كتبت. ريما آل كلزلي. المنهج النفسي النصِّي مقاربة حديثة

لآفاق حرة

المنهج النفسي- النصي مقاربة حديثة/ رواية النورج والكتاب

الروائية. ريما آل كلزلي. سوريا

يمثل المنهج النفسي-النصي مقاربة حديثة في دراسة الأدب، فهو يهدف إلى تحليل النصوص الأدبية من خلال الجمع بين التحليل النفسي والدراسات النصية المعاصرة. في هذا المنهج، يصبح النص الأدبي نفسه محور التحليل، دون التركيز المفرط على الكاتب أو القارئ أو حتى السياق الخارجي، فيتيح بذلك فهمًا أعمق للعلاقات المتشابكة بين السرد والنفس البشرية.
ويُنظر إلى النص الأدبي في هذا المنهج كفضاء تخييلي يعبر عن اللاوعي الإنساني ويكشف عن المشاعر والتجارب الداخلية، يتم التعامل معه باعتباره كيانًا مستقلًا يحمل داخله تمثيلات معقدة للذات الإنسانية، والتي يمكننا استكشافها من خلال دراسة مكوناته مثل الموضوعات، الأساليب، التقنيات، واللغة. تسعى هذه المقاربة إلى فهم العلاقة بين الكتابة كفعل إبداعي وبين اللاوعي كجزء من التجربة الإنسانية.
يطرح المنهج النفسي-النصي تساؤلات عميقة حول دوافع الكتابة ومعانيها. لماذا يكتب الإنسان؟ ما الذي يدفعه إلى تحويل تجاربه ومشاعره إلى نصوص؟ وكيف يمكن للأدب أن يعبر عن مفاهيم معقدة مثل الألم، العنف، واللامعقول؟ هذه الأسئلة تجعل الكتابة تظهر كحاجة نفسية ترتبط بالذات، وليس فقط كفعل إبداعي أو وسيلة للتواصل.
يمثل المنهج النفسي- النصي نقلة نوعية في دراسة الأدب، قهو لا يقتصر على استكشاف النصوص كمنتجات للإبداع، ولكن ينظر إليها كأدوات لفهم النفس البشرية. كما يسعى هذا المنهج إلى المزج بين دراسة الأسلوب الأدبي والأبعاد النفسية للنصوص. يتم تحليل الشخصيات الروائية من منظور نفسي، مع الأخذ في الاعتبار التقنيات والأساليب التي يستخدمها الكاتب في بناء النص، مما يتيح قراءة متعددة الطبقات للعمل الأدبي. هذا الدمج بين النصي والنفسي يفتح المجال لفهم أعمق للعلاقات بين السرد واللاوعي، وبين الكتابة وتجربة الذات.
أحد أهم جوانب هذا المنهج هو النظر إلى الأدب كوسيلة للتعبير عن الصوت الداخلي. فاللغة الأدبية نافذة لفهم الذات، سواء بالنسبة للكاتب أو القارئ، فيصبح الأدب موطنًا لغويًا يعبر فيه الإنسان عن ذاته العميقة، ويكشف عن المستويات الخفية من تجربته الإنسانية.
رواية “النورج والكتاب” للكاتب إبراهيم معوض تمثل نموذجًا غنيًا يمكن من خلاله تطبيق المنهج النفسي-النصي لفهم أعمق، نراها أرضًا خصبة لتحليل العلاقة بين السرد والنفس البشرية، وبين الكتابة وتجارب الإنسان الشعورية واللاشعورية.
رواية “النّورج والكتاب” تزخر بالرموز والدلالات التي تنير زاوية مهمة في النفس البشرية وهي الصراع النفسي الداخلي للشخصيات، خاصة صابر أبو الفتوح، الذي يمثل جيلًا عالقًا بين إرث الماضي بكل مقتنياته المجسدة، وتحديّات الحاضر بما فيه من أفكار ورغبات. الكاتب يستخدم الرموز للتعبير عن اللاوعي الجمعي للشخصيات، وسعيها لتعويض الشعور بالضياع وفقدان الهوية الذي رافق حركة الحداثة في مجتمعاتنا العربية ولا سيما الصعيد المصري كجزء عريق من حضارة متجذرة في التراث.
