القاص والكاتب توفيق جاد الله في مجموعته القصصية (الصرير)، التي تقع في إحدى عشرة قصة،هي من القصصِ التي ترصدُ الواقعَ وتمنحُ النصَّ القصصيَّ مذاقاً مختلفاً قادراً على الكشفِ والغوصِ في دقائق الأمور فقد امتازت قصصُ الكاتب بأنساقٍ لغويّةٍ واضحةٍ ومعانٍ محدّدة، تُظهر الأحداثَ بوضوح دون غموض، فاستطاع الكاتب أن يثير في نفس المتلقي جملة من التساؤلات من مثل تناقضات هذا الواقع عبر الذات المغتربة أو الإنسان/الفرد داخل بناء اجتماعي تتهاوى معطياتُه، وتمَكَّنَ من تجسيد الواقع من خلال استخدامه لغةً تصويريةً تستمرىء التفاصيلَ النابضةَ الحيةَ ؛ التي من شأنها أن تمنحَ اللحظةُ القصصيةُ بناءً محكماً بارعاً في السرد، فتتسرب أحداثه بخفة ورشاقة لتملأ نفوسنا فرحاً شجياً حين الفرح وتبث الارتعاش اللذيذ حزناً وتعاطفاً حين الألم.
هي نصوص قصصية ترصد الممكن والمتاح وتزاوج بين الاتجاهات النفسية حين تعبث بها الأقدار فتُغرق المتلقي في الشجن المتواطئ مع الحزن تارة ومع الفرح تارة أخرى، أو تعبث به حين تمزقه الأسئلةُ في انتظار الإجابات.
فكانت للكاتب القدرةُ على استلاب مشاعر القارئ في الولوج مع شخصيات قصصه ، الهامسة القريبة من القلب ، حتى استطاع أن يقنعه على الدوام بحقيقة القصة وحقيقة بنائها الذي يعتمد في كثير منه على السرد المختزل الذي يزهو باللغة دون تعقيد وينقلُ خبرة المُروى عنه إلى مخزون الخبرة الإنسانية للمتلقي. من خلال تفاصيل ورؤى وحنين بمنطق السينما أحياناً، والحكاية أحياناً أخرى، كما في قصصه؛ (الحدس،واللقيط، وحنان، ورفيف، والصرير ) فهى قصص تقدم الملامح الإنسانية الواقعية لمجتمعنا، تجتمع فيها صورتا العقل والوجدان ؛ لتجذبَ القارئ وتشدَّه من أول لحظة فتقدمُ الجانبين؛ الملموس من حياتنا والمخفي في نفوسنا بالإضافة إلى التركيز على القيم الأخلاقية وأهميتها، من خلال تصوير الواقع المفعم بالأحلام والأحزان والآلام معا.
وعلى مستوى الأحداث تظهر القصص نوعا من التواصل بين العلاقات الداخلية والخارجية كافة، فنرى وحدة المكان والزمان وبناء الشخصيات بشكل متنامٍ، لا يغفل الكاتب فيه السرد الحكائي الذي يهتم بمكنونات اللغة لإضاءة النص، فهذه العناصرُ مجتمعةً تقدم ملامح الواقع اليومي بصدق مليء بالخبرة الإنسانية التي تنعكس على عوالم الشخصيات وعلى لغة الكتابة. فيستلهمُ الكاتبُ مفرداتِ السرد من وجود وعيِ حقيقة الشخصيات وموقفها من العالم الخارجي، فهو عالم مفتوح على جرح الآخر والذات معا.
وتقتحم هذه النصوص مناطقَ متعددةً في بنائها التلقائي وتوظف إمكاناتِها المختلفةَ ولوجاً لتسبر أغوارَ النفسِ الإنسانيةِ إعلاءً لقيمة الإنسان داخل بنية اجتماعية وليس فقط كنمطِ حياةٍ، فيصف الكاتب باهتمامٍ أبطال قصصه وصفا دقيقا كأنه يعيش بينهم أو معهم فنشعر بذلك ونتأمل بشوق مايلي من أحداث…
كما في وصفه لشخصية الزوجة (ريما) في قصة اللقيط؛ بقوله:”داعبت النسمات البحرية الربيعية خُصْلات شعرها الأشقر، التي تتدلى على وجنتيها فزادها سحرا فوق سحرها، كانت تلك الخصلات تحمي وَجْنتيها وكأنها تخاطبها في حركاتها وتقول لها قَرِّي عينا يا جميلة فأنا حارسة وردتيك الحمراوين”،
وكذلك في وصفه شخصية حنان بقوله:” حتى وهي في المطبخ لا تتخلى عن أناقتها، تترك مخرجا من الشال الذي تغطي به رأسها، لتنسابَ مقدمةُ شعرها الأسودِ الناعمِ وتغطي بعض وجهها، وكأن غرّتها المقصوصةَ بشكل مائل ستارةٌ لنافذتيها السوداوين”.
