لآفاق حرة
قراءة فى مجموعة (اختفاء الزنابق) للكاتب هشام العطار.
بقلم نهى الرميسي. مصر
أربع عشرة قصة، تقع فى سبع وسبعين صفحة، كل قصة منها ثلاث أو أربع صفحات على الأكثر، وعلى الرغم من ذلك فحين تشرع فى قراءة المجموعة، فأنت تحتاج لأن تشحذ همتك وتستجمع مشاعرك وتلم شتات أمرك، حتى تستوعب المعنى وتدرك ماوراء الكلمات، وماوراء المعانى الظاهرة، فاستخدام الجمل البلاغية من كنايات واستعارات هى الصياغة الطاغية على الأسلوب السردى للمجموعة، ومن هنا تتجلى اللغة الشاعرة عند الكاتب، لنكتشف أننا أمام مقطوعات شعرية أكثر منها مجموعة قصصية، فهى مقاطع شعرية لكن دونما وزن وقافية، وإنما هى لغة شاعرة بما فيها من موسيقى داخلية وصور وأخيلة تشبه لغة الشعر تماما.
كما أن خصوصية الصياغة فى هذه المجموعة تأخذنا إلى منطقة فى النقد يسمونها (تيار الوعى) وهى تعتمد على تحرير الداخل اللاشعوري ،والانسياب المتواصل للأفكار داخل الذهن أو جريان الفكر باطنيا وذهنيا، ويدخل في إطار هذا التيار الكثير من التغييرات والتقلبات والتدفق والتفاعل بين الماضي والحاضر. وهناك العديد من الأشكال السردية التى يتخذها هذا التيار، وأعتقد أننا بصدد لون من هذا.
وعلى الرغم من هذا النسق الشعوري التلقائي فى السرد، إلا أن الكاتب يختار ألفاظه وتعبيراته بعناية ودقة فائقة تماما كما يفعل الشاعر.
أيضا حين تقرأ المجموعة تجد نفسك أمام كاتب يتمتع بثقافة واسعة ووعي كبير بقضايا مجتمعه وبيئته.
مثلا فى صفحة خمسين فى قصة (غابة السنط) نجده يقول : أصبحت الأشجارُ صامتةً، أوراقُها شمعيةٌ، لاتحركُها أعتى الأفكار.
فما يحرك الأشجار ليس الرياح وإنما الأفكار،
لتجد نفسك فى نهاية القصة قد تجسدت أمامك قيمة حرية التعبير، ومأساة الصمت الذى يؤدى إلى الموت وإن تعددت الطرق والوسائل. يعنى كما يقال تعددت الأسباب والموت واحد، ولكن كاتبنا يضيف إليها معنى الموت بغرض الإزاحة وإفساح الطريق.
وهنا يقف الكاتب على معضلة أرقت الكُتاب على مر العصور حيث كانت الكلمة دائما هى معضلتهم الكبرى، ويتجلى هذا فى القصة الأولى التى تحمل اسم المجموعة (اختفاء الزنابق) لنكتشف أن الزنابق ربما هى الكلمة التى يفتقدها الكاتب ويطيل البحث عنها على مدى سبع وسبعين صفحة.
وهنا اضرب لكم مثلا لنعرف قيمة وأهمية الكلمة عند الكتاب فهى تمثل الحياة بالنسبة لهم:
لما احتضر عبدُ الملكِ بنُ مروان … دخل عليه ابنُه الوليد، فتمثل بيتا من الشعر فقال:
كم عائدٍ رجلاً وليس يعودُه إلا ليعلمَ هل يراه يموتُ
فبكى الوليد، فقال عبد الملك: ما هذا؟! أتحن حنين الأمة؟! إذا مِتُّ… فشمر وأتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفَك على عاتقِك، فمن أبدى ذاتَ نفسِه فاضرب عنقَه، ومن سكت… مات بدائه). يعنى السكوت هو الموت لمن دوره فى الحياة أن يتكلمَ ويبينَ للناس.
