لو
تقف على الجهة الأخرى من النافذة.
تسمع صوت خطواتك تنهال على جسد الطريق.
الطريق التي تغوص جرحا،
في خاصرة الخراب.
تبحث عن البحر الذي كان يستلقي على شاطئك.
لاشيء سوى الخراب..الحجر.
لاصوت…عبور صامت للظلال.
على رؤوس المنازل،نبتت أحلام للبشر.
لاشيء سوى الرمال.
الهواء أصم لا يسمعك.
لاتصغ لعواء الذئب داخلك.
تلملم الحنين الذي يتعثر في أنفاسك.
تمد يدك.
تلتقط سحابة هاربة،عارية القدمين.
اسحبها برفق.
لا تمزق صدرها بأصابعك.
هنا..فوقك تماما.
اثقبها بقبلة.
دع شغفها يلبسك.
ودعها تهمس:
لو أستطيع فقط…أن أنفيهم وأبقيك.
القراءة : جوتيار تمر
تعطينا الشاعرة في قصيدتها ” لو ” انموذجا توظيفيا مهيمنا للعنوان، بحيث تجبرنا على الانصياع لمسار العنوان داخل المنظومة النصية التي تعتمد على الصياغة الأنموذجية لفلسفة التسمية التي تحظى بها في الكينونة البنيوية للنص،باعتبارها هي آلية التعيين والتحديد في آن واحد ، لأن المنظور التركيبي للاسم في ظل علاقته بالعنوان ـ بوصفه دالاًّ علامياً ظاهراً وباطناً في الوقت ذاته ـ يتحدد من خلال التوافقية التضافرية العالية في الوظيفة التي يؤدّيها كلّ منهما، وعلى هذا الأساس يجب أن تتعامل القراءة مع العنوان بوصفه مفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي، يجري الكشف عنه عبر أنموذجه الصياغي وما يتكشف عنه من دلالات ورؤى وقيم من جهة، وعبر تجلياته في المتن النصّي من جهة أخرى.. وضمن هذه الاطار الاجمالي جاء عنوان القصيدة ” لو ” مترابطاً منذ الوهلة الاولى بالحدث النصي بصورة تبرز القيمة العلائقية بين المضمون والعنوان.. ف ” لو ” جاءت كمدحل خطابي موجه الى الاخر” لو : تقف على الجهة…. تسمع صوت… الطريق التي….. في خاصرة الخراب…”، من يتتبع المتلازمات التي اوجبتها لو، سيجد بانها كلها افعال ذات حراكات منوعة وبايقاعات داخلية وخارجية متوالية، تجعل من الحركية النصية بايقاعها تفتحان للبلاغية التصويرية البؤر المنتجة للتخييل، مما يعني بان عملها البؤري لا يتوقف على مستوى التوليد الدلالي النابع من سيميائية التشكيل اللغوي حسب، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في الإفادة من خواص التشكيل البلاغي ومجدها بالمؤثرات البصرية التي تنتجها المفردات لتتشكل منها اجمالا المساحات الشعرية التي تتجاوز بعمقها المفردة نفسها…لاسيما انها من خلال احداثها الضجة الايقاعية تجعلنا نعيش وقع الرؤية وصداها، ولاشيء في هكذا قصائد يضاهي صوت الجرح والخراب.
تبحث عن البحر الذي كان يستلقي على شاطئك.
لاشيء سوى الخراب..الحجر.
لاصوت…عبور صامت للظلال.
على رؤوس المنازل،نبتت أحلام للبشر.
لاشيء سوى الرمال.
