لآفاق حرة
إضاءة على ديوان
“عاشق وكفى”. د. “إبراهيم الطيار”
بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد
تتبدّى فلسفة عنوان المجموعة الشعريَّة “عاشق وكفى”، بالتوقُّف في رحاب هذا العنوان الإشكالي بأبعاده المعنويَّة والفلسفيَّة، لندخُل من ثمَّ في إشكاليّة الكفاية، والاكتفاء بأن يكون عاشقًا، وكأنّ الشّاعر “إبراهيم الطيّار” يُخاطب مُحيطَه الاجتماعيَّ والعالم أجمَع: “أنا عاشق، وكفى” أي، يكفيني من حياتي أن أكون عاشقًا، وهل بمُستطاع الجميع أن يُصبِحوا عُشّاقًا..!؟. وأن يكون المرء عاشقًا فهذه أُمنية عزيزة ربّما لا يحصل عليها إلَّا الأصْفياء.
ولا شكّ بأنّ العَشقَ هو إحدى مراتب الحُبّ المُتقدّمة، وحسب تصنيفات كتاب “فقه اللّغة وسرّ العربيّة” للثعالبيّ، يأتي العشقُ في المرتبة السّابعة للحب. وهو مرتبةٌ إنسانيّةٌ تجمع بين صدق العاطفة التشاركيّة مع الآخرين المُتماثلين بذات السّياق العام، وهو ما يُمثّل الشيء بالشيء يُذكَر، فذكر “قيس بن المُلوّح” يستجلب “ليلى” وهو الشّهير ب”مجنون ليلى”، وإذا ما ورد اسم “قيس بن ذريح” تأتي “لُبنى” تلقائيًا، وهو المشهور ب”مجنون لُبنى”، وما ذُكِرت “رابعة العدويّة” ليأتي مصطلح “العشق الإلهيّ”، وما اِقترانُ حُبّ الأوطان بالإيمان، إلّا لقداستها وعِظَم شأنها في حياة البشر، وهو ما عبّرت عنه المقولة: (حبّ الوطن من الإيمان).
ومن قلّة المعرفة، وسوء التقدير للخطأ الشّائع: بأنّ الحبَّ والعِشقَ والغرامَ وخلافَ ذلك من الأوصاف بأنّها تأتي على معنى واحد. وبالرُّجوع إلى المعاجم والمُصنّفات اللّغويّة، والمُدوّنات الشعريّةّ؛ يمكننا الوقوف على درجات الحبّ المُتقاربة بتفصيل معانيها بدقّة، وهو ما يُشبه الإجماع عليها من أئمة اللُّغة العربيّة ونُحَاتِها.
وقد ورد معنى العشق في قاموس المعاني: (عَشِقَ: (فعل). عشِقَ يَعشَق، عِشْقاً، وعَشَقاً، ومَعْشَقاً فهو عاشِقٌ، وهي عاشقٌ وعاشقَةٌ، والمفعول مَعْشوق وعشيق. عشِق الشَّيءَ: هَوِيَهُ وتعلّق قلبُه به وأحبَّه حُبًّا شديدًا. عَشِقَ بِالشَّيْءِ: لَصِقَ بِهِ، لَزِمَهُ).
والعشق عند “نزار قبّاني” بأنّه فرطُ الحبّ، وقيل: “هو عُجْب المُحبّ بالمحبوب يكون في عَفاف الحُبّ ودَعارته”. ومن الحُبّ بجميع معانيه نشأت فكرة الغزل والتغزّل بالمحبوبة والتّشبيب بها، حتّى صار الغزلُ أحد أغراض الشّعر العربيّ منذ “امرئ القيس” وُصولًا إلى العصر الحديث.
