بقلم/ عيشة صالح
رواية السرداب ٣٧ للكاتب ذو يزن الشرجبي من الأعمال الأدبية التي تمزج بين أدب الرعب والخيال العلمي، مقدمة تجربة سردية فريدة في الأدب اليمني المعاصر. من خلال تحليل هذه الرواية، يمكننا استكشاف البنية السردية، الشخصيات، والرموز والأنساق التي تشكل هذا العمل الأدبي.
ملخص الرواية:
تدور أحداث الرواية في قالب من الرعب النفسي والخيال العلمي، حيث يستيقظ البطل معاذ شوقي في مكان مجهول لا يعرف كيف وصل إليه، فاقداً جزءاً من ذاكرته، ومحاطاً بممرات معتمة وسراديب موحشة، ليكتشف لاحقاً أنه داخل منشأة سرية تُجرى فيها تجارب علمية مرعبة على البشر.
يلتقي معاذ بفتاة صغيرة تُدعى وداد، تكون دليله في هذا العالم الكابوسي، ويواجهان معاً مسوخاً بشرية مشوهة نتيجة تجارب بيولوجية فاشلة، وصراعات مميتة، ومحاولات للهروب من قبضة القائمين على المشروع الغامض. تتكشّف التفاصيل تدريجياً، ليكتشف معاذ أنه أحد ضحايا تجربة علمية معقدة تهدف إلى التحكم بالعقل والجسد، وأنه ووداد ليسا إلا عينتين ضمن مشروع سرّي ضخم يُدار في السرداب رقم ٣٧.
الرواية تمزج بين الخيال العلمي والرمزية الاجتماعية، وتُسلّط الضوء على العبث الإنساني بالعلم حين يُستخدم ضد الإنسان نفسه، كما تطرح أسئلة فلسفية حول الهوية، الحرية، والذاكرة. نهايتها المفتوحة تترك القارئ في توتر وجودي وتساؤل: هل نجا معاذ فعلًا؟ أم أنه ما زال حبيس التجربة؟
البنية السردية:
تتبع الرواية هيكلاً سردياً تقليدياً يبدأ بالتقديم، حيث يُعرّف القارئ بالبطل معاذ شوقي، الذي يجد نفسه في موقف غامض ومخيف. يتطور السرد من خلال سلسلة من الأحداث المتصاعدة التي تزيد من التوتر والغموض، وصولاً إلى الذروة التي تكشف عن الأسرار المحيطة بالسرداب والتجارب التي تُجرى فيه. اعتمد الكاتب تقنية السرد بضمير المتكلم، مما يتيح للقارئ التعمق في تجربة البطل النفسية والانفعالية.
“وقفت مشدوهاً مسمراً كلوح خشبي وقد جال بعقلي ألف هاجس لف في مخيلتي عاصفاً بجموح، ولفظاعة المشهد غير المستوعب طفقت تتجلى في مخيلتي ذكريات قديمة ولى عنها الزمن منذ أمد سحيق” الشرجبي ٨٢
الحبكة تتبع منطقاً دائرياً؛ حيث يبدأ النص في غموض وينتهي به، وهو ما يعكس الفكرة العامة عن عبثية القهر وتكراره.
استخدام أسماء مشحونة دلاليًا مثل “وداد” و”السرداب”، يعزز البنية الرمزية للنص.
الشخصيات والرموز:
معاذ شوقي: يمثل البطل الرئيسي، وهو شاب يجد نفسه في مواجهة قوى خارقة وتجارب علمية مروعة. يمثل معاذ إلى الإنسان العادي الذي يُجبر على مواجهة مخاوفه الداخلية والخارجية.
الطفلة وداد: تمثل البراءة والضعف في عالم مليء بالشرور. وجودها يسلط الضوء على تأثير الأحداث المروعة على الأبرياء.
المسوخ البشرية: ترمز إلى النتائج الكارثية للتلاعب بالعلم دون مراعاة الأخلاقيات، وتعكس الجانب المظلم من التقدم العلمي.
“كان الوجه الآدمي ذا بشرة مقفرة كوجه السلحفاة، تجردت تماماً من كل خصل الشعر، حتى الجفنين والحاجبين جسد مجهول منتصب في سجنه الأبدي منساقاً قسراً يلتفت أمامه صوب المجهول، يُغلق عينيه نحو انجراف سحيق في سبات عميق مسالم ورتيب، أخذت في لمحته الفاترة كل سكون العالم وهدوئه” الشرجبي٨٣
الرمزية والمضامين:
تعكس الرواية صراعاً بين الخير والشر، حيث يُجبر البطل على اتخاذ قرارات تحدد مصيره ومصير الآخرين. كما تسلط الضوء على قضايا مثل فقدان الهوية، التلاعب بالعلم، وتأثير التجارب القاسية على النفس البشرية. تُستخدم الرموز مثل السرداب والمسوخ البشرية لتجسيد هذه المضامين.
“دفعت مخاوفي جانباً، فما الذي قد أخسره بعد هذه النقطة، إلا أن الواقع المتجلي ينبئ بخسران الكثير، ولكن إذا تراجعت الآن وعدت هارباً. من غيري يستطيع اكمال رحلة الغوص صوب المصير الجهول.”الشرجبي٢٠٩
اللغة والأسلوب:
استخدم الكاتب لغة مليئة بالتفاصيل، والأوصاف الدقيقة وأحياناً التكرار، لخلق صور حية للأماكن والشخصيات، وإضافة مزيد من تأثير الأحداث على القارئ.