العمل على تجلي الخطاب الشعري ضمن بؤره المتعددة جعلت الشاعرة تلجأ في صياغاتها للرؤية الى تتبع الخطاب المرجعي الذي يتيح للبناء ان يتحقق باعتبار ان مفرداتها وتراكيبها اللغوية تثير حدثاً لاسيما تلك التي تحاول من خلالها ان تربط الحدث ببعضه موحدة ومنظومة متلاحمة ومتنامية داخلياً وخارجياً معاً، وهذا بالضبط ما تريده الشاعرة في توليفاتها النصية هنا، فالبحث حدث ” تبحث عن البحر…….” ولكن النتيجة تبرز معالم الحكمة التي تريد ان تؤثثها معالمها من خلال احداث الصدمة الشعرية والتي تتمظهر وتبرز من خلال الحتمية التي اكدتها الشاعرة سواء من خلال مفرداتها ” لاشيء سوى الخراب.. الحجر.. لاصوت.. صامت..الرمال..” والتي تبدو لي وكأنها كلها حتمية ناتجة من الاحتمالية التي فرضها العنوان من البداية ” لو ” وكأن الشاعرة تتعمد جرنا الى هذه العوالم الافتراضية لتقول لنا بأن الملموس المرئي عالم غير مقبول بتاتاً، وان لديها في مخيلتها عوالمها الخاصة التي لو لم تكن هذه الموجودة لكانت تلك الملاذ… وهذا ما يمكن يستدل به من خلال ذكرها ل ” احلام البشر…” والحتمية المرافقة ل ” لا ” في النص .. والتي في مضمونها النافي والناهي من بعد ذلك تعطي انطباعاً حول مدى تأثر الذات الشاعرة بمحيطها البراني، مما تمخض عن تفاعلها وانفعالها هذا الحدث النصي المتوالي عبر سلسلة تداعيات مرتبطة بالاحتمالية ” لو ” .
الهواء أصم لا يسمعك.
لاتصغ لعواء الذئب داخلك.
فنزوح الشاعرة الى البرانيات غير الملموسة والمعتمدة على الذهنية المستفزة امر يستدعي التأمل، لاسيما انها تحبذ استخدام التضاد في انفعالاتها الشعرية وتفاعلها الحدثي المميز داخلياً والبارز تشكيلاً من الخارج، فحين نجمع ” الهواء… العواء ..” ضمن سياقات تمنطق الرؤية وفق نسق ” أصم.. لايسمع.. لاتصغ..” فاننا بلاشك امام حدث يتفاقم داخلياً ويؤثر على الحراكات النفسية لذا بالتالي نلامس تأثيراتها البلاغية التي تتوجه نحو التوحش والشدة ” لعواء الذئب داخلك..” فداخلك هنا ليست مجرد تعبير يمكن عبوره ضمن فهم بسيط وسلسل، انما علينا التأمل.. فعواء الذئب ليس صورة هشة يمكن تجاوزها بمجرد تخييل الصورة .. لانه هنا نابع من الداخل، مما يعني جدلية الذات والذات الاخرى، وبالتالي يعني المؤثرات الجوانية/ الداخلية المستفزة للذات الشاعرة التي تلجأ الى التوحش في استخدام معجمها، وبالتالي السؤال الذي يثير نفسه ما هو حجم المعاناة الداخلية وما مدى تأثيرها النفسي والانفعالي على المكنونات الذاتية بكل تمفصلاتها..؟ وبالتالي الاتجاهات التي يمكن تتخذها هذه النفس في صياغاتها الاتية.. ؟.. باعتبارها مهما يكن فهي داخل جسد تمتلك روحاً، قد تؤثر على مساراتها العوائية.. لتلتجأ الى سياقات اكثر هدوءً واتزاناً.
تلملم الحنين الذي يتعثر في أنفاسك.
تمد يدك.
تلتقط سحابة هاربة،عارية القدمين.
اسحبها برفق.
لا تمزق صدرها بأصابعك.
هنا..فوقك تماما.
اثقبها بقبلة.
دع شغفها يلبسك.
ودعها تهمس:
لو أستطيع فقط…أن أنفيهم وأبقيك.
