بقلم: نضال الخليل (بصرى الشام _سوريا )
البنسيون كمختبر للوجود والتوتر النفسي في الشارع الخلفي
 للروائي محمد فتحي المقداد 
في «بنسـيون الشارع الخلفي» لا يكون المكان مجرد خلفية للحدث ولا الزمان مجرد سلسلة من اللحظات المتعاقبة – المكان والزمن يتشابكان ليصبحا كيانًا حيًا يختبر الإنسان ويعيد تشكيله في كل لحظة
البنسيون في ضيقه الظاهر يتسع داخليًا يصبح فضاءً للاختبار النفسي والفلسفي، مساحة تتكدس فيها الذاكرة وتتراكم فيها الانكسارات وتتشابك فيها الرغبات مع القيود المفروضة من الجدران والأبواب والممرات الملتوية.
كل زاوية فيه تحمل سؤالًا عن الحرية، كل باب مغلق أو مفتوح جزئيًا يطرح سؤالًا عن الحدود، كل ضوء خافت أو ظل طويل يذكّر الإنسان بأنه محاصر، محاصر في ذاته وفي المكان وفي الزمن، محاصر في مصيره
المقداد بصفته راصدًا ومحللًا نفسيًا لا يكتفي بوصف الأحداث بل يغوص في أعماق الشخصيات يلتقط التوترات المخفية ويبحث عن الصراعات التي تتشكل في الصمت، في الانتظار، في حركة بسيطة تمر على وجه أو يد.
كل ساكن في البنسيون يمثل حالة إنسانية، تجربة فريدة تتقاطع مع تجربة الآخرين.
الجديد يصطدم بالمعتاد والمعتاد يحاول التمسك بما تبقى من هدوء أو سيطرة على نفسه بينما المكان يفرض عليهم قوانينه، قوانين خفية، ضاغطة تصنع اختبارًا دائمًا للقدرة على الصمود والتحمل
اللغة في الرواية لغة الالتواء، لغة المشاهدة الدقيقة لما قد يبدو عاديًا لكنها في جوهرها لغة تفكيك للكائن البشري، للهوية، للعزلة، للقلق المستمر من الانكسار.
الباب المغلق ليس مجرد باب بل هو الحدود التي يضعها الإنسان لنفسه وللآخرين، الغرفة الضيقة ليست مجرد مساحة صغيرة بل هي اختبار للتوتر النفسي، اختبار لصراع الفرد مع ذاته ومع الرغبات المقموعة الممرات الملتوية ليست مجرد صعوبة في الحركة بل انعكاس للتقلبات الداخلية، للطرق التي يتخذها الإنسان بين الانعزال والارتباط، بين الحنين إلى الماضي والخوف من المستقبل، بين الرغبة في الحرية والالتزام بواقع المكان والمجتمع.
المكان هنا يضغط، يختبر، يكشف هشاشة الإنسان ويبرز حدود قدرته على المقاومة والتحمل
البنسيون يصبح مرآة للعالم الكبير مختزلًا لكل التناقضات الإنسانية والاجتماعية والسياسية.
تتقاطع المصائر فيه كما تتقاطع في المدينة ولكن المكثف يضاعف التجربة يجعلها أكثر وضوحًا، أكثر حدة وأكثر مأساوية.
الشخصيات التي تعيش هنا لا تختبر المكان فقط بل تُعاد صياغتها باستمرار تتفاعل معه ومع بعضها بطريقة تجعل كل لحظة اختبارًا جديدًا – اختبار للصبر، للفهم، للتحمل، للهروب وللرغبة في مواجهة الذات
الحياة العادية في الرواية تتحول إلى تجربة استثنائية لأن المقداد لا يتوقف عند السطح بل يغوص في الأعماق، في صراع النفس المستمر، في التوتر بين الرغبات الفردية والقيود المفروضة بين الماضي والحاضر، بين الحرية والانكسار.
كل حدث صغير يصبح علامة فلسفية، كل حركة أو صمت يعكس صراعًا داخليًا وكل تجربة شخصية تُضاف إلى النسق الأكبر لتكشف عن هشاشة الإنسان في مواجهة المكان والزمن والمجتمع
الزمن في الرواية ليس خطيًا بل يتلوى كما تتلوى الشخصيات والممرات الماضي لا يمر بل يظل حاضنًا للحاضر يفرض على الشخصيات ذكريات لا تهدأ وجروحًا لا تلتئم ورغبات تتشابك مع خوف من المستقبل.