وهذه القصة تحديدا(اختفاء الزنابق) تحمل قضية كبرى وهى ضياعُ اللغة ومن ثم ضياعُ الهوية، وهكذا الإبداعُ الفنى الذى يمكنه أن يعبرَ بسلاسة عن قضايا كبرى بفكرة رمزية مبتكرة لاهى موغلة فى الرمزية ولا هى مباشرة بشكل مدرسي، وإنما هو تصويب فنى دقيق تجاه الهدف فى قالب تشويقى جذاب.
واللغة كما نعلم هى وعاء الفكر، ولذلك نرى المفكرين والكتاب يكافحون وينافحون من أجلها، ونجد مثلا جورج اورويل فى روايته 1984 يجسد هذه الفكرة من خلال الأحداث حيث البطل كانت طبيعة عمله هو مراجعة الكلمات والمصطلحات وشطب بعضها بما لا يتناسب مع فكر المرحلة وعبر عنها أيضا بشكل مباشر حين يقول : “الفكرة الكبرى وراء لغة الأخبار هي مُصممة لتقليص نطاق الفكر. في نهاية المطاف، سوف يكون التفكير الحر ببساطة مستحيلاً، لأنه لن توجد كلمات للتعبير عنه”.
كانت هذه اللغة الخيالية، على حد تعبير أورويل، ” مُصممة لتقليص نطاق الفكر “. والواقع أن اللغة الجديدة كانت تتسم بحذف بعض الكلمات والإفراط في استخدام الاختصارات.
ونعود إلى مجموعة (اختفاء الزنابق) …
لنرى مثالاً آخر فى قصة ( انتظار الحناوى) تتجسد لنا فكرة تيار الوعى التى تحدثنا عنها، لنلمس جماليات تيار الوعى من خلال القفز على الحقب الزمنية ليثبت الفكرة خلف مقولة (ما أشبه الليلة بالبارحة) وأن الأسى والظلم ممتد فى بعض المجتمعات عبر الأجيال الصابرة.
أما قصة (سيدة وباقة من الزهور) فهذه قصيدة شعر ص 17 حيث يقول:
“عندما يأتيكم الجراد ليلتهم أطفالكم فلتحنوا له الرؤوس، ولتقدموا له واحدًا من خير فلذة أكبادكم قربانًا، ولتخلعوا النعال ولتلزموا دياركم ولتغلقوا الأبواب حتى يأخذ الطفل ويمضي بسلام.
أمَّا إذا جاءتكم العصافير يطلبون الأرض والحب فاقتلوهم واحرقوا أجسادهم، فإن الأرض والحب أيضًا للجراد… آمين”
قصة (آيل للسقوط) أيضا تعبر عن قضية كبرى من قضايا المجتمع وآفة من الآفات التى تصيبه وهى التفاوت الكبير والبون الشاسع بين طبقات المجتمع .
فى القصة الخامسة (قصة نجاح) ص 27.
وفيها يصور لنا الكاتب حياة رجل مهم وناجح تسبب له النجاح فى بذل مزيد من الجهد واللهاث فسقط تحت ركام نجاحه، الفكرة قد تكون متكررة ولكن الميزة هنا للأسلوب وكيفية التعبير البلاغى الذي تحدثنا عنه، والذي يجعل القارىء المتذوق لجماليات اللغة يستمتع بالقراءة.
كذلك فى قصة (السباحة فى الظلام) حيث هى تعبير عن تكرار أبجديات الحياة ورغم ذلك فالقادمون لا يتعلمون من أسلافهم ولا أحد يوعظه الموت، وكل جيل جديد يأتى بأحلامه التى تموت معه.
القصة الأخيرة، وفكرة اختفاء الأيقونات والرمزية فيها، أيضا هى قضية مجتمعية كبيرة، يعيشها المجتمع فى فترة الخواء الفكرى، وفترات النخر فى عظامه وقيمه الأصيلة، فلم يعد هناك ثقات، إما لأنهم سقطوا مع الامتحانات والاختبارات التى صنعتها الأحداث، أو لأنهم تعرضوا للتشويش والتشويه من المأجورين والمرجفين.
العمل كله يستحق القراءة والاهتمام، فهو قيمة سردية مفيدة وملهمة.