كتب الأستاذ حسن الكَامح. قراءة في رواية “شموس الطين”

لآفاق حرة

قراءة لرواية “شموس الطين”
للكاتبة ريما آل كلزلي. سوريا

بقلم. الحسن الگامح*. المغرب.

تُعد رواية “شموس الطين” للكاتبة ريما آل كلزلي، التي صدرت طبعتها الأولى عام 2024 عن دار Metaverse Press، عملًا أدبيًا عميقًا يغوص في أعماق التجربة الإنسانية، متناولًا قضايا الوجود، الفقدان، البحث عن الذات، وتحدي الظروف القاسية. تتجلى الرواية كرحلة استكشاف للوطن، الحرمان، الحب، ومكانة الكلمة في مواجهة الألم.

دلالات الإهداء ومفتاح الفهم
يُعد إهداء الرواية بمثابة مفتاح لفهم محاورها الرئيسية، حيث توجه الكاتبة تحيتها إلى:
• “كل لاجئ مازال يحفل بالحب والجمال برغم مرارة الحرمان…”
• “أبي وأمي أوطاني الحانية…”
• “روح أخي محمد شهيد كورونا رحمه الله.”
• “أ. سومر د. نوفل، د. زرياف”
• “سوريا وطني الأول.”
يكشف هذا الإهداء عن جوهر الرواية المتمثل في تجربة اللجوء والمعاناة الإنسانية، وتأكيد الهوية الوطنية السورية، والفقدان الشخصي (فقدان الأخ)، بالإضافة إلى الاعتراف بالدعم المعنوي من الأشخاص المحيطين. هذا الإطار العاطفي والإنساني يضع القارئ مباشرة في قلب الرواية، مشيرًا إلى طابعها الواقعي والعاطفي.

تحليل عنوان رواية “شموس الطين”
يحمل عنوان رواية “شموس الطين” للكاتبة ريما آل كلزلي دلالات عميقة ورمزية مكثفة تلخص جوهر الرواية وموضوعاتها الرئيسية. يجمع العنوان بين متناقضين ظاهريًا، “الشموس” و”الطين”، ليخلق صورة شعرية تعكس الصراع بين الألم والأمل، والواقع والمثل الأعلى.
“الطين”: رمز المعاناة والواقعية
كلمة “الطين” في العنوان يمكن تحليلها على عدة مستويات:
1. المادة الخام للإنسان والأرض: يشير الطين في التقاليد الدينية والفلسفية إلى أصل الإنسان ومادته الترابية. هذا يربط العنوان بالبعد الإنساني العميق، مشيرًا إلى الضعف البشري، الفناء، والتجربة الأرضية بكل ما فيها من مشقة وتحديات.
2. الألم والمعاناة: يمكن أن يرمز “الطين” إلى الظروف الصعبة والقاسية التي يواجهها الإنسان، مثل الفقر، النزوح، الحرب، والفقدان. في سياق الرواية التي تتناول قضايا اللجوء وفقدان الوطن، يصبح “الطين” استعارة للواقع المرير، أرض الوطن المتصدعة، والآلام التي يتركها الحرمان. هو يمثل الثقل، الكثافة، والجانب المظلم أو المتألم من الوجود.
3. الواقعية والتجربة الحياتية: الطين مادة واقعية، ملموسة، تُستخدم للبناء ولكنها تتشكل وتتأثر بالعوامل الخارجية. هذا يوحي بأن الرواية تغوص في تفاصيل الحياة اليومية وتجارب الشخصيات الواقعية، بكل ما فيها من عيوب ونقص.
“الشموس”: رمز الأمل والنور والتجدد
في المقابل، تأتي كلمة “الشموس” لتبعث الضوء والأمل في قلب هذا الطين:
1. النور والأمل: الشمس هي مصدر الضوء والدفء والحياة. “الشموس” (بصيغة الجمع لتعظيم المعنى) ترمز إلى الأمل المتجدد، النور الذي يبدد الظلام، والقوة الدافعة نحو البقاء والنضال. إنها تشير إلى الإشراقة حتى في أحلك الظروف.
2. الحياة والتجدد: الشمس ترمز أيضًا إلى الدورة المستمرة للحياة والبعث. في سياق المعاناة والفقدان، تشير “الشموس” إلى القدرة على التجدد، والنهوض من رماد الألم، واستعادة الأمل في مستقبل أفضل.
3. القوة الداخلية والإبداع: يمكن أن ترمز “الشموس” إلى القوة الكامنة داخل الإنسان، الروح المضيئة التي لا تنكسر، والإبداع الذي يولد من رحم المعاناة. فالكتابة والأمل هما “شموس” تنبعث من “طين” الواقع المؤلم.
4. التعددية والتنوع: صيغة الجمع “شموس” قد توحي بتعدد مصادر الأمل أو بتنوع أشكال النور الذي يواجه الظلام، سواء كان ذلك الأمل في العلاقات الإنسانية، أو في الفن، أو في الصمود الشخصي.
التناقض الجميل والرسالة المحورية
الجمع بين “شموس” و”الطين” يخلق تناقضًا جميلًا ومؤثرًا يُبرز الرسالة المحورية للرواية: إمكانية وجود الجمال، الأمل، النور، والقوة حتى في أحلك الظروف وأكثرها قسوة. العنوان يلخص فكرة أن المعاناة ليست نهاية المطاف، بل يمكن أن تكون منبتًا للخير والأمل.
إنه يعني أن الإنسان، على الرغم من كونه مخلوقًا من “طين” (ضعيف، فانٍ، متألم)، إلا أنه يحمل في داخله “شموسًا” (أمل، قوة، إبداع، قدرة على التجاوز). هذا التفاعل بين المادة الأرضية الخشنة والنور السماوي الساطع يعكس صراعًا داخليًا وخارجيًا يُفضي إلى الانتصار الإنساني على المحن.
في الختام، عنوان “شموس الطين” ليس مجرد تسمية، بل هو قصيدة مكثفة تلخص فلسفة الرواية: دعوة للتأمل في أن الألم يمكن أن يكون بذرة الأمل، وأن النور يمكن أن ينبثق حتى من أعمق الظلمات. إنه رمز للمرونة البشرية وقدرتها على إيجاد الجمال والحياة في مواجهة التحديات الأكثر وحشية.