” كانت نوافذ الغرفة موصدة بالكامل بقضبان حديدية كالشباك، ملأت محيط النافذة كطبقة ثانية أضيفت عمداً صدمني ذلك المشهد المخيب حينها لأقصى حد وقذفني بانفعال أنساني معه الهدف من صعودي والإحساس بالموجودات”الشرجبي٢٥
بتحليل الأنساق الثقافية المضمرة في الرواية بهدف كشف ما يخفيه النص من خطابات ثقافية وسلطوية تعمل خلف الواجهة السردية، تبرز الأنساق التالية:
1. نسق السلطة العلمية المنفلتة:
الرواية تكشف عن نسق مضمر يتعلق بجنوح السلطة العلمية عندما تتحرر من الأخلاق. تظهر التجارب في “السرداب” كنموذج لمؤسسات علمية تتحكم في الأفراد وتتعامل معهم كـ”عينات اختبار”. هذا النسق يفضح خضوع الإنسان الحديث لسلطة العلم والتكنولوجيا التي قد تفقد بُعدها الإنساني. وهذا يدل على أن التكنولوجيا ليست أداة حيادية، بل قد تصبح أداة للهيمنة والتحكم.
2. نسق اغتيال البراءة:
وجود الطفلة وداد في بيئة مشوّهة ومفزعة يرمز إلى اغتيال الطفولة والبراءة في عالم فقد إنسانيته. تمثل وداد صورة مكثّفة لما تفعله الحروب والنزاعات بالمجتمعات، حيث يُشوّه مستقبل الأبرياء ويُزجّ بهم في عوالم لا يفهمونها. وفي هذا دلالة نسقية على أن الطفولة رمز السلام والنقاء يتم انتهاكها ضمن أنساق العنف والفساد والخراب المجتمعي.
3. نسق الانفصال عن الجذور:
البطل، معاذ شوقي، يعاني من فقدان الذاكرة، وهو ما يمكن تفسيره كرمز لـفقدان الهوية والانفصال عن الذات والذاكرة الجمعية. هذا النسق يفضح ما أحدثته الحداثة المدمرة والحروب من تغريب الإنسان عن جذوره وأصالته. وهنا دلالة على أن الإنسان في المجتمعات المعاصرة ضائع في سرداب من العزلة والانقطاع عن المعنى.
4. نسق الإنسان بوصفه مشروعًا للتجريب:
ظهور “المسوخ البشرية” يشير إلى نسق مهيمن يعتبر الإنسان كائنًا قابلاً للتحوير والتجريب دون ضوابط. هناك خلفية فلسفية وبيولوجية تشير إلى نظرية “ما بعد الإنسان” و”تفكيك الجسد” في ظل السلطة البيولوجية. وفي ذلك يتجلى إنكار الذات الإنسانية وتحويل الجسد إلى كيان مستلب ومشوَّه يعكس خضوع الإنسان لمؤسسات متوحشة.
5. نسق العبث الوجودي:
الخيارات التي يُجبر البطل على اتخاذها في بيئة سوداوية تشير إلى نسق العبث واللاجدوى، حيث يبدو العالم الفاضل الذي يجري التجارب لخير البشرية، بلا منطق، والنجاة ليست نتيجة للفضيلة، بل للحظ أو التكيف مع العبث. وهنا يتجلى الخطاب الوجودي في الرواية يستبطن نقداً للحياة المعاصرة بوصفها سلسلة من الاختبارات القاسية بلا إجابات حاسمة.
٦. نسق القهر المؤسسي: تمثله المنشأة التي تحوّل البشر إلى أدوات تجريب، دون أي بُعد إنساني. ويشير هذا إلى إسقاط على السلطة السياسية أو الأيديولوجية التي تطحن الفرد.
٧. نسق الذاكرة والهوية: فقدان معاذ لذاكرته يشير إلى فقدان الإنسان العربي لهويته الفردية والجمعية تحت ضغط الأنظمة والعنف.
من خلال قراءتنا النقدية سجلنا بعض الملاحظات التي تدعم تجربة الكاتب فيما بعد ومنها:
أن اللغة تميل أحياناً إلى التقريرية بينما الشعرية تتناسب مع الموضوع، أو التنويع الأسلوبي.
الشخصيات الثانوية فاعلة، ومع ذلك تحتاج أن تؤدي أدواراً وظيفية مع مزيد من العمق.
البيئة الروائية رغم التفاصيل إلا أنها لم تُفصَّل بما يكفي لبناء عالم تخييلي ملموس بصرياً.
ونبرة الصوت تبدو متقاربة لدى جميع الشخصيات.
في الختام، تُعد رواية السرداب ٣٧ للكاتب ذو يزن الشرجبي تجربة سردية جريئة ومغايرة في سياق الرواية اليمنية الحديثة، إذ تفتح أفقاً جديداً لاستثمار الخيال العلمي وأدب الرعب في التعبير عن أزمات الإنسان المعاصر وهواجسه الوجودية. لقد استطاع الكاتب أن يُزاوج بين البُعد النفسي والفلسفي، وبين الرمزية الثقافية والنقد الاجتماعي، مما يمنح الرواية عمقاً يتجاوز سطح الحكاية. وبرغم بعض الملاحظات الفنية، فإن العمل يشكل إضافة نوعية تستحق التقدير، ويؤكد أن الرواية اليمنية قادرة على مواكبة التحولات الجمالية والفكرية في الأدب العربي والعالمي.