محمد فتحي المقداد

كتب محمد فتحي المقداد. إضاءة على كتاب (الربان والبوصلة)

لآفاق حرة

إضاءة على كتاب “الربان والعاصفة”
(ختيار القضية من الطلقة الأولى حتى التصفية). د. حسن الصباريني

بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد. سوريا

ليس من السَّهل أبدًا الكتابة بموضوع السيرة الغيريَّة من كاتب آخر، وعلى الأخصِّ عندما تتناول حياة زعيم ابن قضية بحجم القضيَّة الفلسطينيَّة، ورمزها الأهمِّ على الإطلاق، في مرحلة شائكة بكثرة تشابُكاتها المُحيِّرة، ويعتبر “ياسر عرفات” هو الرَّئيس الثَّالث لمُنظَّمة التحرير الفلسطينيَّة، بعد “أحمد الشُّقيْريِِّ” و”يحيى حمودة”، وأصبح –عرفات- رئيسًا لحركة فتح، وقائد قوَّات العاصفة الجناح العسكري لحركة فتح، وهو الذي اِقْترح اِسْمها، واُنْتخب ممثِّلاً لها، وناطقًا بلسانها في اجتماع مُغلَق لم يحضره، وهو صاحب أوَّل طلقة، وأوَّل توقيع على الاتفاقيَّات المُباشَرَة مع العدوِّ الصُّهيونيِّ، وأول زعيم بلا دَوْلة يُلقي خطابًا في الأمم المُتَّحدة، وأطلق عليه في بيروت رئيس جمهوريَّة (الفاكهاني).
ونحن بصدد الإضاءة على مُنجَز للدكتور “حسن الصباريني”، الذي يتناول فيه جزءًا بسيطًا من حقبة تاريخيَّة بخُصوص القضيَّة الفلسطينيَّة، حياة الزَّعيم “ياسر عرفات”. في إطارها الإنسانيِّ والسياسيِّ. ذلك القياديُّ الذي حظي بشعبيَّة جارفة، و دائرة خُصومٍ واسعة.
مهما قيل وسيُقال ما هو إلَّا النَّزر اليسير المعلوم للقاصي والدَّاني، أمَّا الجانب الآخر المُظلم من الموضوع، البعيد عن التناول والذي حيكت خُيوطه ونسيجه في أروقة ودهاليز السياسة المُحاطة بأغلفةٍ سميكةٍ من الكتمان والسريَّة.
أمَّا العنوان يُستخدم كاِسْتعارة لرحلة القيادة السياسيَّة، حيث تشير كلمة ” الرُبَّان” إلى القائد، و”البوصلة” إلى الاستراتيجية أو الهدف. يركز الكتاب على التحليل النفسي والسياسي لشخصية عرفات، مستندًا إلى شهادات مُتنوِّعة. تُعتَبر البوصلة رمزًا للتوجيه والاِسْتكشاف، بينما يمثل الرُبَّان الحكمة والقيادة. هذا الثنائي يتكرَّر في الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة، كاِسْتعارة لرحلة البحث عن الذَّات أو الحقيقة. كما أنَّ الرُبَّان والبوصلة عنصران أساسيَّان في الملاحة البحريَّة، ويتمتعان بتاريخ طويل من الأهميَّة في توجيه السُّفُن عبر المحيطات والبحار، وهذا دَيْدن الشخصيَّة القياديَّة، التي تتحمل مسؤوليَّة الوطن والمواطن؛ فالرُبَّان مسؤوليته تتوزَّع على سلامة السَّفينة وطاقمها ورُكَّابها، وعليه أن يتَّخذ القرارات الحاسمة في جميع الظروف.
تطور البوصلة فقد كانت في الماضي، كانت البوصلات بسيطة وتعتمد على المغناطيس الطبيعي. مع مرور الوقت، تم تطوير البوصلات لتصبح أكثر دقة وموثوقية، وتم إضافة ميزات جديدة مثل الإضاءة والتصحيح المغناطيسي. وللقائد السياسيِّ والزَّعيم الثوريِّ أيضًا مجلس من المُستشارين مختلفي التخصُّصات العلمية والتاريخية والجغرافية والسياسية وعلوم النَّفس والإدارة، هذا شأن كل الإدارات الحديثة في مختلف دول العالم.
والإهداء؛ كان عبارة عن فقرة ذات ارتباط وثيق بشتات الشَّعب الفلسطينيِّ في المُخيَّمات، وذكريات وأشواق وأحلام بحق العودة، إلى فلسطين التي تقزَّمت في حياة الشَّتات إلى خارطة تلبَّس جدارًا عتيقًا، وأدبيَّات كأشعار أهازيج، ورسومات حنظلة، تلك الشخصيَّة ذات الرَّسم الكاريكاتوريِّ البسيط، رمز الرَّفض. يُدير ظهره للعالم.. وأقسم ناجي أن لا يُدير ابنه حنظلة وجهه إلَّا بعد تحرير فلسطين.
(إلى ذاك الجالس على أريكته البالية أمام دكانه الصغير في إحدى حارات المخيم…. تستيقظ معه كل صباح ذكريات عتيقة تصحبها تنهيدة حنين حارقة أمام حائط علق عليه خريطة فلسطين التاريخية، ومفتاح العودة، ورسمة حنظلة)ص7.
