لصحيفة آفاق حرة:
______________
قصيدة راحلون بلا مدى – للشاعر حسن البوريني- قراءة تفكيكية
بقلم- د. سلطان الخضور
اختار الشاعر حسن البوريني لنصه التالي عنواناً ينفتح على الأفق, ولا يصل في مداه إلى نهاية, ليكون المدى أمامه لا متناهٍ, وغير محدّد بزمان, فقد اختار العنوان” راحلون بلا مدى” ليقود أبيات قصيدته, حيث لا نستطيع التنبؤ من خلال العنوان بمجريات الحدث ومعرفة التسلسل الزمني أو التسلسل الفكري للقصيدة, مما يحتم علينا الولوج لنهاياتها حتى نستخرج ما توارى خلف الكلمات من معان أراد الشاعر أرسالها.
صحيح أن مفردة “راحلون” توحي بالهجرة والتشرد والانتقال من مكان إلى مكان, لكنها لم توحي لنا من هم الراحلون ولا إلى أين, ولا إلى سبب الرّحيل, لكنها فقط تشير إلى جماعية الرحيل واستمراريته, وعدم اتضاح بداية الرحيل أو منتهاه, والرحيل قد يكون قسري أو طوعي.
وقد جاءت مفردة الجب في الفقرة الأولى مقتبسة من قصة سيدنا يوسف ومن الآية” قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ” جاءت لتشير أيضاً إلى البعد, فالجب بضم الباء هي البئر حين تتسع وتتعمق, وغياهبها ظلمتها, فقد كان اقتراح أحد أخوة سيدنا يوسف أن يلقوا به في البئر للتخلص منه وأن لا يقتلوه. ليتضح المعنى في صورة الرحيل والتخلي, إذ يضع الشاعر نفسه في مكان سيدنا يوسف, ويتحدث عن عذابات ارتحاله, وعن تخلي اخوته عنه أو من يفترض أنهم كذلك, وتقديمه قرباناً ليرضوا به غيرتهم وحسدهم, وقد يكون الشاعر أسكن نفسه في التشبيه منزلة يوسف, وما يرجح هذه الفرضية خطابه المباشر لأبيه في لحظات تغلفها معاني الشك والشكوى والتذمر من سلوك لم يكن في الحسبان, أو رمز لجماعة تخلى عنها من كانت تعتقد بأخوّتهم وألقوا بها في غياهب الجب, ظناً منهم أن الأمر سينتهى حسب أهوائهم, وأن حيلتهم ستنطلي على أبيهم, فوجدت نفسها وحيدة, في مكان قصي خال من المارة إلا من صدفة يرتبها القدر, ويقلب ظهر المجن.
“راحلون بلا مدى”
“في عاتمِ الجُبِّ البعيدةِ يا أبي
ألفَيْتُ نفسي
طَالعاً لا ينتهي”
وتبدو شدة الكره لمن ألقي به واضحة من خلال كلمة” أوثقوا ” فأوثق الشيء أي أحكم رباطه, وأوثق الأسير أي شدّه بالوثاق, كما جاء في سورة الفجر أية ” 26″ وأوثق عرى الصداقة أي قوّى أواصرها, وبما أن الحديث عن موقف لا يحتمل إلا معنى التخلي والخذلان, فإن الأحوط هو الأخذ بمعنى أحكم رباطه, إلا أن الشاعر استخدم ضمير الغائب هم دون توضيح, لأنه يعلم أن المعنى العام لقصة يوسف وإخوته معروف, وقد استخدم الشاعر كلمة حبل أيضاً في دلالة على رغبتهم في ربط الأمر وحبكه, وفي ذات المقطع عبارة “على المدى” ليشير إلى رغبة من أوثقوا هذا الوثاق في أن يطول أمده, وقد همّوا بعدها بتركه والرّحيل عن المكان مع من يعبر من هناك, وكأنهم لم يفعلوا ما فعلوه, ولا سولت لهم أنفسهم هذا الفعل الشّنيع, وقد جاء الشاعر بكلمة ألقوا ليؤكد أن المقصود هو سيدنا يوسف, فهو من ألقى به إخوته في البئر, لأن فعل الألقاء يكون من الأعلى إلى الأسفل, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى لا يصير صدفة بل ينتج عن حالة مقصودة ومتعمدة, وبعد ذلك ” ساحوا” في إشارة كأنهم ساروا على غير هدى, أو دون معرفة لما قد تؤول إليه النتائج.
