ترتفع أصوات المثقفين من حين لآخر متحسرة على اندثار لون من ألوان الأدب كالتوقيعات أو أدب الرسائل، ويتساءلون كيف نعيده للواجهة الثقافية؟ في الوقت الذي نرى ألوانا جديدة تطل علينا كل آن، وألوانا أخرى كانت معروفة منذ القدم أعيد تشكيلها لتتواءم مع العصر الحالي وأعطيت مسميات جديدة كالشذرات والومضات..
ولا أدري أية حال ستؤول إليها ساحتنا الثقافية والأدبية لو لم تختفِ الألوان القديمة وانضمت إليها الألوان المستحدثة، وكيف ستتسع الساحة لكل الألوان؟! أليس من الرأفة بنا وبأدبنا أن تختفي بعض الفنون لتجد الفنون المستحدثة مكانها في ساحاتنا؟!
إن المتتبع لمسيرة أشكال الأدب منذ العصر الجاهلي يجد أنها تنقسم إلى قسمين رئيسين هما: الشعر والنثر. ولم يكن العرب في حاجة لأكثر من هذين الشكلين لتلبية حاجاتهم الوظيفية، فالشعر كان لتعداد مفاخر القبيلة وإثارة حماسة فرسانها ومدح رجالات القبائل ورثائهم، مع شيء من الشعر الوجداني يخصون به محبوباتهم. ولم يكن النثر بعيدا في أغراضه عن أغراض الشعر.
ومع تطور الحياة ودخول المدنية منذ انتقلت عاصمة الخلافة إلى دمشق ثم بغداد، وما تبع ذلك من تطور نظام الدولة وتعدد دواوينها، واتخاذ الخلفاء والأمراء والوجهاء مجالس ومنتديات ظهرت ألوان من الأدب لم تكن معروفة من قبل، وكان جلها – إن لم يكن كلها – لحاجات وظيفية، فظهرت في ديوان الخلافة الرسائل السلطانية والتوقيعات، وسادت في مجالس الخلفاء والأمراء والوجهاء المسامرات والمناظرات، وتفشَّت في المساجد حلقات الوعظ، وانتشر في الأسواق الحكاؤون وقصاصو السير. ومع الترف الكتابي في العصر العباسي ظهرت المقامات.
وظل الأمر على هذه الحال حتى أطل علينا العصر الحديث وسهَّلت مستجداته سبل الالتقاء بالغرب والاطلاع على آدابهم، فرأينا بعض ألوانهم كامنة في تراثنا لكن بصيغة مغايرة فكتبنا القصة بدلا من المقامة، والخاطرة بدلا من التوقيع؛ مع اختلاف الغرض الوظيفي، ونقل لنا طائفة من متنوري العصر ما لدى الغرب من أدب عن طريق الترجمة فإذا بنا نكتب الرواية ونكتب النثيرة كما كتبوها.
وبدأت حركات التحرر من الاستعمار فظهرت الخطب الدينية والسياسية، وانتشرت المنتديات و الصوالين الأدبية فتبارى الشعراء بقصائدهم، وسيطر الحوار على مجالس الأدباء والنقاد فظهرت المناظرات، وسهل التواصل بين الناس فانتشرت المراسلات؛ ومن ضمنها الرسائل الأدبية بين الأدباء. وهكذا تعددت أشكال الكتابة بتعدد الدوافع إليها.
ومع مطلع الألفية الثالثة ظهرت علينا وسائل التواصل الحديثة والسريعة بألوان من الأدب لا عهد لجيل أبنائنا بها مثل التغريدات التي فرضها (تويتر)، وانتشرت عدواها لتجعل بعض المتأدبين يظهر علينا بكتابات لا تبتعد كثيرا عن التغريدات التويترية، لكن لم يقتصر نشرها على فضاء الطائر الأزرق؛ بل امتدت إلى بطون الكتب ومنابر المنتديات والصفحات الثقافية؛ زاعمين أننا في عصر السرعة وأن لا أحد لديه الوقت لكتابة المطولات أو قراءتها، وما علموا أن المشكلة ليست في الطول والقصر بقدر ماهي في اللغة والمحتوى!
ومن الطبعي مادام التسلسل الزمني للكتابة كما وصفت أن تختفي بعض الألوان التي لم تعد مسايرة للعصر كالرسائل كما اختفت من قبل التوقيعات والمقامات.
يبقى السؤال الأهم وهو ألا نحتاج إلى مسميات نتفق عليها للألوان الأدبية الحديثة؟ وإلى تعريفات مانعة جامعة تحدد أطرها حتى نميز الغث من السمين، والأدب من غير الأدب؟!
( الفرقد )