فاللغة والحدث كانا متجاورين في كل القصص حيث تتلاحقُ المشاهدُ وتستغرقُ اللحظةُ القصصيةُ وجودَها في عالم المفردات البسيطة التي تتخللُ السردَ وهي تقدم هذا النموذج من الشخصيات الذي يحتاج للسرد الهادئ العميق المقنع الذي يستبيح لنفسه البقاء في نفوسنا، فجمال الحكايات وروعتُها يأتي من تفهمنا لأحداثها وقدرة الكاتب على الالتصاق بوعي المتلقي ، فكانت شخصيات القصص بكل تفاصيلها قادرة على طرح أفكارها ووعيها بمصيرها ووجودها في العالم، رغم الشجن المتعب المورق شجراً من الأحزان.
وفي المجموعة القصصية «الصرير » ، أول ما يلفت النظر هو عنوان المجموعة، الصرير، فهو ذلك اللهاث الذي يُغرِقنا في غياهب العتمة، وهو المحرك لدوافعنا الغريزية، وما يهيم بنا إلى لجة التيه والخوف من عالم مترف بالحزن والهموم..
فنجد الكاتب في أكثر من قصة يتحدث عن الأزمة النفسية التي يعيشها الإنسان ، فيقول:” لقد أزعجني الصرير وأقلقني، وها هو يُعاود إطلاق ذات الصوت…” ، وظل البطل يبحث عنه إلى نهاية القصة حين قال:” أين الصرير…؟ وظل يمشي حتى سمع صوت الصرير بوضوح…هناك بدأ يلهث ثم غاب في العتمة”… فهو دخل في صرير آخر لا مخرج منه.
ونجح الكاتب في استخدام عدد من التقنيات الفنية كان المقصود بها إحداث تراكم نفسي لحياة الشخصيات مع الحدث والواقع المباشر لتقدمَ رؤيةً شفيفة ًراصدة وواعية للواقع تحدث نوعاً من التواصل والتلاقي مع المتلقي تاركةً لهذا الأخير تفاعله مع النصوص بحرية وتواصل دائم،فنجح الكاتب في استخدام تقنية المونولوج الداخلي، كما في قوله في قصة رزان حينما تذكر الأب طفولة ابنته والكلمات التي كانت ترددها:” شبرة أمرة شمس نجوم…يسعد هالوجه المهضوم..أحلى طلة، وأحلى ضحكة، وأحلى غمزة..”، وكذلك في قصة الحدس على لسان محمد :” ما الذي أخرس جسدي كاملا، وكأن مسا أصابه، فعطّل كل أوردتي وأعصابي، أي شيء هذا الذي مكّنتُه مني أو أنني لم أصمد أمامه،أي ضعف أي شلل…” ، وكذلك في قصة الحلم يقول محمد :”ما الحل ، لقد ذكرت أعراض ما أنا فيه للجميع ، لكنني لم أجد من يرشدني إلى الحل حتى الآن”.
وأبدع في استخدام تقنية الحوار فكانت لغة مكثفة كان لها أعذب الأثر في تعميق دلالات النصوص؛ لتبدو أكثر جمالا يتوارى خلف ضباب الكلمات.
وثمة انسجام بين العنوانات المطروحة في بعض النصوص وبين نهاياتها، فقصة “الوصية ” خُتمت بـ “لكنه تغير بوصية في مماته “، وقصة “الصرير ” انسجمت كثيراً مع نهايتها؛ حين ختمها بقوله : ” أوقفه سؤال وكأنه شيئا قاسيا ارتطم برأسه …للمرة الأولى يجده سؤالا لابد وله من إجابة …أين الصرير …أين الصرير …أين الصرير..؟ ظل يمشي ويسأل حتى سمع صوت الصرير بوضوح…هناك بدأ يلهث ثم غاب في العتمة”. وكذلك في قصة “الحدس” ، يقول:”ثم لفّها السراب..وما عادت تحس إلا بصوته، يأتي كوشوشة تأتي من بعيد، وقال أيضا :” والألم يعتصر قلبه” صبرتُ..فصبرت أنت…عانيت…فعانيت أنت ….هذا حدسي، وحدسي لا يكذب..فأنت طالق.