لآفاق حرة
هل الحروب تُدهور الأخلاق أم تكشف الخلل؟
قراءة في رواية “بنسيون الشارع الخلفي”
بقلم. ريما آل كلزلي. سوريا
تُطرح الحروب دائماً كأحد أكثر الظواهر تأثيراً على المجتمعات والأفراد، فهي تمثل اختباراً قاسياً للأخلاق والقيم الإنسانية. لكن يبقى السؤال: هل الحروب تُفسد الأخلاق وتجعلها تتدهور، أم أنها مجرد مرآة تكشف عن الخلل الأخلاقي الكامن في النفوس والمجتمعات؟ رواية “بنسيون الشارع الخلفي” للروائي السوري محمد فتحي المقداد، تُقدم تصوراً عميقاً ومعقداً للإجابة عن هذا السؤال، من خلال تتبع التحولات الأخلاقية للشخصيات في ظل ظروف الحرب القاسية. وتضعنا أمام نموذجين من وجهات النظر والشخصيات التي مثلتهما.
أولا/ وجهة النظر الأولى: الحروب تُدهور الأخلاق.
تُظهر الرواية كيف أن الحروب تخلق بيئة قاسية تدفع الأفراد إلى التخلي عن قيمهم الأخلاقية في سبيل البقاء وتعيد تشكيلها. على الأخص في ظل انعدام الأمان والجوع والخوف، تصبح الأنانية والخيانة والعنف وسائل مُبررة للبقاء. هذه الظروف تدفع الشخصيات إلى قرارات أخلاقية تتعارض مع المبادئ المُعتنقة في أوقات السلام.
وفقاً للفيلسوف توماس هوبز، فإن الإنسان عندما يكون في حالة غياب القانون والنظام يتحول إلى “ذئب لأخيه الإنسان”. تنعكس هذه الفكرة في الرواية من خلال الصراعات التي تنشأ بين نزلاء البنسيون، حيث يتحول المكان الذي كان يُفترض أن يكون آمناً إلى ساحة للفوضى والصراعات.
على سبيل المثال،( نبهان: شخصية انتهازية بطبعها، كشفت الحرب عن الجانب الانتهازي في شخصيته، وزادت من جشعه ورغبته في السيطرة. إذ يستغل الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية، سواء بالمال، أو النفوذ، أو الموارد.
حيث يسعى إلى تحقيق مكاسب شخصية بأي ثمن. كان هدفه الحقيقي يتمثل في استغلال الآخرين والتضحية بهم، فكان مستعدًا للتخلي عن القيم الأخلاقية وحتى عن المقربين إذا كان ذلك يخدم مصلحته أو يعزز مكانته.
كما أظهرت الحرب افتقاره لأي تعاطف مع المتضررين، فهو يركز فقط على مصالحه الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب معاناة الآخرين. قد تؤدي الحرب إلى دفع نبهان لمواجهة لحظات ضعف أو مواجهة عواقب أفعاله، لكنه غالبًا ما يستغل هذه اللحظات ليعيد بناء نفوذه بطرق غير أخلاقية.)
أما ( سيرا فقد أكدت هذا الرأي بكونها شخصية
غير أخلاقية تدفعها رغبتها في التغيير إلى تجاوز القواعد الأخلاقية، مما يجعلها تفرض رؤيتها بالقوة أو تتجاهل تأثير أفعالها على الآخرين. إذا شعرت بأن الحرب عرقلت طموحاتها أو ألحقت بها ضررًا شخصيًا، قد تتحول إلى شخصية انتقامية لا تهتم إلا بمصالحها.) وهذه الشخصيات لا تعكس فقط الانهيار الأخلاقي، بل تُظهر كيف أن الحرب تُجبر الأفراد على مواجهة تغييرات جذرية في منظومتهم القيمية.
الشخصيات التي كانت تتسم بالطيبة والتعاون تتحول تحت وطأة الظروف إلى شخصيات أنانية، تعكس كيف أن الحرب قادرة على تحطيم الروابط الإنسانية التي كانت تشكل نواة الأخلاق. حتى مشاهد العنف والقسوة التي تُمارسها الشخصيات تجاه بعضها البعض، ليس بدافع الكراهية الشخصية، بل كرد فعل على الظروف الصعبة. فيعكس كيف أن الحرب لا تُظهر فقط الأخطاء، بل تصنع تغيرات جذرية في طريقة تعامل الأفراد مع بعضهم.
ثانياً/وجهة النظر الثانية: الحروب تكشف الخلل الأخلاقي ، إذ يمكن اعتبار الحروب كاشفة وليست صانعة للأخلاق. فهي تضع الإنسان في مواقف حاسمة تُبرز ما كان خفياً في داخله. من يملك قيماً أخلاقية راسخة يتمسك بها حتى في أصعب الظروف، بينما من يفتقر إلى المبادئ يظهر على حقيقته. بمعنى آخر، الحروب ليست سبباً للانهيار الأخلاقي، لكنها اختبار يكشف مدى رسوخ القيم لدى الأفراد.
وفقاً لنيتشه، الحروب والأزمات تكشف هشاشة القيم التي تبدو قوية في أوقات السلم. في كتابه “ما وراء الخير والشر”، يرى نيتشه أن القيم الأخلاقية ليست ثابتة، بل هي انعكاس لموازين القوى في المجتمع. الحرب، إذن، تكشف عن تناقضات خفية في النفوس البشرية.
الرواية تُبرز هذا الجانب بشكل واضح، حيث نجد أن بعض الشخصيات، مثل نورما (بدت في البداية شخصية أخلاقية ملتزمة حافظت على قيمها وأظهرت شجاعة وتضحية رغم الظروف القاسية. لكن مع ازدياد الضغوط والمخاوف وجدت نورما نفسها منهكة عاطفيًا، تفقد التوازن وتصبح أقل قدرة على تحمل الأعباء. وعبرت عن هشاشة القيم التي كانت تحملها، إلى أن تمكنت من الهروب واستطاعت أن تنعزل عن الآخرين خوفًا على نفسها أو نتيجة للإحباط. في النهاية تراجعت نورما لتكون شخصية داعمة، تُظهر التعاطف مع المتضررين وتحاول مساندتهم نفسيًا وماديًا)، تُظهر شخصية نورما في الرواية أن القيم السطحية تنهار بسهولة تحت الضغط، بينما القيم الأخلاقية المتجذرة تصمد أمام الأزمات.
بين وجهتي النظر: الحروب تفعل الأمرين معاً ما يجعل هذه الرواية “بنسيون الشارع الخلفي” عملاً مُميزاً هو قدرتها على تقديم رؤية معقدة ومتعددة الأبعاد. فهي تُظهر أن الحروب تقوم بالأمرين معاً:
1. تدهور الأخلاق: بسبب الضغوط النفسية والجسدية التي تُجبر الأفراد على التخلي عن قيمهم للبقاء.
2. كشف الخلل الأخلاقي: حيث تعمل كاختبار يُظهر حقيقة القيم والمبادئ التي يحملها الأفراد والمجتمعات.
المجتمع المصغر في البنسيون، الذي بدا متماسكاً في البداية، يكشف عن تصدعات أخلاقية كانت موجودة بالفعل. الرواية تُبرز كيف أن القيم الأخلاقية الهشة تتحطم تحت وطأة المعاناة، بينما القيم الراسخة تُصبح أكثر وضوحاً. وقد وزع الروائي شخصياته كرموز لرؤى متناقضة لتعبر عن وجهتي النظر المختلفتين.
تكشف رواية “بنسيون الشارع الخلفي” عن حقيقة معقدة، وهي أن الحروب ليست سبباً لتدهور الأخلاق بقدر ما هي مرآة تُظهر ما كان يكمن تحت السطح. لكنها في الوقت نفسه تُعيد تشكيل سلوكيات الأفراد ومنظومتهم القيمية وفقاً للضغوط التي يواجهونها. المجتمعات ذات البنية الأخلاقية الضعيفة تكون أكثر عرضة للانهيار أثناء الحروب، بينما المجتمعات ذات القيم المتماسكة تميل إلى الصمود رغم الانتهاكات التي قد تحدث.
يبقى السؤال الأهم الذي تُطرحه الرواية: هل نحن ضحايا للظروف، أم أن الأخلاق هي ما يُميزنا حتى في أشد الأوقات قسوة؟ الإجابة قد تكون مزيجاً من الاثنين معاً، حيث إن الحروب تُظهر خير الإنسان وشره في آن واحد، ما يجعلها اختباراً حقيقياً للإنسانية.