يأتي النورج، هذه الآلة الزراعية القديمة، ليجسد رمزًا للسلطة وللعمل والكدح، بينما يعكس الكتاب رمزية المعرفة والهوية الثقافية. فيجمع العنوان هذين العنصرين ليعبر عن ثنائية بين جانبين متضادين أو مكملين: النورج ويمثل الجهد البدني والقوة العضلية في الكدح والزراعة، بينما يرمز الكتاب إلى البُعد الثقافي الفكري. ومن خلال هذا التباين تبني الرواية صراعًا أو انسجامًا بين سلطة الماضي التي يمثلها (النورج)، وسلطة الحاضر التي تتجلى بالعقل والحكمة (الكتاب)، مسلطة الضوء على العلاقة بين سلطة العمل الجسدي وتمثلات الجهد الفكري في تحولات الواقع.
المنهج النفسي يظهر اللاوعي الجمعي للشخصيات في تمسكها بالرموز التراثية مثل “النورج” و”الكتاب”، وكأنها محاولة لتعويض الشعور بالضياع وفقدان الهوية. إذ يستخدم الكاتب يستخدم لغة غنية بالتكرار والرمزية، تُبرز التوتر النفسي الداخلي للشخصيات.
تتمثل العلاقة بين الشخصيات واللاشعور من خلال شخصيات الرواية مثل “صالح”، و”فتح الله الجد صاحب الكتاب”، و”ثريا” التي تتبع الصراعات النفسية التي يعيشها الأفراد في مواجهة الواقع. فعكست شخصية صالح الشعور بالمسؤولية تجاه الإرث العائلي، بالرغم من الصراع الداخلي بين الالتزام بتقاليد الماضي والرغبة في التحرر من هذه القيود، صور الكاتب هذه الصراعات من خلال الحوارات الداخلية والتفاصيل الدقيقة التي تكشف عن دوافع الشخصيات وما يدور في أعماقها.
رواية “النورج والكتاب” تسلط الضوء على الصراع النفسي الداخلي، خاصة صابر أبو الفتوح، الذي يمثل جيلًا عالقًا بين إرث الماضي وتحديات الحاضر. الكاتب يستخدم الرموز التراثية مثل “النورج” و”الكتاب” للتعبير عن اللاوعي الجمعي للشخصيات وسعيها لتعويض الشعور بالضياع وفقدان الهوية.
وقد توضحت رمزية الإرث في:
-الأرض كرمز الشرف والعمل، لكنها أصبحت عبئًا يُثقل كاهل صابر.
-الدكة وهي مكان العائلة الذي فقد دوره مع تفككها.
– الكتاب، إذ لم يكن كتابًا عاديًا، بل حكم ووصايا الجد التي تحمل القيم والتقاليد، لكنها أصبحت مصدر صراع بين الالتزام والتغيير.
أما صراع صابر فتشعّب إلى عدة مستويات:
أولًا / مع الذات، فكان يعيش صراعًا داخليًا بين التزامه بإرث العائلة ورغبته في التحرر من أعبائها وتحقيق ذاته.
ثانيًا / مع الجيل الجديد، أبناؤه الذين يرون الحياة بمنظور مختلف، مما يضعه في مواجهة مع تطلعاتهم المتحررة.
ثالثًا / مع الزمن فهو يدرك مدى تغير الزمن وصعوبة استمرارية التقاليد القديمة، لكنه لا يستطيع التخلي عنها بسهولة.
الرواية هي قصة صراع أجيال داخل عائلة ريفية، يمتزج فيها الماضي بالحاضر، والتقاليد برغبات التغيير، فتصور صابر كشخصية معقدة ومتأرجحة تجمع بين الماضي والحاضر من جهة، ومن جهة أخرى بين القراءة التي جعلها مصدر لقوته، والضعف في انصياعه لوصايا الوالد والجد “كبوصلة ترشده”؛ قوي في تمسكه بالمبادئ، وضعيف أمام رغبته في التحرر وكسر القيود. عبر تكرار الرموز والمشاهد، يعكس الكاتب حالة التوتر النفسي والبحث عن الاستقرار في عالم متغير. فيقول” كان لابد من أن يفهم أن أيامه صارت تراثًا، ولكل زمان رجاله، عاداته وتقاليده، أمست بالية كقدم تلك الأشياء التي تركها له.” ص 18
الجد “فتح الله” يمثل الحكمة والجذور، يترك إرثًا رمزيًا وماديًا للأبناء، مثل الأرض، الدكة (مكان التجمع)، والكتاب (رمز الحكمة والتقاليد). الجميع يتذكره كقدوة، لكنه أيضًا يمثل عبئًا على الأجيال الجديدة. فهو يحاول الحفاظ على إرث العائلة وقيمها، لكنه يواجه تحديات مع أبنائه الذين لا يريدون الاستمرار في نفس الطريق.