“هُم أوثقوا حَبلَ الغِيابِ على المَدى
وتعلّقوا بالعَابِرين
كظلِّهم حين ألقوهُ
“وسِاحوا
ويكمل الشاعر في المقطع التالي حديثه عن إخوة يوسف الذين ساحوا, ليبين أنهم استقروا في مكان قفر, وقصد الشاعر بجملة حطوا الرّحال أنهم استقروا بعد سفر, وهو يقصد رحلة العودة لإخوة يوسف, ليبحثوا عن حجة يحتجون بها أمام أبيهم عندما يسالهم عم أخيهم الأعز والأكثر جمالاً والأحسن خلْقاً وخلقا.
ثم ينتقل الشاعر بالحديث على لسان سيدنا يوسف, مستخدمة مفردة للتحذير والتوعّد وهي مفردة ” ويحهم” ككلمة تعبر عن عدم الرضا, وتوعدهم بالويل والثبور على فعلتهم, ليثير أيضاّ إلى ما يثير الدهشة والاستغراب, أي كيف انقادوا لأهوائهم, وهانت عليهم علاقتهم بأخيهم وحوّلوا حالة الحب المفترضة بين الإخوة إلى حالة من العداء والكره, ليجدد بعدها الشاعر التساؤل على لسان سيدنا يوسف أيضاً, إذ كيف طاوعتهم قلوبهم وتركوه خلفهم في بئر عميق يواجه مصيره المفترض في حالة كهذه وهو الموت لولا تدخّل العناية الإلهيّة, وقد كان هو البدر الذي أبدر سماءهم, إلا أنهم تركوا البدر وذهبوا لليالي الحالكات المظلمات الظالمات.
ويرسم الشاعر صورة جديدة لسيّدنا يوسف بتشبيهه بالوشاح الذي يزين صدر الفارس منهم, كناية عن جماله, فتوشح بالسيف مثلاً أي تزيّن به والوشاح لغة من دلالات الشرف.
“حطّوا الرِّحالَ بغيرِ زرعٍ
وِيْحهم
قد هَانَ عهدُ العاشقينَ غوايةً
فكيف أبْقونِي وراحوا
.. قد كنتُ فيهم
مثل بدرٍ طالع
فكيف أرخوا للحوالكِ خيلَهم
وأنا لفارسِهم وِشاحُ“
ويعود الشاعر ثانية لاستنطاق سيدنا يوسف وتوعده لهم بأن الويل سيكون لإخوته, لأنهم تأمروا عليه مستعيناً بالبيئة المحيطة التي مثلها بالليل والخيل ليعبّر عن رفض كل منهما لهذه الفعلة الشنيعة, فقد استنكر الليل لمزهم على أخيهم للإيقاع به ولفظ هذا السلوك, وكذلك الخيل التي لفظته أيضاً ورفضته.
وقد أجاد الشاعر استخدام ثنائيتي ” الخيل والليل والهمز واللّمز, فالخيل والليل ثنائية كثيراً ما وردت في أقوال العرب وأشعارهم, وما قول المتنبي عنا ببعيد حين قال مفتخراً بنفسه ومعتداً بها ” الخيل والليل والبيداء تعرفني- والسيف والرمح والقرطاس والقلم, أما الهمز باللغة فمعناه الإتيان بالعيوب دون مواجهةٍ أي في غياب المهموز, أما اللمز فهو الإتيان بالقبح في مواجهة الملموز وجهارة في حضوره, فالشاعر هنا يريد أن يقول أن إخوة يوسف همزوا عليه بغيابه ولمزوا بحضوره, ليؤكد على نيتهم التآمر عليه وعدم الاكتراث بما سيكون, مشبههم بالطير الذي عندما صار له جناحين وتمكن من الطيران, هام على وجهه وسار على عير هدى, حيث ضل الإخوة سبيلهم وفي غيهم تاهوا.
