محمد فتحي المقداد

كتب محمد فتحي المقداد. الأبعاد السايكولوجية ومخاض الوجود في مجموعة. متنزه الغائبين

لآفاق حرة

الأبعاد السايكولوجية ومخاض الوجود في مجموعة
“متنزه الغائبين” للقاص. “ميثم الخزرجي” . العراق.

بقلم. محمد فتحي المقداد. سوريا

مدخل:
القراءة نبع متجدد للكاتب باستلهام الأفكار، واستيلاد المعاني من أجل رفد تكوينه المُثقَل بقضايا مجتمعه، وللقارئ لإرواء نهمه في البحث والتنقيب عن الجديد. وللكاتب حاجة أساسية ومخاض عسير عند ميلاد أفكاره.
النصوص السردية سواء كانت رواية أو قصة، فهي نوافذ تتيح للقارئ الإطلالة على العوالم الظاهرة والخفية لسردية النص، ولا مناص والفرار من قراءة النص بعيدًا عن الكاتب مهما حاولنا الابتعاد.


إشكالية العنوان:
“متنزه الغائبين” جملة اسمية جاءت عنوانًا لمجموعة قصصية. الأديب “ميثم الخزرجي”، وهو عنوان لنص داخل المجموعة، ومن نافل القول سؤال الكاتب لماذا اختار عنوانه هذا أو ذاك. لأنه بصراحة غير معنيٍّ بالإجابة، هذا التقدير متروك للقارئ لإشغال تفاعله، وإلهاب طرائق البحث والتأويل لإيجاد صيغة تقاربية بين العنوان ومدلولاته على اعتبار أنه عتبة، وبين المحتوى للنصوص التي هي قوام المجموعة.
وفي تتبع المدارات التي انطوى عليها عنوان “متنزه الغائبين” من خلال النص، لتحصل صدمة المفاجأة، أنّ “متنزه الغائبين” مكان محتمل العودة إليه بعد غياب طويل وأشواق حرّاقة، لنجد المتنزه ما هو إلا المقبرة. وبسؤال بسيط بمنطقه المعقول. هل المقبرة مكان للتنزّه؟. وهل هي المكان المُحبّب المعشعش المُرتحل في قلوب البشر؟.
بكل تأكيد قاطع فإن الإجابة: “لا”. من هنا تتأتى إشكالية العنوان الانزياحيه الدافعة للبحث عن ثيمة تشتمل عليها بعض النصوص أو جميعها، ففي بلاد الخوف والصمت ومتاحف الرعب، فإن الحفاظ على الحياة مطلب أساسي، إذ لا سبيل لمقاومة أساليب وأدوات البطش والسلخ للدكتاتوريات القابضة على الرقاب وهي تحصي الأنفاس، إلا بالالتفاف حولها بالتكنية والترميز بالإشارة البعيدة والقريبة لإيصال رسالة الكاتب، الذي يقف على مفترقات الحياة محاولا الفرار إلى أية نقطة في هذا الكون. وهي إشكالية ومحنة الوعي الذي سيدفع ضريبته الإنسان الواعي أثمانًا غالية لوعيه المتقدم على الحالة الاجتماعية، وكما أنها حاجة مُلحة للكاتب، ربما تكون سببا قاتلا له.
جمالية العنوان “متنزه الغائبين” مدعاة للوقوف والتأمل. مقابر ساكنة هادئة يجللها الصمت الموحش وسمتها الدائمة، وهي ليس متنزها إلا للخوف والهواجس والمخيالات الواهمة المكللة بأوهام نسجتها عقول الأحياء عن أحبابهم الغائبين النائمين براحة أبدية في قبورهم.

