بقلم : الاديب الناقد ابو محمد الصفار
المخيال الفني عنصر خلق رئيسي في العملية الابداعية جميعا خاصة الشعر الذي يتمثل فيه الخيال ازاء الذات وازاء الموضوع وفيهما كذلك متدرجا بمراتب متصاعدة من التصيرات المتخيلة في بدءها يظهر بصيغته الوصفية ثم ينزاح تحليليا والى ابعد واكثر ارتفاعا بصيغته التعبيرية الحيوية التي تفترق حينا بصيغة حيوية او تعبيرية بشاكلة منفردة او مجتمعة من الصيغتين وهي الاغنى والاشد التماعا قاصدا علوا شاهقاً في فضاءات المخيلة الجمالية الرحيبة التي اعتبرها من ارفع ذرىٰ الرؤيا الابداعية الشعرية .
والحقيقة ان اساليب التخيل في الشعر فيها عموم وخصوص . فقسم من القصائد ينهج اسلوبا تخيليا منفردا وصفيا او تحليليا او غيرهما وقسم يجمع الاساليب بعضها او جميعها وقسم ثالث ، في ندرة خلاقة ، يعلن قيامة رحلته الصاعدة في اشتباكات المخيلة الجمالية متألقا بهمومه ومشاغله ، خصوصا الوجودية فكرا وفنا ، في قمة شهودية ، ربما مصيرية ، ينتقيها من مثوله في العالم وبالعكس كما صنعت الشاعرة العراقية البارزة السيدة رجاء الغانمي في النص هذا المميز بمخياله المبهر .
فهي منذ عتبة العنوان كرست كونها تتعقب رائحة الوجود في اللاشيء وفي كل شيء فهنالك ، بنظرها المعمق ، تكمن الحركة بصفتيها الخاصة والعامة وتنتهح تحولاتها الجمالية المتعاقبة المتداخلة في آن معاً امعانا منها في ان الشعر شاهد التجربة في تشكليها الخاص والعام وهو مآلها الذي ينبغي ان يكون عاليا في سلَّم المعارف . سيما عندما تكون :
للوجود رائحة
كما اللاشيء حين يطغى على المكان . .!
وعندما يكون هنالك اشتباك حسي عقلي بصيغة ” عقدة ” مخيالية لاينبري لمهمة قراءتها غير شاهد الناطقية :
جسد ينفذ من جدار
جف منذ العقد الاول من عينيها .
سنابل جراد
لاتحب المطر
فكيف اثبت وجودي؟!
ولكم هي شاسعة هذه الخارطة الحسية العقلية المشتبكة في رؤيا هذه الشاعرة التي لاتبرح عفويتها ابدا وهي تبتكر اعقد الحلقات الزمنية وتشهد عليها خاصة عندما يكون الزمن نفسه بمعناه العقلي طرفا من العين الرائية ذاتها وليس مجرد حادثة فيها في دخيلة الذروة الجمالية التي لا تفرغ من القراءة والتأويل اثناء مواجهة الاخرين مجتمعين :
فوضىٰ الجذور
وسميتموها رحما
عروق تتحلل في الماء
وانا خارج رحم امي
منذ اكثر من خمسين عاما .
فتتحقق اول ارادة تعبيرية في المخيلة الجمالية بلا ادنى افتعال او تكلف وهي الارادة الشعورية ” الواقعية ” التي تستحضر توأمها التعبيري بشاكلة ارادة لاشعورية بمنتهىٰ التلقائية :
بداعي الاستعارة
تلفظ الجينات ما تبقى من موروثها
ولا افقد جينات أبي
أبي لايموت . !
وهذا ليس انسياقا وراء الحراك الذكوري للتاريخ بقدر ما يفصح عن خزين لاشعوري عفوي لدى الشاعرة في ان الانزياح لايعني القطيعة ابدا كونها ، القطيعة ، عاجزة عن القيام بحادثته عكس التواصل الذي يكرس فرصتين للحضور الجمالي الدينامي للحادثة الانزياحية الاولى اعتبارية :
حين يطرق العارفون باب التوبة
اسمع صدى قلوبهم
يعبر الاسباب ..
فالبراءة من التقهقر صدىٰ القلوب جمعاء . وان صدى جميع القلوب هو البراءة وكلاهما وجود اعتباري في حالة وحدة غير قابلة للقسمة بصيغة اعتبارية ترتقي بقراءاتها في الفرصة الثانية الى مصاف التجانس الوجودي بين المثالين الذاتي والموضوعي في المعرفة الجمالية :
خطوة الى امام
وخطوة الى الوراء
في الصحف اسم الله ..!!
لكي تعي الشهوديات جميعا بكلياتها وجزئياتها ان الوجود خطوتان انسانية تبدو الى امام الا انها باسم الله ، برؤيا الشاعرة الوجودية الصوفية طبعا ، قديمة منذ البداء اينما كانت الحوادث في ما مضى او مقبلة فهي بسمه الجميل الذي لا يحق جمال الابه في معنى الوجود الشامل .
وفي هذه الانبعاثات الحركية تضغط الشاعرة الخلاقة و تؤكد ان المخيال الجمالي هو تعقيد حسي عقلي باربع ارادات تعبيرية شعورية ولاشعورية واعتبارية ووجودية عالية التأثير والاستجابة في الفن عموما وفي الشعر خصوصا . وان قصيدة النثر بهذا المجهود الابداعي المميز تتقدم حثيثا نحو صيغتها التقدمية الناجزة في الشعر العربي .
للوجودِ رائحةٌ…
كما اللاشيءِ حينَ يطغى على المكان.
جسدٌ ينفذُ من جدارٍ
جفَّ منذَ العقدِ الأوّلِ من عينيها.
سنابلُ جرادٍ
لا تُحبُّ المطر،
فكيفَ أُثبِتُ وجودي؟
فوضى الجذور…
وسمَّيتموها رحمًا.
عروقٌ تتحلّلُ في الماء،
وأنا خارجُ رحمِ أُمّي
منذُ أكثرَ من خمسينَ عامًا.
بداعي الاستعارة،
تلفظُ الجيناتُ ما تبقّى من موروثِها،
ولا أفقدُ جيناتِ أبي…
أبي لا يموت.
حينَ يطرقُ العارفونَ بابَ التوبة،
أسمعُ صدى قلوبِهم
يعبرُ الأسبابَ…
خطوةً إلى الأمام،
وخطوةً إلى الوراء،
في الصحفِ اسمُ الله….
رجاء الغانمي
العراق
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية