بعد النملة؛يستبيحُ
سمعة الغراب
في تعقيب على الصديقة
إيناس ثابت من اليمن
عن نصِّها: نعامة وثعلب وغراب
لئن كان لكل حيوانرمز يليق بهويناسبه؟ وكانللأسد هيبةالملكوسيادة الغابة، ورئاسة المحكمةورمز السلطة. والفيل أضخمالحيوانات بجسمه الهائل، وخرطومه الطويلوعاجه علّة انقراضه،وحقدهوحدّة ذاكرتهيحفظموارد مياههورزقه، لكنهيتعالى على النملة.والنملة لحكمتها وعُذريتها وهزالها وحقدها على زيز الحصيد، صاحب القيثارة الساحرة والصوت الرخيم. تتهامس مع أخواتهالتأوي إلى بيوتها، خوفا من جيش سليمان نبيّالجنّ والرِّيح.
والجحش لصبره على الشدائد الشتائم والجوع، وسمعته المستباحة في الغباءيندّد بها الآدميون،ومشاعره الجيّاشةينادي بها أتانه المكحولة العينين، أو يلاحقهابعواطفه الصادقة المفضوحة بين ساقيه في الطريق،ويدعوها للحب ونداء القلب بنهيق أنكره وعابه عليهربّ العالمين!بينماكليوباترا كانت تستعيض عن مستحضرات التجميل،وتربى إناث الحميرلتغتسل بحليبهافينتعش جسدها بالحليب. والبلقان تصنع أغلىوأفخرالأجبان من حليب الحمير.
والجمل مركبتُناوشُبهة تخلّفِنا والتنديد بنا. أمَرَ الله عباده أن ينظروا إلى أسرار خلقه. لا يمسك نفسه فتَبين في عينيه الدموعوالحشمة في عواطفهوتعاطيه.شديد الصبر على العطش وسفر الصحراء الطويل، ومياه يحملها على ظهره لا يستفيد منها إلاّ بما يعينه على نشاطه في خدمة الآخرين، وحقد يراكمه في قلبه وذاكرة لا تقلّ عما يبيِّته الفيل.
والكلبلرهافة شمه وتعقبهالمخدراتوطرائد الطير والمجرمين، وذكائه ويقظته في الحراسةوإنقاذ الغرقى،وتنبيه الأصم إلى قادم يقرع باب البيت وجرِّ الزّلاقات على الجليد. ووفائه كأفضل صديق “لسباستيان” الفتى الطيِّب الأمين؛ولئن لم تصدّق؟ فسل زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، كيف شيّع صديقه ورفيق عمره،وكيف تلقى المواساة بعد مراسم الدفن بفيض من المعزين.”أوسكار” صديق عمره والشاهدالمحظوظ على حضور اللقاءات وما يدور في الكواليس.رق له قلب البيكفتغمده بواسعحسرته وطيَّبتْ ثراه رحمةُ المعزِّين المحبِّين.
بالغ الغرب في احترام الكلب وتمادَينا فيإهانته.نَصِمُ باسمه من البشر من نحتقرهأونعاديه،فندعوه لا فرق؟بابن الساقطة أو ابنالكلب. ولعل منهم في الشّوف كما في الرّيف؟ من كان يردد في باطنه: الميّت كلب والعزا كبير.
والاستهانة ليست أبدا بعواطف البيك أو قيمة الكلب، الإستهانة في نفاق الحاشية من المحيطين.. المطبِّلين المزمِّرين.
والذئب لأنَفَتِه وحدّة أنيابه وحذره الشديد، يغدو إلى الصّيدفلا يعود من الطريق التي سلكها في الرجوع. عزيز النفس لا يدنومن الجِيَف ويتركها للضباع؛فلا يأكل إلا لحما طازجا مما افترسهمنذ وقت قريب. متهم زورا بيوسف يكيد له إخوته ثأرا من أبيه.تسلل في فجر أياميمنغابة السنديان في صنين،ليقتل في حظيرةبيت علي حسين داود سبع نعاج في ليل بهيم. لم يغب عن بال الأخوين رحباني..”وعيني ما يجيها النوم يا ديب”، فكرّماه بما يليق.
والهرّهذا الحيوان الأليف تلمع عيناه،ويرى عن بعد حبّة الخردل فيالظلام.يلتقطبكفاءَةِ الرادار الإشارة الضعيفة والأصوات الخافتة،ويتمتع بقدرة هائلة على المناورة لاصطيادالطير والفئران. يتمطى ويستمتع بالكسل وهو يستلقي ويلعق فراءه للعناية بنظافته مستدفئاً تحت عين الشمس. لكن الإنسان تمكنمن تدجينه منذ آلآف السنين.
هكذا تحوّل إلى حيوان أليف، تهواهوتعشق ملاطفته أيدي الجنس اللطيف.”والقططلم تكنِ مَخْلوقَة قبلَ الطوفان، فلم تكنْ فيعدادِ الحيواناتِ على ظهْرِ السفينة،ولكن حينَما انتشرتِالقوارضُ وأخذتْ تلتهمُ مَخْزونَ الطّوْفِ من الزادَ؟أوحى الرَّبُلربان السفينةنوح، أن يضربَ الأسدَ على رأسِه؛وحينما فعل؟ عطسَ السَّبعُوانحدَرَ من منخاريه زوجانِ من القططذكراً وأنثى. هكذا خُلقَتْ هذه الكائنات وتولتْ القضاءَ، على الزواحف كالفئران والصراصير”.
تعدّدت أسماؤه من الهرّ إلى القطّ والسنَّور والبس بكسر الباء والخَيْدع والهَيْطل. ويذكِّرناببعض أهل السياسة ممن تستضيفهم قنوات التلفزة،فيتأنقون فيالكلام واختيار المفردات، ويطلقون عليهم الألقاب الفخمة كالمفكر الكبير والمحلل العسكريوالسياسي والاستراتيجي، وما إلى ذلك من الأثواب الفضفاضة التي تزيد عن حجم عقولهم وتحليلهم. ويحملنا إلى حكاية الأعرابي حينما غضب ورمى الهرمن يديهوهو يقول: ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه.
والحَمَللوداعته وبرجٍتُمَيِّزُهُ التضحيةُ والوفاء عن سائر الأبراج. اختاره رب العباد وحمله ملاكٌ من حدائق الرحمن فداءً لنذر إبراهيم أبي الأنبياء. والنمر لسرعة جريه خلف فريسته. والأرنب لجبنه وتعثره فيالنزول لا في الطلوع.
والبرغوث الحشرة الطفيلية المقززة، تستبيح الجسممن شدة الحك..فتدميه. والقملة توأم البرغوث أو درّة الرأس، كما كانوا يطلقون عليهاأيامَ لويس الرابع عشر، ما دمنا نتحدث عن “لافونيتن” مفخرة الكتاب الفرنسيين.
وشراهة فم البرغوثمزود بشفرات كالمنشار، يجرح الجلد ويمصه فيسبب فيه القروح. وصاحبته العَلَقَة النّهمة الجائعة كالبشر.. وأكثر؟ تمصُّ الدماء فتقع دون أن ترتويولا تشبع. ثم أكلتني.. أو (أكولني) البراغيث في الصرف والنحو،لغة قليلةلطيء سميت بهموأنكرها عليهم سيبويه العَلَمُالفطين. والقردة أصل بني الإنسان..لذكائها وقدرتها على تقليد البشر ومحاكاتهم في الاستجابة لغرائزهم، وسوء أدبها – أي القردة – في العلن لا في السر كما يفعلون.
والرّيم “كابنة د. شوقي”؟ لوداعته وجمال عينيهوجيده وَرائحة مِسْكِهِ، ورشاقتهوحيويته وسرعة جريه.والنحلة لنشاطها لقاء أجر زهيد. والجراد يعلن الحرب على المواسم ليعوي البشر من الجوع فيتيهون في البراريوالدروب.
والبجعالطيور المؤنسة،يطيب لهافي طريق هجرتهاأن تحيينا من فضاء بلادنا، تذكِّرنيبالحنين إلىأول مراهِقة عانقتُها، وشعرتُ بنبض ثدييها الطفلين يتردّدان على صدري، وأنفاسها تلهب عمق كياني؛كتلة متوهجة من مشاعر الكون الأبديّة. معها بدأتْ سعادتيومعها أفلت طيوريتطوي مسافات هائلة منأطراف الدنيا. نطلق عليها نيرانمدافعنا وبنادقنا الحربية؛ ردا على التحية، إذ تمرُّ فوقأم الشرائع بيروت، أرقى العواصم وحواضر المدن العربية.
والنورس لحكاياه المؤثرة وجمال جناحيه يحن للأوطان،فيحلق للوداع فوق سفن المسافرين. والسنونو كما تقول حكايا الأمهات المؤمنات، قدمت إلينا من بلاد الرافدين شاهدة على كربلاء تخضّبت أعناقها بدماء الحسين، لتنشر على الكونالأنغام الحزينة من العتابا والمواويل. ورمز الحكمة البومة المظلومة؟تخشى من اضطّهدَ أهل البيت تقول للمسلمين: قتلتم ابن بنت نبيكم فلا آمنكم على نفسي.والرايات السود ترفرف على مساجدنا ما شاء لها التاريخ.
والخيللفيض مشاعرها وعزّها يبدو في عيونها وقوائمها، وفي أنفتهاوتفانيها ووفائها في الإخلاص حتى الموت في هوى منيروِّضها. أبدع امرؤ القيس في وصفها،والمتنبي سخّرها ليمدح نفسه ويرضي غروره.. وتعاليه.
أعدّها الله لملائكته فخصّ بها جبريل، يعتلي صهواتها تحتك قوائمها بالريحفتشرقط وميضا من لهيب، لينقل إلى الأرض بريد السماء. والطاووس لجمال ريشه وغروره وتباهيه. والنسر لثقته بقدرته وآثامه وعمره الطويل. والهدهد لجمال شكله ونتانة عشه ووعده لسليمانوالخبر اليقين، والسلحفاة لقوة الاحتمال والفوز في السباق الطويل.
والخفّاش لطيشهوعمى عينيه،وخسارة ريشه من فرط عجلته،وغبائه في اتخاذ القرار السريع،يتنازل عن ريشه ليتحول إلى وسادة وفراش لبلقيس، حينما جفاها النوم إثر قدومها إلى قصر سليمان.الخفاش المتهمبلا أدلة قاطعة بنشرالكورونابلوى الشيطان على الأرض، بعدالة فيالتوزيع بينالأغنياء والفقراء.والثعلب لدهائه يرافق موكبالسلطان ليكون من رجال الحاشية المقرّبين.لكن الغراب لم يكن غبيا، إلاّ في نظر لافونتين الكاتب الفرنسي التعيس.
الثعلب؟ وكان يَضْغومرة من شدة المشيوالجوع. يسير لا يلوي على شيء تائهايجدُّ في سيره حاسر الرأس، حافيا يشعر بلهيب الرمل في قدميه،خاوي البطن يبحث عن خلاص. كلما جدّ في المسير اشتد جوعه وعطشه لما يرويه.
وما إن يطوي مفازة حتى يمعن في تيه جديد، وأفق خلاص يتراءى لناظريه من بعيد،وكلما قطع فلاة وأوغل في المسير؟ لاحت له فلواتبلا حدود، فلايجد ما يقتات عليه غير الأملوالصبرالجميل. لكنه لم يقنط من رحمة ربه أو يسلِّم أمره لإبليس، فواصل سيرهوهو في حال منالوهن الشديد، يكاد في كل خطوة يلفظ معهاالنَّفَسَ الأخير.
حينماتراءت له من بعيددالية حبلى بعناقيد العنب، أشد صفاء وأشهى من لون الذهب، فراوده أملبالخلاصمن محنة الجوع الشديد،ووقف يتأمل العناقيد ويتلمظ بلسانه شفتيه.لكن الدالية كانت عالية أعلىمنلهفة الثعلب للعنب.
هكذا بنىأميرالشعراءشوقي؛حكايته عن الثعلب ليس في أي مكان آخر بل في حلب.وكان شوقي طيّب الله تربته ومثواه، أصدق في مشاعره من لافونتين في حبه للأطفال، حينما كان يقرأ قصائده على مسامعهم، ويراقب ردة أفعالهم على ما سمعوه ليقرر قيمة ما كتب، لكنلافونتين التعيسانفصل عن زوجتهولم يكن ليهتم بطفله الوحيد.
