لآفاق حرة
“بنسيون الشارع الخلفي”..
اقتحام جريء لعالم التابوهات
لا يتهيب الروائي محمد فتحي المقداد ملامسة حدود التابوهات في الكتابة الروائية، ولا يخشى اقتحام عوالمها، حيث يطلق صرخة مدوية في روايته “بنسيون الشارع الخلفي” تعلن أن الفساد والقمع والقصف والدمار الذي تزرعه الأنظمة لا بد أن ينعكس دمارا في النفوس، وخرابا في الأخلاق، وتعميما للخيانات والانتهاكات والتجاوزات.
ابتداء من العنوان الذي بدت فيه مفردة “بنسيون” غريبة بعض الشيء عن بيئة دمشق وما يحيط بها من قرى وتجمعات صغيرة تتلامس معها وتتشابك حيث تجري أحداث الرواية، يصر المقداد على أن يضعنا في جو غرائبي كأنما يريد القول إنه “حين ينخر سوس الخراب في مكان فإن كل ما يلامسه يتحول إلى خراب”. لذا فإنه يختار البنسيون، وهو المسكن الذي يقطن فيه صاحبه ويؤجر بعض غرفه لآخرين، مسرحا لروايته مع كل ما يسمح به مثل هذا المكان من التقاط لأشخاص من مشارب عدة، لكنه في روايته يوقعهم في مستنقع الآثام ربما لأنهم يرون في ذاك وسيلتهم الأسهل لمواجهة تبعات الحياة وصعوباتها في ظل حرب طاحنة وتدمير ممنهج يمارسه النظام ليهدم المكان والتاريخ وحياة الناس وارتباطهم بذكرياتهم، وعنهم يكتب: “توافق غير معلن بين طائفة البنسيون، مختلفون بطبائعهم بمنابتهم وأصولهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية والطائفية، فكان البنسيون بوتقة صهر هذا التنافر، ليكوّن منهم منتجا جديدا”.
يرسم المقداد صورة لبطل روايته “نبهان” الذي أخرجه والده مبكرا من مبكرا، فلا هو تعلّم، ولا هو يعرف حتى كيف يدير “بنسيون”، فيكتب: “نبهان بطبيعة تواجده حديثا في المنطقة، يعتبر عابرا كما المارون… لم يدرك هذه الجزئية المهمة. العابرون لا يلبثون إلا قليلا”.
ويكمل “نبهان مشغول فكره دوما، فهو لا يتأمل أي شيء إلا إذا أراد معاينة مكان ليرى ما يستطيع أخذه، وتشليح ما يمكنه تشليحه”.
ويواصل: “ذاكرة نبهان متخمة بأحلام الثراء والمال والأعمال”.
هذه الصورة لشخص انتهازي، لم تسلم منه ـ على الرغم من جهله ـ حتى الكتب القديمة المنسية في مكتبات هجرها أصحابها وفروا للنجاة بأرواحهم، ولم يلحقها تشبيح ركز على الأثاث والقطع الكهربائية، يجعل من المفهوم والمتسق مع تطور الرواية أن ينتهي إلى الغرق في رحلة هروبه من “أبو حيدر” الذي كان يتحين فرصة انتهائه من جمع تلك الكتب ليحصل عليها ويبيعها دون عناء.
و”أبو حيدر” الرجل الذي يدير الدفاع الوطني في المنطقة ـ التشكيل الذي أوكل إليه النظام نصب الحواجز وتقطيع أوصال العاصمة، هو كما كتب المقداد في الرواية: “المعلم الكبير. بيده مقاليد الأمور كلها هنا، فهو يمسك بالمنطقة الجنوبية بأكملها من العاصمة”.
وبذكاء يرسم المقداد كذلك صورة لمدينة تحت الحرب، بما يبرر كل ما مر عليه في الرواية من انحطاط، فيكتب: “في الحرب تباع الكرامات والذمم، ويُداس الشرف، وتُكسر سيوف العزة، وتضيع الأنساب، ويصعد التّحوت، وتُشوه الحقائق، وتُسوق الأكاذيب والأضاليل على أنها حقائق، ويكثر العرابون، وتصبح الشياطين ملائكة”.
“بنسيون الشارع الخلفي” رواية صادمة، كاشفة، مكتوبة بلغة بسيطة، يجرب فيها المقداد أشكالا عدة من السرد، مستخدما الكتابة بضمير الغائب حينا، وضمير المتكلم أخرى، خالطا بين الاستذكار والمناجاة الذاتية والاستباق، ومازجا بين الأزمنة مثل لاعب سيرك يتفنن في قذف كراته والتقاطها.