وبالذَّهاب لصفحة الغلاف الخلفيَّة للكتاب، تتضح رؤية. د. حسن الصباريني في مشروع توثيقي كما جاء في هذا الكتاب، وهو تسطير وتأطير لكلِّ ما عَرَفه، ومَحصَّه عن حقبة مفصليَّة ارتبطت بالقضية الفلسطينية، وبشخصية ياسر عرفات الذي اِرْتبط اِسْمه بها، وهو يرسم صورة تستنطق ملامح شخصية “أبو عمار” أو “الختيار”، كما كان يُلقَّب. هذا الكتاب استلزم جُهودًا كبيرة وحثيثة، وثمرة مطالعات عميقة لمؤلفات ومذكرات وحوارات ودراسات وشهادات حيَّة، والتقييم متروك للتَّاريخ وللأجيال اللَّاحقة.
يعتبر كتاب “الرُّبان والبوصلة” شهادة تاريخية بحدِّها الأدنى، لسيرة الرَّئيس “ياسر عرفات”، والتي هي بدورها جزءٌ أصيل لا يتجزَّأ من تاريخ القضيَّة الفلسطينيَّة، وبحجم تسليط الضوء على الأحداث المُتشابكة بحيثياتها وارتباطاتها الداخليَّة فلسطينيًا وعربيَّا وعالميًّا.
ومحاولة رسم صورة للزعيم الثَّائر والقائد والرِّئيس، وفي جملتها وتفصيلها تستنطق ملامحه الشخصية في إطاره كإنسان وسياسي وزعيم، وقد أجهد “د. حسن الصَّباريني” نفسه؛ بأن يكون قدر الإمكان مُلتزمًا بالشُّروط الموضوعيَّة، التي تستوجب مراعاة الحياديَّة، ومع هذا فليست هناك كتابة حياديَّة أو بريئة، كما يقول الكثير من الكُتَّاب والنُقَّاد. ومع ذلك حاول المؤلف، حسبما صرَّح في مقدمة الكتاب.
وقد واجهته بلا شكًّ المصاعب والعقبات، على اعتبار أنَّ ما جاء في سرديَّته ما زال شفاهيًّا متناثرًا على صفحات المجلات والجرائد، وحكايا تتردَّد على ألسنة المُعاصرين للحدث، أو من الباحثين المُتأخِّرين. أمَّا الآراء المُتناقَلَة على شكل روايات تختلف من شخص لآخر، ويدخُل في ذلك الحبُّ والكراهة، والغيرة والحسد، والصِّراع الفصائليِّ على السُّلطة والقيادة، كل هذه العوامل بلا شكٍّ تُؤثِّر على صحة ودقَّة المعلومة المُدوَّنة في كتاب “الربَّان والبوصلة”.
وعلى رأي مؤلِّف الكتاب: (ما أشقى الحديث عن ياسر عرفات. وما أصعَب الخوض في سيرته، ومسيرته الزَّاخرة بتقلُّبات غير مُتوقَّعة، تتجَّسد فيها جراحات، واِنْكسارات ومفاجآت، وجدل لا ينتهي، وكأنَّك تخطو فعليًّا على حقل ألغام، وتُجدِّف في بُحور تناقضات؛ فالحصول على تفاصيل المعلومة أشْبَه بالبحث عن إبرة في كَوْم من المرويات).
ومهما اتَّفقنا أو اختلفا مع رواية الدُّكتور “حسن الصَّباريني”، وكذلك إذا أحببنا أو كرهنا الرَّئيس الفلسطيني الأوَّل بعد اِتِّفاق أوسلو، وإذا وافقناه أو عارضناه؛ فهو شخصيَّة إشكاليَّة ستحظى بالكثير من الحكايا والأساطير المرويَّة، والتي ستُروى فيما بعد من قوادم الأيَّام، وكثير منها سيُدفن مع أصحابه لأنَّها تُعتبر أسرارًا بمثابة المُحرَّمات لا يجوز إفشاؤها بتاتًا.
فهو –ياسر عرفات- شخصيَّة مُميَّزة حركيًّا، بنا أملت عليه طبيعة العمل الفدائيِّ الذي اتَّبع أسلوب حرب العصابات على مبدأ: (اُضْرُب.. واُهْرُب) لتقليل الخسائر وإيقاع أكبر الخسائر بالعدوِّ. بدا مُتقشِّفًا للعَلَن، وكان يمتلك حقَّ العطاء والمنع حيث أن أموال الثَّورة بيد. كما أنَّه مجبولٌ على الزَّعامة كما وصفه أحد خصومه. لم يخلع اللِّباس العسكريِّ إلَّا نادرًا، وغالبًا للتخفي. لازمته الكوفيَّة التي اُشْتُهر بها، وبشكلها التي حاكت خريطة فلسطين.
كان حريصًا على ترديد عبارات فيها إسقاط الماضي التاريخيِّ على الواقع، والاِسْتدلال بآياتٍ قُرآنيَّة: (إنَّ موعِدَهُم الصُّبْحُ.. أَليْس الصُّبْحُ بِقَريب)، وأحاديث نبويَّة يكررها أثناء خطاباته المرتجلة، وشارة النصر التي يرفعها في الحل والترحال واشتهر بها – استخدمها قبله تشرشل في الحرب مع ألمانيا النازية.
والكتاب إضافة جديدة للقارئ العربيِّ والعالميِّ، وهو جزء أصيل من الموسوعة الفلسطينيَّة، وقد ركَّز على بعض الحوادث المُرتبطة بقائدٍ رمزٍ مُختَلَفٍ فيه عليه، على كُلِّ اِجْتهد الباحث، وأحسَن فيما عرَف وعرَّف، ومعذور فيما عَدَا ذلك؛ لأنَّ الحقيقة الكاملة حول القضيَّة مازالت غامضة؛ لاِرْتباطها بأشخاص وجماعات ما زالت فاعِلَة ومُؤثِّرة؛ فاِنْعكس ذلك على الغُموض الهائل على حياة ياسر عرفات المليئة بالأسرار.

الأربعاء ــــــــا 19\2\2025

 

د. حسن الصباريني. مؤلف الكتاب

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!