الأبناء/ يريدون التحرر من قيود الماضي. يرغبون في حياة مختلفة، مليئة بالحرية وتحقيق الذات، بعيدًا عن الأرض والزراعة التي تمثل لهم قيودًا.
الصراعات العائلية/ يتمثل الصراع بين الأب والأبناء كصراع داخلي بين الأنا العليا (الأب، القيم والتقاليد) التي تسعى إلى فرض النظام القديم للحياة واستمرارية الماضي، رغبة في الثبات والتمسك بالموروث، وبين الأنا (الطموحات والهوية الفردية) التي تسعى إلى التحرر من قيود الماضي، والتوجه نحو المستقبل بآفاق جديدة. الأبناء يشعرون بالذنب تجاه رغبتهم في التغيير، فيتولد الضغط النفسي نتيجة هذا الصراع بين الولاء للأسرة والإرث وكأنما حالة انتزاع من الجذور. وبين تحقيق تطلعاتهم الهوية والانتماء ما يعكس صراعًا نفسيًا بين الرغبة في (تحقيق الذات) والواجب وهو الارتباط بالتراث.
من منظور التحليل النفسي يظهر الأب كرمز للنظام والمبادئ التي تُفرض من الخارج، بينما الأبناء يمثلون الرغبة في التمرد والانفصال عن هذا النظام. هذه الديناميكية تجعل الصراع غير قابل للحل بسهولة، كصراع أزلي بين الأجيال، لأن كلّا من الطرفين يحمل رؤى مختلفة للعالم. فيظل الماضي حاضرًا في اللاوعي الجماعي، بينما يفرض نفسه الواقع بكل الوسائل الممكنة. يمكن أن نقرأ أيضًا قراءة التعلق بالأرض والتراث كإسقاط نفسي يعبر عن الحاجة إلى الأمان والاستقرار، وهو ما يحاول الأب ” فتح الله” التمسك به. الرواية تقدم رؤية فلسفية واجتماعية عن الحياة في الريف المصري، وكيف تتشابك العادات والتقاليد مع طموحات الأفراد وأحلامهم.
الثنائية بين الماضي والحاضر:
-الصراع بين الماضي (النورج) والحاضر (الكتاب) يمكن أن يُنظر إليه كإسقاط لصراعات نفسية داخلية بين الرغبة في التحرر من الماضي والخوف من فقدان الهوية والجذور. هذا يشبه فكرة فرويد عن التكرار القهري، حيث تسعى الشخصيات إلى التحرر، لكنها تجد نفسها عالقة في دائرة تكرار الماضي.
التحليل النفسي للبيئة والرموز:
الأرض: الأرض في الرواية رمز للأم، الخصوبة، والهوية. الشخصيات التي تحاول الابتعاد عن الأرض قد تعاني من قلق الانفصال الذي أشار إليه فرويد.
الصراع مع التراث: يظهر في الرواية بوضوح أن التقاليد تشكل عبئًا نفسيًا على الشخصيات، مما يؤدي إلى صراعات داخلية وشعور بالذنب.
تعرضت الشخصيات في الرواية لصدمات أو أزمات (مثل فقدان الأرض، أو التمزق بين الماضي والمستقبل)، لذا يمكن تفسير سلوكياتها كرد فعل لهذه الصدمات. قد يظهر ذلك من خلال النكوص (الرجوع إلى الماضي) أو آليات الدفاع مثل الإنكار أو التبرير.
الرواية تقدم تصويرًا عميقًا للتوتر الذي يعيشه الإنسان بين هذين العالمين، عالم القيم القديمة المتمثل في التراث، وعالم السعي نحو التغير والتجديد الذي يعبر عن الحداثة والطموح.
