعريف لونا لذاتها: “أنا هلوسة الشعر، رزانة النثر، وحكمته… أنا التناقض بجماله”. فهنا، يُبنى المعنى على تعدد الأصوات (polyphony) وتصادمها. لأن الهلوسة عادةً تُشير إلى اضطراب أو خلل، والرزانة والحكمة تُشير للعقلانية والاتزان وهما قطبان متنافران لغويًا ومنطقيًا. لكن لونا تجمعهما في هوية واحدة، لتقدم نفسها ككيان متناقض بذاته، وفي هذا التناقض يكمن جمالها. إن الدمج بين الأضداد يكسر التصور التقليدي للشخصية كوحدة متماسكة، ويُقدمها كـ”نصٍّ” متعدد الأبعاد، نص يتضمن متناقضاته في عمقه الداخلي. حيث تبرز “لذة النص” عند بارت؛ بالنسبة لرولان بارت اللذة لا تنبع من المعنى السهل والمباشر، بل من هذا التوتر الدلالي، ومن هذا التحطم الذي يُحدثه النص في لغة القارئ وتوقعاته، مما يُجبره على بناء معناه الخاص. و هذا التفاعل بين المتناقضات هو ما يمنح “لونا” بعدها الرمزي العميق، فهي في القصيدة لم تكن مجرد شخصية، بل كانت أيقونة التعقيد البشري والوجودي. يُعد تعدد الأصوات مفهومًا محوريًا لفهم كيفية بناء المعنى في “لونا”. ولا يقتصر هذا المفهوم على وجود أكثر من شخصية تتحدث في النص، بل يتجاوز ذلك ليُشير إلى تداخل وتصادم وتفاعل دلالات مختلفة ومتناقضة داخل النص الواحد، مما يمنح القارئ مساحة واسعة للمشاركة في إنتاج المعنى. فعندما تقول لونا عن ذاتها: “أنا هلوسة الشعر، رزانة النثر، وحكمته… أنا التناقض بجماله”، فإنها لا تُقدم تعريفًا أحاديًا لوجودها، بل تُجسد فعل تعدد الأصوات بحد ذاته. حيث أن لونا هنا، ليست مجرد شخصية تروي أو تلعب دور الراوي، بل هي مساحة دلالية شاسعة تتكلم بلغات متعددة. فـ”هلوسة الشعر” تحمل دلالات اللاوعي، والانفلات من قبضة المنطق، والجمال الذي يتجاوز حدود العقلانية، بينما تُقدم “رزانة النثر وحكمته” دلالات العقلانية، تعتمد على المنطق، والتفكير العميق. و دمج هذين الصوتين المتنافرين داخل هوية واحدة هو ما يحقق التعدد الصوتي في “لونا”، حيث يُصبح النص حوارًا داخليًا لا ينتهي، يُولد من التوتر بين هذه الأقطاب المتعارضة. فبارت يُشير إلى أن النص الذي يمتلك هذا التعدد الصوتي هو ما يُولد “لذة النص”. واللذة كما قلنا لا تنبع من السهولة والوضوح، بل من التعقيد، التوتر، وحتى من “التحطم” الذي يُحدثه النص في توقعات القارئ. فعندما تُعلن لونا: “أنا التناقض بجماله”، فإنها لا تُشير إلى عيب أو خلل، بل تُعلن أن جمالها يكمن في قدرتها على احتواء هذه الأضداد والتوفيق بينها. وبالتالي فإن هذا التناقض ليس للتشويش، بل هو دعوة للقارئ ليُشارك في بناء معنى جديد لهذه الأضداد، مما يُجبره على رفض المعنى السطحي، والتنقيب عن المعاني الخفية، وفي النهاية، إنتاج دلالات جديدة تُحوّله إلى كاتب مشارك. و استعارة “أنا سلك يمتد بين قطبي الحياة” تُعمّق هذا التكسير والبناء. “السلك” كدال مادي، يُكسر معناه الوظيفي المحدود (موصل كهربائي)، ليُعاد بناؤه كدال على قوة الترابط الكوني، والتوتر الوجودي، وتكامل الأضداد. وهذا التكسير للمدلول يُحوّل السلك إلى ميتافورا حية ومولّدة للمعنى، فهي لا تصف شيئا، بل تخلق شيئا جديدا في وعي المتلقي. هكذا يُجبرنا النص على رؤية الحياة لا كخط مستقيم بسيط، بل كشبكة معقدة من الأقطاب المتناقضة التي يُولّد توترها المستمر المعنى والطاقة والحياة نفسها. وهذا هو ما يسميه بارت “النص النجمي”، حيث تتناثر الكلمات كنجوم متلألئة، وكل كلمة تحمل طاقتها الدلالية الخاصة وتتصل بالكلمات الأخرى في شبكة واسعة من المعاني، لا تكتمل إلا في ذهن المتلقي. فاعتبار “لونا” كـ”شمعة” و”معنى وجود” قد تخلق تفاعلاً دلاليًا يجعل النص ليس مجرد قصة أو وصف، بل تجربة لغوية حسية و ذهنية عميقة، تُشعل في القارئ شرارة تأملية تتجاوز حدود النص المكتوب . و في هذا الفضاء البارتي، القصيدة لا تُعد إناءً يحتوي المعنى وينقله، بل هي ورشة يُصنع فيها المعنى باستمرار. والشاعر هو المشغل للغة، يُفككها ويُعيد تركيبها، والقارئ هو المشارك الفعال في هذه العملية الإنتاجية. و”لونا” هنا هي جسد العلامات المفتوح، حيث حولها الشاعر من كائن مادي أو عاطفي، إلى مجموع هذه التكسيرات اللغوية والبناءات الدلالية التي تجعل النص متعدد الأصوات، وتجعله متجذرًا في اللامحدودية الدلالية. وهذا ما يجعل القصيدة حيّة ومتجددة باستمرار؛ لأنها لا تنتهي عند قراءتها، بل تستمر في إنتاج المعاني في كل مرة يُعاد فيها تكسير لغتها وبناء دلالاتها في وعي قارئ جديد، في تجسيد حي لمقولة بارت: “النص هو العمل الذي لا يكتمل”. وهذا التعدد الصوتي يُثري تجربة القارئ ويُعزز العلاقة بينه وبين النص.