هذا بالضبط ما مهدنا له من خلال المواكبة السابقة للحدث النصي ضمن سياقاته الدلالية البنيوية والسياقات النفسية التي تملكت الذات الشاعرة فاخرجتها من مسارها، ولكنها ما تلبث ان تستعيد نمطها العادي النابع من روحها الخطابية التوجيهية المهيمنة عليها اولاً وعلى حالتها الداخلية ثانياً، بحيث نلاحط كيف انزاحت من الصورة المتوحشة للداخل ” عواء الذئب…” لتلملم الحنين… على الرغم من كونه حنيناً متعثراً.. لكنه حنين يرافق الانفاس.. مما يعاني انه في صراعه مع العواء انتصر.. لذا التجأت الشاعرة هنا الى مداليل اكثر حركية، وما اعنيه ليس بحركية الصورة فقط، انما حركية ملموسة مادية.. فخطابها مباشر وموجه وموحي بحيث نجدها تتمرد على الجمل المرجعية لتشكل معالم جمل غير مرجعية ” تمد يدك….تلتقط.. اسحبها…… لاتمزق……اثقبها…….. دع …… ” ، فكل هذه الجمل نلاحظ فيها القيم العلائيقية التراكمية التي ذات الحراك التصويري والمادي معاً، وبذلك تردينا الشاعرة ان لانبقى ضمن الايقاعات الداخلية التي قمنا بتصورها منذ الوهلة الاولى للحدث النصي، انما تريدنا ان نوسع المدى التخيلي لدينا، كي يتلائم مع حجم المنظومة البلاغية والحركية التي تنامت مع الحراكات النصية السابقة، وبالتالي نستمع معها للايقاعات وهي تتمرد على الداخل، لتعانق البراني بجدلية وحوارية تكاملية متناسقة.. وهذا الخطاب المرجعي الذي اعتمدته الشاعرة جعلت بالفعل من بناء القصيدة بناءَ متكاملاً ومتوازياً مع اغلب الحراكات البلاغية والنفسية، فالشاعرة بهذه المفردات خلقت جواً تفاعلياً انفعالياً اخراً بطلها المتلقي.. فاصبح هو الاخر ضمن هيكلة الحدث، لكون الشاعرة استطاعت ان تخرجه من المتفرج الى المؤثر في كينونة الفعل والحدث نفسه، فالاخر نفسه حراكه مرهون بالحركات البرانية.. ” تلتقط سحابة.. اسحبها برفق.. لاتمزق صدرها .. فوقك تماما..” ، حيث افرزت هذه التفاعلية البرانية والالتقاطات الصورية تمازجاً ابداعياً بين الحراك الداخلي والخارجي وكأن كلاهما مخاض للاخر، وبالتالي جاءت ” اثقبها بقبلة..” لتفضح الكثير من المكنونات التراكمية وتجعل من المنحنى الدلالي يتخذ شكلاً من اشكال النصوص المتخيلة لكون النص نفسه يفرض عليه هذا النمط التخيلي باعتباره نص مرجعي خطابي موجه” دع شغفها يلبسك.. ودعها تهمس..” فالمتلقي هنا بلاشك لن يجد نفسه الا وقد ترك خياله يشتغل ليتفاعل ذاتياً مع الاسئلة التي ستأتي طوعياً جراء تلاحمه مع الحدث الشعري.. وستجعله بالتالي يستعد ممكنات الرؤية النصية منذ البداية لاسيما ان الشاعرة بذكاء وحرفية ختمت النص بطريقة تثير الدهشة، وذلك باعادتها الختمة للعنوان”لو أستطيع فقط…أن أنفيهم وأبقيك…” ، لتخلق بذلك صورة منفحة على الكثير من التخيلات، والتأويلات.. ف” لو ” هنا صادمة محققة لغاياتها .. لكونها تسعى لحسم الجدليات السابقة التي امتزجت فيها النهي والنفي والتوحش والحنين والسعي لاحداث تغيرات وقبلة ضمن جغرافية الجرح والخراب.