الصراع بين التراث والحداثة الذي تقدمه الرواية يتجاوز كونه مجرد صراع بين الأجيال؛ فهو يقدم رؤية فلسفية وإنسانية عميقة حول طبيعة الهوية. فالتراث جزء من النسيج النفسي والاجتماعي للأفراد. والحداثة تعبير عن حاجة فطرية للتجديد والتطور. وبين هذين القطبين يتشكل الإنسان ككائن يعيش في حالة صراع دائم.
ناقش الكاتب كيف تحدد الجذور (الأرض، العائلة، التقاليد) شخصية الإنسان وهويته وانتماؤه، وكيف يمكن أن يكون التمرد على هذه الجذور محاولة لإعادة تعريف الذات، فكانت الشخصيات تعيش في حالة تنازع داخلي بين الولاء للماضي والرغبة في بناء حياة جديدة. كما تسلط الضوء على تأثير التغيرات الاجتماعية والثقافية على الأفراد والمجتمع، حيث تقف الشخصيات في مفترق الطرق بين قبول الماضي أو التخلي عنه لصالح المستقبل. هذا الصراع يخلق مشاعر الضياع، الوحدة، والخوف من المجهول. والشخصيات التي تحاول الهروب من التراث تواجه أزمات نفسية واجتماعية تعيدها دائمًا إلى سؤال: “من أنا؟ وما الذي أريده حقًا؟
الرواية لا تقدم حلولًا نهائية، وتترك القارئ أما سؤال كبير، كيف يمكن التوفيق بين الماضي والحاضر، والحفاظ على الهوية من دون التقييد بالماضي؟
حملت النهاية مزيجًا من الحنين والحزن، فقد أدرك صابر أن عالمه القديم يتلاشى، فهو لا يستطيع التخلي عنه.
لعل من أهم ما يميز أسلوب الكاتب في هذه الرواية هو ميزة أسلوبية عميقة وغير شائعة، وهي “التوظيف الرمزي المكثف” أو “الثنائية البنيوية في السرد” وهي ميزة أسلوبية مميزة في أسلوب الكاتب إبراهيم معوض تحقق التكامل بين الرمز والواقع في السرد. بحيث تصبح الرموز مثل النورج والكتاب أدوات حية تنبض بالمعاني الإنسانية والاجتماعية.
مثلًا: النورج والكتاب ليسا مجرد رمزين تقليديين، إنما شخصيتان ضمن النص
-النورج: يعكس الماضي بكل ثقله، الجهد الجسدي، الارتباط بالأرض.
-الكتاب: يرمز إلى العقل، التطلع للمستقبل، والرغبة في التحرر
جعل الكاتب هذه الرموز متفاعلة مع الشخصيات، وقد أظهرها كجزء من صراعاتهم وأحلامهم.
الكاتب لا يبالغ في الرمزية إلى حد الغموض، بل يجعل القارئ يشعر أن الرموز جزء من الحياة اليومية للشخصيات. فنرى النورج والكتاب كعنصرين واقعيين، ولكنهما محملان بدلالات أوسع. نرى ذلك أيضًا في أن الكاتب لا يستخدم الرموز كأدوات جامدة أو مجرد استعارات، ويجعلها مدمجة في بنية القصة، مما يمنحها أبعادًا درامية وإنسانية.
الرواية تدعو القارئ للتأمل في أهمية الماضي والتراث، دون أن يصبح عبئًا يكبل الطموحات. وفي الوقت نفسه، تشدد على أن التغيير والحداثة يجب أن يكونا مدروسين، بحيث لا يتم فقدان الهوية أو الجذور في خضم السعي نحو التقدم.
رواية “النورج والكتاب” رؤى تعكس الواقع بأسلوب أدبي متفرد، تطرح الأسئلة العميقة وتلامس القضايا الإنسانية بروح شاعرية وواقعية في آنٍ واحد. من خلال صفحاتها، يأخذنا الكاتب في رحلةٍ غنية بالرموز والدلالات، يتشابك فيها الواقع بالخيال، وتتجلى الأصالة في صورٍ نابضة بالحياة. هذه الرواية ليست فقط شهادةً على موهبة الكاتب، بل هي دعوة للتفكر في قصص الأجيال، وفي التحديات التي تواجه الإنسان عندما يحاول أن يوازن بين إرث الماضي ومتطلبات المستقبل، بين جذوره الثقافية ورحلة التغيير.


صورة غلاف الرواية

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!