“وَيْحهم
والليلُ يلفظُ لمزَهم
والخيلُ ترفضُ همزَهُم
والطيرُ ضلّلهُ الجناحُ“
ويكمل الشاعر على لسان سيدنا يوسف استغرابه من فعلة اخوته, وكيف تمكنوا من الإعلان عما اقترفوه, موضحاً أن الموقف كان جللاً وصعباً, فلك أن تتخيل توسله لإخوته وعيونه تذرف الدمع بحسرة وألم, عدا عن هاتيك الدموع التي تمكن من حصرها وحسرها في مقلتيه, محاولاً قدر الامكان أن لا يضعف لأنه يدرك أن الله معه, وأن الله سيحدث بعد ذلك أمرا.
.. فكيف أعلوا في المَجاهِل عِلّتي
وأنا الذي
رخّصتُ عيني ذارفاً
والدّمعُ في الأنواءِ
ويعود الشاعر من جديد لتوعد أخوة يوسف وعلى لسانه بالويل والثبور مستخدماً مفردة ويحهم مرة أخرى, معلناً هذه المرة أن يوسف قد أعلن تضحيته بإخوته, كفعل “التشميس” عند قبائل العرب حين يصير الدم مهدوراً, فهو هنا يتمنى أن لا تقوم لإخوته قائمة وأن يحرقوا ويصبحوا رماداً لينثره بيديه ويتشتت رمادهم في بقاع الأرض, لعله لا يراهم ثانية على صور بشر.
ولم يكتف يوسف النبي بهذه الأمنية, ليلعن ما يتبقى من خيلهم كرمز إلى ذريتهم تعبيراً عن استنكاره لفعلتهم وعدم الرغبة في رؤية شيئاً من بقاياهم.
ويتحقق أمله بربه إذ جعل منه آية للناس, وتنكشف خيانة إخوته له وكذبهم على أبيهم في قصة الذئب, فكيف بمن ألقي به في البئر.
وفي لحظات من اليأس, يرسل الله قافلة سيارة ليطل أحدهم بعد أن راح ليحضر الماء وينادي رفاقه أن هلمّوا, فأتوا وفرحوا بما لقوا وفرحت القافلة بما وجدت، فقد وجدوا فتى نضراً يافعاً بهياً جميلاً, وأخرجوه من الجب, واتفقوا على أن يبيعوه بثمن بخس في سوق العبيد, وتشاء إرادة الله في أن يصبح بعدها يوسف عزيز مصر, وتتحقق نبوءة أبيه حين حذره من أن يقص رؤياه على أخوته لكيلا يكيدوا له كيدا بمساعدة الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين, وليعود يوسف من جديد مصباحاً منيراً لإخوته الذين حلك ليلهم, وكان هو الصبح الذي يشرق في دامس لياليهم.
راحُ.. “وَيْحهم
إنّي نثرتُ رمادَهم
ولعنتُ عائدَ خيلِهم
وبعثتُ من جُبِّ الخيانةِ آيةً
كي تعلموا
إنّي لِداجيهم صباحُ“
المهم في الأمر, أن الشاعر البوريني أراد من خلال قصيدته المكثفة المعنى أن يوصل رسالة, أن الكيد والمكر قد يكون من الإخوة نتيجة للغيرة والحسد, وأن الإنسان يسكن فيه الخير والشر, أو لنقل جانب ملائكي وآخر شيطاني, ويعود إليه الأمر في أن يعزز جانباً على حساب الآخر, وما ذلك إلا نتيجة للتجربة والمراس, حيث كانت الفكرة أن يسحب قصة يوسف ويسقطها على الوضع المتردي هذه الأيام, الذي باتت فيه المصلحة هي التي تتحكم في السلوك دون اعتبار لمشاعر أو خُلُقٍ ودون التفات لدين.