بنية السرد والزمن المتشابك
تُقدم الرواية سردًا معقدًا يتنقل بين الحاضر والماضي، وتعتمد على منظور المتكلم (الراوي) الذي يبدو أنه “سومر” (وفقًا للإهداء). يبدأ السرد في لحظة حالية: “بعد يوم واحد من الجائزة”، حيث يتلقى الراوي جائزة أدبية. هذه اللحظة الاحتفالية تتناقض مع المشاعر العميقة للألم والفقدان التي تسيطر على الراوي.
تتخلل السرد ذكريات عميقة ومؤلمة تعود بالراوي إلى طفولته وتجاربه مع شخصية “عاصي” المحورية. تُقسم الرواية إلى فصول (الفصل الأول، الثاني، الثالث) وعناوين زمنية (مثل “بعد سنة”)، مما يشير إلى تتبع زمني للأحداث، لكن هذا التتبع ليس خطيًا تمامًا، بل يتداخل مع استرجاعات الماضي وتأملاته.
الشخصيات: مرآة للذات والعالم
تُشكل الشخصيات في “شموس الطين” محاور رئيسية تعكس التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها:
• الراوي (سومر): يظهر كشخصية حساسة، متأملة، ومثقلة بذكريات الماضي الأليم. يتذكر نصيحة عاصي له بأن “الرجال لا يبكون”، لكنه يدرك لاحقًا أن “البكاء يستمد وجوده من تفاعلنا مع الحياة، من خيباتنا وأفراحنا، من لحظات ضعفنا وقوتنا”. هذا التطور في فهم الذات يعكس رحلة الراوي نحو النضج والقبول. هو شخص يبحث عن السلام بعد المعاناة، ويتجلى ذلك في كلماته “الليل موحش، مظلم بلا قمر، لكن الخوف هو السلاح الذي لا يُهزم”.
• عاصي: يمثل عاصي الفيلسوف، المرشد، والروح الحرة في حياة الراوي. كلماته المكتوبة تمثل خلاصة فكره عن الحرية، الطفولة، وقوة العقل. “السلاح الحقيقي عقل لا تحمله الأيدي”، و”ما دامت الحرية في الأيدي، لا تعرف ما دامت السلاح في الأيدي”. يبدو عاصي رمزًا للأمل والعناد في وجه الظلم، وشغفه بالكتابة “لا ينطفئ، بل يزيد”. نصيحته للراوي بالكتابة بصدق “بلا زيف، ولا تزين القصص بالكذب” تؤكد على أهمية النزاهة الفكرية والفنية.
الثيمات المتكررة: صدى الألم والأمل
تنسج “شموس الطين” شبكة معقدة من الثيمات التي تتفاعل لتشكل نسيجًا روائيًا غنيًا:
1. الوطن والانتماء: هي الثيمة الأكثر بروزًا. الرواية تتساءل عن معنى الوطن للاجئ، وعن العلاقة بين الفرد وأرضه. “الوطن ليس كلمة ملزمة لنا لماذا؟”، “فالأوطان هي التي نحتويها بقلوبنا”. هذه الأسئلة تعكس حيرة اللجوء والفقدان، وتُبرز أن الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية، بل هو شعور داخلي بالانتماء، الذاكرة، والأشخاص.
