كتب عبدالجليل حمودي. “المسرح السياسي عند ” لطفي براهم”

لآفاق حرة

المسرح السياسي عند ” لطفي براهم”

بقلم. عبد الجليل حمودي. تونس

نوّع لطفي براهم (مبدع تونسي) من كتاباته الإبداعية فأصدر روايةً بعنوان ” وحشة قميص” ومسرحيّتين هما ” زمن الجنرال” و” حكاية ضجر” والمتمعّن فيما يخط هذا الكاتب التونسي سيلحظ توجّهه نحو نسق معيّن في الكتابة يجمع مختلف إبداعاته ضمن نسق واحد يربط بينها خيط ناظم متفرد هو الحديث في السياسة فكأننا به كاتب مهووس بالسطلة تشريحا وتفكيكا ونقدا ضمن رؤية جمالية تتجاوز الخطاب المباشر لتحلّق في فضاء المجاز بأجنحة الخيال.
تتطرّق مسرحية ” زمن الجنرال” إلى الحديث عن الديكتاتورية لتبرز عفن السلطة عن طريق الغوص في قاع الإدارة العميقة وتبيّن مدى التداخل بين الحزب والدولة إذ لا انفصال بينهما في عرف الديكتاتور فهو يحكم من خلالهما وأيّ استقلال يحقّقه أحدهما عن الآخر يخافه لأنه يهدّد عرشه وينبئ بزمن النهاية. هذا الخوف يسكن الجنرال رغم القوة الظاهرة فيه. إنه يخاف حتى من مجرّد الكتابة على الجدران بصنفيها الحقيقي والافتراضي.
فعل الكتابة على الجدران رغم أنه لا يحمل سلاحا مباشرا يهدّد السلطة في مضانّها إلا أنه يبقى فعلا مقاوما للغطرسة والتحكّم في رقاب الناس دون وجه حق. لذلك يجد قارئ المسرحية السلطة فيها – بأثافيها الثلاثة – مجنّدة لكي تمنع الكتابة. لقد توحّد البوليس والإدارة والحزب للسيطرة على الشعب بمنعه من الكتابة التي ترمز فيما ترمز إلى نشدان فعل الحرية النقيض الرئيس للحكم الفردي.
وإذا رمنا تتبّع أساليب المسرحية التي توخاها لطفي براهم للحديث عن السياسة والسلطة المنفردة سنلفاه يمتح من تعاليم بريشت إذ يورّط الجمهور معه في الرؤية المسرحية بأن يجعل ثلّة من الممثلين يّتخذون من مقاعد الجمهور مكانا لأداء أدوارهم كما إنه نزع عن الحكواتي في كثير من الأحيان جبّة الممثل ليخاطب المخرج مباشرة بلحمه ودمه. وهذا الاتّكاء على الحكواتي يجعل من نص براهم المسرحي يتناص مع مسرح سعد الله ونّوس خاصة في مسرحيته ” مغامرة رأس المملوك جابر” ويبدو أنّ كاتبنا شغوف بونّوس لأننا نجد له معه تناصّا في أكثر من موقع وخاصة في مسرحيته الثانية ” حكاية ضجر” بتقنية التغريب التي تجعل من المسرحية ترتحل في التاريخ غير المحدد ولا المعروف لتجعل القارئ يعيش في أجواء تشبه أجواء ” ألف ليلة وليلة ” عن طريق شخصيّتي الملك والوزير. وإذا كانت مسرحية زمن الجنرال تجول أحداثها بين الشارع والأماكن الدالة على السلطة (مركز البوليس/مقر الحزب/ مقر الولاية) فإنّ مسرحية حكاية ضجر تتسرّب إلى أروقة قصر الحكم وتتهادى في مضاجعه وكواليسه تشرّح موضوع الخيانة وتفكّك العلاقات بين الفاعلين في الحكم قاتلةً كل علامة أمل في حياة إنسانية راقية إذ جعلت وليّ العهد يقتل عاشق أخته لمجرّد أنّه فرد من الحرس أحبّ سيّدته. كما إن المسرحية تتعمّق أكثر بالولوج إلى داخل ذات الملك فتبيّن مشاعره وضجره المتواصل لتظهر أن الملك يفتقد إلى السعادة التي قد تلوح على وجوه العامة وبقي هو يبحث عنها لكنّه لم يجدها.
أما فيما يخص التقنيات المسرحية التي توسل بها لطفي براهم في مسرحية حكاية ضجر فإنه إلى جانب تقنية التغريب التي أشرنا إليها آنفا توسّل بتقنية التضمين وهي بدعة تخلق مسرحية داخل المسرحية الأم علّها تنشد تشويقا لدى القارئ أو المتفرج كما تشير إلى دلائل أراد من خلالها الملك أن يبيّن للعامة سعادتهم التي يمتلكونها ويفتقدها رغم أنهم يتصوّرون العكس.
إن لطفي براهم بهاتين المسرحيّتين زمن الجنرال وحكاية ضجر انتهج خطى فوكو في الولوج إلى ميكروفيزياء السلطة فحاول تفكيكها من الداخل لفهمها وتشريحها ونقدها كما إنّه يدعو الجمهور إلى التفكير بدل التصفيق إذ إنه لم يعط حلولا جاهزة لتجاوز الواقع العفن وإنما ترك للجمهور حرية اختيار مصيره عبر التفكير. إنهما مسرحيّتان تشيران إلى أن لا فرق بين مأساة الملِك ومأساة المُلك.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!