حِكاية عَن ثَعلبِ
قَد مَرَّ تَحتَ العِنَبِ
وَشاهدَ العَنقود في
لَونٍ كَلَون الذَهَبِ
وَغَيرهُ في جنبه
أَسود مثل الرُطَب
وَالجُوع قَد أَودى بِهِ
بَعد أَذانِ المَغرِبِ
فَهمَّ يَبغي أَكلةً
مِنهُ وَلَو بِالتَعَبِ
عالج ما أَمكنه
يَطلع فَوقَ الخَشَبِ
فَراحَ مِثلَما أَتى
وَجوفه في لَهبِ
وَقالَ: هَذا حصرمٌ
رَأَيتهُ في حَلَبِ
أما ما قلتِه في حكايتك يا صديقتي..؟فمفيد للصغار والكبار على السواء؛ ولو كتبتِ الحكاية ببعض الفذلكة أيام ابن المقفعوأنوشيروان الملك؟ لكانت حكايتك ربما إحدى حكايات كليلة ودمنة؛ وكانت الأستاذة الراقية إيناس ثابت من اليمن، قد دخلت التاريخ من أوسع الأبواب. فتصوري كيف خانك حظك العاثر؟ فلم تولدي في زمان ابن المقفع.
لكن لافونتين غفر الله له ولنا ولكل المصلحين في هذا العالم المنكود؟ لم يكتفِ باستباحة سمعة النملة والتشهير بقسوتها، وتَعَنُّتِها في حكايتها مع الجندب..؟ حتى كرّرخطأه واستباحسمعة الغرابوهو يتهمه بالغباء في حكايته مع الثعلب، حينما أوهمه بحلاوة صوته ليغني له ويسمعه. وهكذا تقع الجبنة من فم الغراب إلى فمالثعلب.
والغراب في الحقيقة أذكى وأشد دهاء،ومعرفة بطبائع المخلوقات من الثعلب كما تصور لافونتين المغفل؟ وكان حريٌّ في اعتقادي أن يطرق حكاية الغراب والثعلب، كاتب أذكى وأشد حصافة من الكاتب الفرنسي الأخرق!
ليروي الحكاية على نحو مختلف؟ كأن يبتلع الغراب الجبنة أولا. ثم يردّ على الثعلب بقوله: تَبَّاً لك من مغفل أبله! هل حسبتني أهبل مثل غراب لافونتين المتعنّت كالنملة وأكثر! حتى أفتح فمي وأغني نشازالتسقط الجبنة في فمك!
أم حسبتَ صديقي الثعلبيخدعني ثأرا لنفسه، من حصرم خاله يوما عنبا في حلب؟ أمناطور المتنبي وحقد المصريين عليه،قبل رحيلهغاضبا من مصر يوم العيد إلى حلب؟ أم هيسناء موسى نجمة في سماء فلسطين،تشرَّفنا بحضورها الساحر الأنيق، وصوتها العذب الرخيم، لتشارك فيروز المهرجان وتضيء سماء بعلبك؟فمنعها اليهود؛ لتتوجه إلينابالشدومن فلسطين: يا رايحين ع حلب حبي معاكم راح يا محملين العنب فوق العنب تفاح.
وهل خطر لأحد أنني كنتُ مغفلا أو مغتصبا كالأتراك؟ حينما راودتهمأحلامهم بعدما انتزعوا لواء الإسكندرون من سوريا، وخالوا من جديد الحصرم كالعنب!؟ فلم تسقط في أيديهم درة الشام وعنفوانها وقلبها النابض في حلب.
“أمحكايتهم مع صديقي؛ثعلب آخر، تخرّج من أرقى الجامعات بالسياسة والدهاء، فأتقنَ فنالخطابة والاقناع، واستفاد من فرصة للسفر وشم الهواخارج البلاد؛ فحملَ خطاباً بليغاً أعدَّه عن الحربِ والسلام، ليلقيه في بهو الباب العالي على مسامعِ السلطان، وحريمه في المسلسل “التافه”، تسلط على كثير من عقول “النساء” في سائر الأقطار.