2. الأمل واليأس: على الرغم من المعاناة، تبرز الرواية أهمية الأمل. فالراوي يرفض أن تشغله “بريق الذهب عن ضوء الأمل”. الرواية توازن بين وصف الألم العميق (“إن الإنسان لا يخلُق من طين إلا ليحمل ألمه، فهو آلام، ولا يهرم جسد، فهو آلام”) والسعي الدائم نحو ضوء في نهاية النفق.
3. الكتابة والإبداع: تُعد الكتابة ملاذًا وخلاصًا للشخصيات. الكلمات ليست مجرد أحرف، بل هي “نبضات حياة تُروى”، و”سماوات لا حدود لها”. الكتابة هي وسيلة لتخليد الذكرى، التعبير عن الألم، ومقاومة النسيان. إنها قوة تغييرية وشكل من أشكال المقاومة.
4. الحقيقة والصدق: يدعو عاصي إلى الصدق المطلق في الكتابة، مما يعكس دعوة أوسع للحقيقة في الحياة. “لا تكتب بلا زيف، ولا تزين القصص بالكذب”. هذا التركيز على الأصالة يعزز المصداقية العاطفية للرواية.
5. الذاكرة والنسيان: تتصارع الشخصيات مع الذاكرة، محاولةً فهم الماضي وتأثيره على الحاضر. الذاكرة هي مصدر للألم والفرح، وهي أساس الهوية.
6. الحرية والمقاومة: من خلال كلمات عاصي، تتضح رؤية للحرية لا تتعلق بالسلاح، بل بالعقل والوعي. “الحرية الحقيقية لا تُعرف ما دامت السلاح في الأيدي”.
الأسلوب الأدبي والرمزية
تعتمد الكاتبة على لغة شعرية غنية بالصور والمجازات، مما يُضفي عمقًا عاطفيًا على السرد. أمثلة على ذلك:
• “الليل موحش، مظلم بلا قمر، خيمة كبرى تبتلع خيمتنا الزرقاء الصغيرة.” (تصوير الليل ككيان يبتلع الحياة).
• عيني عاصي “تشعان بالحب، ساطعتان كشمس صيف لا تضمر خداعًا.” (تشبيه العينين بالشمس لبيان النقاء والصدق).
• عنوان الرواية نفسه، “شموس الطين”، يحمل رمزية عميقة. “الطين” قد يرمز إلى الألم، المعاناة، الضعف البشري، أو حتى الوطن المدمر. بينما “الشموس” ترمز إلى الأمل، النور، الحياة، والقوة التي تنبثق حتى من أقسى الظروف. هذا التناقض الجميل يلخص جوهر الرواية: إمكانية ولادة الجمال والأمل من رحم المعاناة.
الرسالة النهائية
تُقدم “شموس الطين” رؤية متفائلة وإن كانت مؤلمة عن القدرة البشرية على الصمود والتجدد. إنها تذكرة بأن الأمل يمكن أن يشرق حتى من أحلك الظروف، وأن الكلمات لها قوة شفائية وقدرة على بناء الأوطان في القلوب، حتى لو ضاعت الأوطان على الخرائط. الرواية دعوة للتأمل في معنى الإنسانية، والتعبير عن الذات بصدق، والبحث عن النور حتى في الطين.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!