المكان يصبح مسرحًا للفلسفة الحية، للبشرية المكثفة حيث تصبح التفاصيل الصغيرة علامات للتأمل:
الباب الذي يُفتح أو يُغلق، النافذة التي تسمح بدخول الضوء أو تمنع الرؤية، الصوت البعيد الذي يذكر الشخصيات بأنهم جزء من كيان أكبر يضغط عليهم دائمًا
الشخصيات هنا ليست مجرد أشخاص هي حالات إنسانية: الانعزال والوحدة، البحث عن معنى والحاجة للهروب، الرغبة في الاتصال والخوف من الانكسار، الحنين والخوف، الصراع بين الذات والآخر، بين الرغبة في الحرية والواقع المهيمن.
كل شخصية تتفاعل مع المكان بطريقة تكشف عن عمق التجربة الإنسانية، عن هشاشة الوجود، عن مأساة الحياة اليومية التي قد تبدو عادية من الخارج لكنها مليئة بالأسئلة المصيرية عندما تُعاش من الداخل
البنسيون بهذا المعنى يتحول إلى نص فلسفي حيّ يلتوي فيه الواقع مع الرمزية يصبح مكانًا للاختبار الدائم، للمعاناة، للتأمل، للتساؤل المستمر:
- كيف نعيش ونحن معرضون للانكسار؟
- كيف نتعامل مع الذاكرة التي لا تهدأ، مع المكان الذي يضغط علينا ومع الآخرين الذين يختبروننا أيضًا؟
- كيف نصمد أمام تقاطع المصائر، أمام ضيق المساحات، أمام الصمت المستمر الذي يفرضه المكان والزمن؟
الرواية تقدم تجربة وجودية متكاملة حيث يصبح البنسيون مسرحًا للحياة المكثفة، مكثفة كما لو كانت كل زاوية فيه تحمل العالم كله وكل باب يمثل حدود النفس البشرية وكل ممر ملتوي يعكس طرق التفكير والخيارات والتقلبات الداخلية للشخصيات.
المقداد من خلال اللغة الدقيقة، من خلال الملاحظة المستمرة يكشف كيف أن كل تفصيل مهما بدا صغيرًا يحمل دلالات فلسفية عن الحرية، عن الهوية، عن الانكسار، عن القدرة على الصمود وعن هشاشة الإنسان في مواجهة الواقع
اللغة، الالتواء، الرؤية الدقيقة، التركيز على التفاصيل الصغيرة كلها أدوات تجعل من الرواية دراسة نفسية وفلسفية عن الإنسان، عن وجوده، عن هشاشته، عن صراعه المستمر لإيجاد معنى وسط قسوة الحياة كل زاوية، كل ساكن، كل حدث صغير يصبح جزءًا من تجربة أكبر، تجربة الإنسان في مواجهة ذاته والمجتمع والمكان والزمن، تجربة الحياة المكثفة، تجربة الصمود والهروب في آن واحد
وهكذا تتحول الرواية إلى نص فلسفي متشابك، نص يلتوي فيه الواقع مع الرمزية يختبر الإنسان في كل لحظة ويكشف عن مأساة الإنسان وهشاشة وجوده، عن غياب البساطة في حياة تبدو مجرد مساحة انتظار وتأمل، تقاطع للمصائر ومكان لتجربة الإنسان مع ذاته ومع الآخر في مواجهة قاسية للحياة نفسها حيث يظل السؤال قائمًا بلا توقف:
- كيف نعيش ونحن نعرف أننا معرضون للانكسار، أننا جزء من لعبة المكان والزمن والمصائر؟
في النهاية «بنسـيون الشارع الخلفي» ليس مجرد رواية بل دراسة فلسفية للنفس البشرية، مساحة مكثفة للتجربة الإنسانية، نص يضغط على القارئ كما يضغط المكان على ساكنيه، نص يحاكي التوتر بين الرغبة والواقع، بين الحرية والانكسار، بين الذات والمجتمع، نص يتلوى كما تتلوى الممرات ويتداخل كما تتداخل الشخصيات ليترك في النهاية القارئ أمام سؤال جوهري لا ينتهي:
- كيف نعيش ونحن نعرف أن الحياة في ضيقها ومكثفها اختبار مستمر للوجود ومسرح دائم للمصائر المتشابكة؟
 آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية
				