وحينما التقى على الحدود عسكر السلطان؟ أخبروه أنّهم في البلاد يستخدمون الحمير، (يرسلونهم) إلى “سفر برلك”، للسخرة وقضاءِ مصالحِ الرَّعيَّة وحَملاتِ الحرب. لكن حرس الحدود مهروا له جواز سفره ورحّبوا به وأكدوا السماحَ له بدخول البلاد، فلا ضيرَ عليه من الزيارة ما دامَ ثعلبا، والسخرةُ تقتصرعلى الحمير.. وحسب.
لكنَّ الثعلبَ وهو أقل مكرا من الغراب وحاكم تلك البلاد؟ خافَ على نفسه وعادَ أدراجَه إلى الديار.. وعندما سألوه عن السبب..؟ قالَ لهم: سأتورطُ وقتاً أطول في الخدمة وأعمالِ السخرة؛ قبلَ أن يميزوا بين الثعالبِ والحمير.”
أما ترامب الغبي الأشقر؟فيدّعي أن سوريا ليس فيها سوى الموتوالرمال! هكذا يبرر انسحابه من الفرات، وهكذا يتعرىالأميركي الأرعن، فيتراجع ويولي هاربا مدحورا خائبا وهو يردد:هذا حصرم الثعلب رأيته يوما في حلب.
والرمال موجودة في ولاياته المتحدة، أكثر بمئات المرات مما هي الحال في سوريا،كالصحارى فيأريزونا ونيفادا وأوريغون وإيداهو وتكساس، وصحارى كاليفورنيا ونيومكسيكو ويوتا ووايومنغ وغيرها، والرمال مادةلا تقل أهمية عن مقولةبترول العرب..(للعرب)،في إنتاج “السيليكون” عصب الحواسيبوثورة صناعة العصر.
ويبقى الغراب كما نص عليه كتاب الله المبين؟ حينماتوسله ربه ليعلَّم الإنسان كيف يواري سوأته بعد أن قتل أخاه،حينما بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيه كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنالنَّادِمِينَ؛ لعلهاإشارة الله سبحانه اختار الغراب ليكون أكثر إنسانية من بني البشر.
والخلاصة أن الغرابلم يكن غبيا على الإطلاق، خلاف ما أشاعه لافونتينالمغفل عن هذا الطائر الداهية بلون العتمة.يحمل الجوزة بمنقاره بدلا من قطعة الجبنة، ويرتفع بها عالياويلقيها في الفضاء لتنطلق منعلو شاهق، وقوة”هائلة”ناتجة عن السرعة والزخملترتطم بالأرض وتنكسر،وتبلغ هذه المرة فمه وليس فم الثعلب؛ وهكذالا يقل ذكاء عن علماء الآلة والرياضيات، بإدراكه علم الحركة والتسارع فيمعادلة نيوتن التي لم تخفَ على الغراب!
والإشارة إلى الرابط بين الذهب والغراب صحيحة،لأنه يهوى ويسرق ما يلمع ويميِّز المرأة من الرجل لأنها تتزين بالحلي، ويجمع في عشه مختلف القطعوالقماش الملون. ويدفن طعامهتحت الثلوج فلا يضيّعه مهما طال الزمن.
لكن أهم ما يميزالغربان؟ أنهاتحفظ وجوه من أساء إليهاويشكل لها التهديد، وتعلِّم بالتالي غيرها من ذات الطيور، كيف تتنادى فيما بينها وتنعق بأصوات عالية، إشارة إلى وجود المخلوق المسيءمن تحوم حوله الشبهة والشكوك؛ فلا تنساه لزمان طويل، وتدرك ما يمثله عليهامن الخطر الشديد، فتهاجمه ولا تتساهلمعه كما ثبتبالأدلة واليقين.
أما سلوك الغرابفأهم ما يتّسم به، ويثير تساؤلا يبلغ حدّ الذهول حول ماهية الموت، فيقيم الطقوس الجنائزية والمناحة الجماعية علىطيور الغربان النافقة، ويجري لها المآتم اللائقة المهيبة،التى لا تقام لضحايا الحروب.