نكاد لا نقرأ أيّ مقال عن “مي زيادة” إلّا وقد أحاطها الكاتب/ة بهالة الأدباء الّذين عاصروها. ولا تُذكرُ ميٌّ إلّا مع هؤلاء الأدباء الكبار ومع تركيز دائم على كونها معشوقة الأدباء وملهمتهم دون الانفراد بأدبها كميّ زيادة، اسم بلا ألقاب وبلا إحالة إلى أولئك الأدباء. وكأنّي بميٍّ لا تظهر إلّا من خلالهم، ولا تحمل قيمة أدبيّة بذاتها. كلّنا يعرف أوصافاً مجرّدة لميّ زيادة؛ الخطيبة والشّاعرة والنّاقدة، وكلّ من عاصرها من أدباء ومثقّفين أثنوا على عبقريّتها وذكائها وأدبها. ولكن أين تأثير ميّ في الأدب العربيّ؟ وأين ميّ من مناهجنا الدّراسيّة سواء أكان في لبنان أو فلسطين أو مصر وهي اللّبنانيّة الّتي ولدت في النّاصرة وتعلّمت في مدارسها كما تعلّمت في لبنان ثم انتقلت مع عائلتها لتعيش في القاهرة. لماذا لم يُخصّص أدب مي زيادة بدراسات متخصّصة حتّى تبرز بقوّة كما برز أصدقاؤها الأدباء وتمّ تسليط الضّوء عليهم وعلى أدبهم حتّى نُقشت أعمالهم في ذاكرة الأدب العربيّ. وما زلنا حتّى اليوم نقرأ لهم ونخصّص لأعمالهم الدّراسات ونغرف من أدبهم. وإذا كان أدباء عصرها شهدوا لها بثقافتها وبلاغتها فلماذا لم يخصّصوا هم أنفسهم دراسات عن أدب ميّ ورحلتها الأدبيّة المتميّزة في عالم الأدب النّسويّ، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ دراسة واحدة أو اثنتين بين الحين والآخر في أروقة الجامعات للحصول على ألقاب علميّة، لا يساهم وحده في إبراز شخصيّة ميّ الأدبيّة المعروفة من خلال نصوصها هي، بعيداً عن محيطها الرّجوليّ الّذي جعل أدبها يتلاشى إلى الظّلّ في غالب الأحيان، لتبرز ميّ الصّديقة المثقّفة صاحبة صالون يوم الثّلاثاء، ولم يتمّ الاهتمام بفحواه، وما كان يدور فيه.
وإذا ذُكرت ميّ، ذكر معها هيام فلان وفلان من الأدباء بها. ونقرأ تحليلات وتحليلات عمّا إذا أحبّت أحدهم أو لم تحبّ. ومن أحبّت ميّ؟ وهل فعلاً أحبّت فلاناً أو فلاناً؟ وكأنّ شأن الأدب ورسالته البحث في علاقة الأدباء الغراميّة دون احترام لخصوصيّاتهم ودون البحث الجدّيّ والتّدقيق في ما يُكتب عنهم. لا تُذكر ميّ وحدها بأدبها وثقافتها وبلاغتها ونشاطها الأدبيّ، وكأنّي بها صورة من نسج الخيال مناسبة لصياغة القصص والحكايات وتحويلها إلى أساطير (دون فهم حقيقيّ لمعنى كلمة أسطورة)، فتحوّل ذكرى ميّ إلى مجرّد ذكر أديبة جميلة، وملهمة الأدباء، وما قالوه فيها من شعر ونثر وكلمات حبّ وغزل ورسائل وغراميّات.
وحين نلهث خلف البحث عن حقوق المرأة لا نعود إلى التّنوير الّذي أُخذت به مي ونشطت في إرسائه اجتماعيّاً وثقافيّاً خاصّة في مجتمع يقيّد المرأة ولا يقبلها كاتبة ومثقّفة. ميّ زيادة كاتبة دافعت مبكّراً عن حقوق المرأة برصانة واتّزان مشدّدة على تعليم المرأة وتثقيفها، وعن رقيّها بين أفراد مجتمعها، واحترامها لقدراتها لا لتتنافس مع الرّجل، بل لتحقّق ذاتها وتتعامل معه كندّ دون التّخلّي عن مسؤوليّاتها. فأين نحن من هذا التّأثير اليوم، ولماذا لم يؤثّر نشاط ميّ في تكوين وعي المرأة العربيّة؟ فنحن اليوم، نكاد نشعر أنّ الزّمن قد توقّف هناك، عند مي زيادة على الرّغم من مسيرة المرأة الحافلة بالإنجازات، إلّا أنّه يُخشى أنّها ما زالت مقيّدة أو بتعبير أصح خلقت قيوداً شخصيّة لها.
من السّهل أن نتّهم المجتمع الذّكوريّ بخنق أدب ميّ زيادة ككاتبة فريدة ومتميّزة، ومن السّهل الحديث عن ظلم المجتمع والعادات والتّقاليد، لكنّه من العسير الغوص في الأسباب الحقيقيّة الّتي أراها ظلمت أدب مي زيادة وأحالت دون تأثيره في الأدب العربيّ. من السّهل أن نتطرّق إلى حياة ميّ الخاصّة وإغراق القرّاء بالحالات الغراميّة الّتي أحاطت بها، لكنّ البحث عن مي زيادة الأديبة والغوص في شخصيّتها الأدبية من خلال نصوصها وكتبها وتحليلها تحليلاً عميقاً كاشفاً، لإظهار تميّزها الأدبيّ يحتاج إلى جدّ وجدّيّة وبحث يليق باسم ميّ زيادة.
“لا تلمس الحقّ البسيط الجليّ إلّا النّفس البصيرة الرّفيعة”. كذا تقول ميّ زيادة. والحقّ البسيط الجليّ هو البحث في أدب ميّ بدقّة وتأنٍّ. لقد عاشت ميّ فترة طويلة من حياتها وحيدة، وعانت وحيدة ما عانته من اتّهام بالجنون وماتت وحيدة على الرّغم من كلّ المعارف والأصدقاء. وأمّا اليوم فوجب إحياء أدب ميّ الوحيدة بمعنى التّفرّد والتّميّز والعبقريّة بأكثر من وسيلة وبطرق متعدّدة، دون حبسها في معتقل أدب عصرها. فكلّنا يعرف ميّ زيادة أديبة عصرها، وفراشة النّهضة وياسمينيّتها، ولكن لماذا يُحجب أدب ميّ زيادة بهذه الطّريقة غير المبرّرة؟