الوطن قصّة عشق في ديوان “عاشق وكفى”:
تتعزّز إشكاليّة العنوان الانزياحيّة، ومراميه البعيدة والقريبة من خلال رُؤية الشّاعر، وبالذّهاب مع مذهب التحليلات والتأويلات: “فعشقنا ليرموك النَّصر لا ينضب، كيف لا وقد تعلّمنا على يد المُعلّم أنّ الأرض لا يرثها إلّا المُخلصون، ولا يحافظ عليها سوى العاشقين المُتفانين، فمن يُحبّ لا يكره، ومن يعشق لا يترك معشوقته. علاقة أبديّة خالدة في زوايا النّفس ترتقي بالفرد، وتسمو بروحه، فما الضَّيْر بعد كلّ هذا أن يكون الفردُ منّا (عاشقاً … وكفى)”.ص8.
العشق اِنْتماء لقضيّة ما. والشّاعر “الطيّار” مُنْتَمٍ بفطرته لمسقط رأسه. الوطن الذي تكحّلت عيناه بنوره الأوّل. الشّاعر مهجوسٌ بالتاريخ والفتوحات، من ضفاف اليرموك إلى روابي القدس اِمتدّت سجّادة عشقه الصُّوفي ببوح قصائده، وجعل من الوطن فضاءات مكانيّة، يجدُر التوقّف عندها؛ لتكون خير دليل للقارئ العربيّ خارج الأردن، ومن المُلاحظ أنّ المكان ثيمة رئيسة لنصوص المجموعة الشّعريّة أوضحتها بعض العناوين. وعلى سبيل المثال نستعرضها:
-العنوان الأول: (كنانيّون) نسبة إلى لواء” بني كنانة إحدى المناطق الإداريّة في محافظة “إربد” شمالي المملكة الأردنيّة الهاشميّة.
(كنَانِيُّونَ يَا وَطَنِي غَيَارَى// كَمَا الْعَنْقَاءُ لا نرضى اِنْهزامًا
كِنَانِيُّونَ فِينَا المَجرُ جِينٌ// مَعَ الأَجيَالِ نُورِثُهُ دَوَامَا) ص15.
-العنوان الثاني: (بلادي)
(هذي بلادي من شهامة أهلها// تأبى الأصالة أن تُفارق ظِلَّها
إرثٌ لَهَا مِن عُمق تاريخ مضى//ريحُ الكَرامَةِ والرُّجُولَةِ نَفحُها)ص21.
-العنوان الثالث: (اليرموك)
(إلى اليرموك شوقي قد دعاني//فأسرجتُ القصيدة والمعاني
سلامٌ أيها النهر المفدّى//فأنت المجدُ، تاريخ الجِنان) ص28/29
وهذا العنوان يأخذ القارئ من فوره إلى الشاعر السوريّ: “بدوي الجبل”:
(قف على اليرموك واخشع باكيا// وتيمّم من صعيد القادسيّة)
-العنوان الرابع: (رسالة إلى القدس)
(ما زلنا يا قدسُ نرعى عهدنا أبدًا//فلتوقدي النّارعلّ بعضَهم يصِل) ص31.
-العنوان الخامس: (إلى جدار)
(رسم الفُؤَادُ عَلَى ثَرَاكِ مَسَارا// وَانْسَابَ نَبضِيَ فِي الهَوَى أَشْعَارًا
شوقٌ تَبَدَّى للعيانِ مُبَعثَراً// مَا بينَ تَلَّةِ خَالِدٍ وجَدَارا) ص37.
-العنوان السادس: (من اليرموك)
(مِنَ اليَرمُوكِ أَشْعَلْنَا الفَتِيلا//فَسَادَ العِزُّ جِيلاً ثُمَّ جيلا
وأَيْنَعَتِ السُّيُوفُ بِنَصْرِ حق// فَلَم تَرضَ الخُنُوعَ لَهُ بَدِيلا)ص41.