جولة بين النصوص:
سبعة نصوص قصصية طويلة نسبيا شكلت قوام االمجموعة. ففي نص “الدائرية القصِية” ضمن إطار هذه الدائرة الخاصة، تسرد الطبيبة النفسية من خلال التدوين ملاحظاتها المستخلصة من مرضاها النفسيين الذين التزموا الصمت، عندما اتخذوا من صمتهم لافتة احتجاجية رافضة لواقع موبوء، الطبيبة مشغولة بتخصصها بدراسة حالات مرضاها ولم تخرج خارج عادتها النفسية: (أن الإنسان خلق بمفرده، ويموت بمفرده أيضا، وما يتعلق بالحياة من صح أو خطأ يتحمل وزره هو، ولا شأن للآخر به). لذلك لم تكن تكترث بما حولها بل إن جلَّ ما يشغل يومها هو ملفات مرضاها وتحديدا الحالات التي كانت تستثير دهشتها أو كما تعبر هي عنه: (أقف بحرص حيال الذي يثير دهشتي، أو يسبب لي أرقا).
وللماثل في الفراغ “حميد جبران” في نص “الماثل في الفراع” الذي يعمل رسامًا للكاريكاتير أن يختفي صوته على إثر صدمة موت عائلته في زلزال ضرب مدينته، فيشخصه الطبيب إذا يتبين أنه: (يعاني من نكوص ذهني ليس له بد من أن يعبر عن مأساته، وقد يصل إلى انحسار نفسي عظيم يجعله يهذي محاولا أن يستخرج صوته).
أما في نص “حجرة المرايا” فإن الدليل السياحي “متريانو” الدليل السياحي لمتحف الفلاسفة، ما زال يبحث عن ذاته المفقودة أو ما يشبهه حسب اعتقاده بين جدران غرفته المكسوة بالمرايا، هروب من الواقع بعد فقد زوجته وابنته: (ماضيه إذ كان يرى القادم بماضيه الغزير بالذكريات ليبصر مستقبله). شعور بالعجز والعزلة إذ هو ما يزال يبحث عنهما.
والحديث عن المراهنات يأخذ مدايات عند الدكتور “وارشو” في نص “رهان القادم” المختص في علم الهندسة الوراثة، والخوف المسكتن في دواخله ألجأه للتخاطر مع الآخر، عند الإجابة على تساؤلاته: (سمة التخاطر ما زالت ملازمة له كونه يشعر حال توليه جهة معينة بتماهي رسائل عابرة لينغرس محتواها في ذهنه أو يعلق شيء من معالمها).

وفيما يستغرق “سباهي العظم” بطل قصة “متنزه الغائبين” بمعيشته بين صمت القبور، تتبدى طبيعة حياته: (ما بين الليل والموتى حكاية لا يفقها إلا الذي زاول الصمت في لعبة الحياة الصاخبة، خارجا حيث الألسن التي تصرخ والآراء المتقمطة بالسواد).
ومثلهم شخصية الأستاذ الجامعي دكتور “برهام بركل” أستاذ العلوم الذرية في نص”وجهة الطير”، وشخصية ساعي البريد في نص “اللائذون بالظل” ومواجهته للخوف والقلق بعد موت زوجته وابنته في وباء كوفيد19. وتحوله للصمت عند ممارسة القراءة، واثناء المشي في الأزقة الفارغة إلا من صمتها الموحش.

ختامًا:
بعد التطواف السريع بين ثنايا نصوص مجموعة “متنزه الغائبين”. وملاحظة عناوين نصوص المجموعة التي تتردد بالالتفاف حول فكرة العنوان الرئيس بالإحالة إليه من طرائق واضحة جلية أو عن عن طريق التأويل ومقارنة الشيء بالشيء. في محلولة الإشارة والتأشير للقيود الصارمة بكافّة أشكالها، ومحاولة الإفلات من رقابتها القاتلة.
بالإمكان وصف المجموعة بالحداثية، ومعالجة قضايا عديدة على محمل من مستويات اللغة الفخمة، والمعالجة العميقة بأبعادها الفكرية، والاشتغال على العوامل النفسية من خلال الوصف الدقيق الواعي، وهو ما يمثل ما يتمتع به “ميثم الخزرجي” من مكنون وفيوضات وتراكمات ثقافية وفكرية. تستحق التوقف في رحابها لاستجلاء العبر والعظات. كما أن تقنية القص العالية المستوى تحسب في رصيد المجموعة.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!