التناص:
(وهو من أهم الأساليب النقديّة الشّعريّة المعاصرة، وقد تزايدت أهميّة المُصطَلح في النظريّات البُنيويّة وما بعد البُنيويّة. وهو من المصطلحات والمفاهيم السّيميائيّة الحديثة، وهو مفهوم إجرائيّ يُساهم في تفكيك سنن النّصوص (الخطابات) ومرجعيّتها وتعالقها بنصوص أخرى، وهو بذلك مصطلح أريد به تقاطع النّصوص وتداخلها ثمّ الحوار والتفاعل فيما بينها) منقول من مصادرالأنترنت.
كما أنّ قضيَّة التناص تعكس مدى ثقافة وقدرة الأديب، لإعادة التوظيف، والمُحاكاة والمُجاراة، والإسقاطات بأبعادها التاريخيّة والفكريّة على الواقع، بقصد العبرة والعظة والدرس.
-(فذاك الجسر يشهد والرصافة) ص24. تناص مع: (عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ. جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري) للشاعر العباسي “علي بن الجهم”.
-(هُزي إليكِ بجذع صابه الهزل) ص31. تناص مع الآية الكريمة 25 من سورة مريم: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا).
-(لا تكذبي إني رأيتُ لِحاظكِ)ص51. تناص مع قصيدة الشاعر “كامل الشنّاوي” الشهيرة، بقوله: (لا تكذبي إني رأيتكما معا ودعي البكاء فقد كرهتُ الأدمُعا).
-(دثّريني، وانزعي عنّي اللُّثامةُّ)ص54. تناصٌّ مع قصة الرسول محمد صلى الله عليه، حينما أتاه الوحي في غار حراء، ورجع بيته خائفا يرتجف، وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: (دثريني. دثريني).
-(أيظنّ قلبي حين أقبل عاشقًا) ص60.تناص مع قصيدة الشاعر “نزار قباني” الشهيرة: (أيظن أني لعبة بيديه؟ أنا لا أفكر في الرجوع إليه).
– (للقلب ما عز اللقاء) ص64. تناص مع قصيدة الأطلال للشاعر “إبراهيم ناجي”. بقوله: (ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء).
عبارات منتقاة:
-(سمرا كأنفاس الصباح تَدلّلي// ودَعِي العتاب على الأرُفّ وأقبلي). ص18.
-(قد سافر الحرف مُنسابًا بوجنتيها// ما بين رمش روى قلبي وآنيتي)ص27.
-(على ضفاف دمعةٍ، جدائلها من زنبق، خجلى، يُؤرّقها الأفول) ص38.
-(أَضَمَهُ غُصْنٌ وأَرقَهُ السَّراب، بينَ حُصْنِ الغُصنِ لا يَخشَى الغياب)ص44
(رفيق الغيم في أفق السّخاب، تُعانقُكَ البُيُوتُ وَكُلُّ نَجْمٍ) ص44.
-(سوف يُعلن الغصن الملل)، (لسنا نخشى حين نذهب، أن يُباغتنا الغياب)ص46.
-(قد يصنع الثلجُ، جمرًا في محاحرنا) ص52.
الخاتمة:
في جولة سريعة طوّف بنا الخيال، وطوّح بنا أينما أراد لنا أن تبقى أرواحنا عالقة بذات المكان الذي أراده لنا الشّاعر، أن نتواءم معه، ويبقى عالقًا في ذواكرنا، وراسخًا في وجداننا؛ فالمكان اِنْضوى تحت لواء العشق الأبديّ له؛ فالأماكن مُرتَحِلة فينا، وما زالت تحتفظ بصرختنا الأولى التي لم نسمعها، ولا تبرح ساحات مشاعرنا ووجداننا إن اِبْتعدنا عنها، فكما العشق غرض من أغراض الشّعر، فكذلك الوُقوف على الأطلال ابتدأه الملِكُ الضِلّيل، حينما وقفَ واِسْتوقف، وبكى واِسْتبكى في معلقته (قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل)، وهو ما لمسناه في ديوان “عاشق وكفى”.
إربد. الأردن
11/2/2024