مادونا عسكر/ لبنان
– النّصّ:
لي في هشاشتي وطنٌ ..
وعلى هامش روحي
نزفُ قصيدة ..
ورائحة لغةٍ عابرة..
أصابعي منفى ..!!
فكيف أردُّ الرّيح
عن عتبات قلبي ..؟
يا الّتي تنهض السّماءُ من أوراقها ..
كفرصةٍ أخيرةٍ في الضّوء ..
أنا رصيفُ أنثى الغيب
الطّالعة من حنايا جوعي ..
أتعثّر بأوراق ظلٍّ
يخلع نعليه .. ويمضي ..!!
القراءة:
حين يصوغ الشّاعر قصيدته يحيا حالة من الازدواجية تترجم انفصاله عن الواقع والتصاقه به في آن. وفي انفصاله عن الواقع حالة تنشد جماليّة الشّعر من ناحية انبعاثه من الأعماق. وفي التصاقه بالواقع تجتمع عناصر اللّغة لتبيّن الألم المتجذّر في قلب الشّاعر. الألم الّذي يصنع القصيدة، أو الألم الّذي يخطّها فيُخرج الشّاعر من دائرة الواقع إلى دائرة الوعي الشّعريّ؛ لكي يتمكّن من معاينة ذاته الإنسانيّة وذاته الشّعريّة. كما هي الحال في قصيدة الشّاعر كريم عبيد، حيث تجتمع الدّلالات اللّفظية والرّموز لتشكّل فضاء القصيدة الّتي يتوق إليها الشّاعر. ولئن تحدّث عن (نزف قصيدة)، فكّأنّي به يعبّر عن نزف داخليّ أنهك قواه بل عن استسلام ورؤية تشاؤميّة دلّت عليها عبارات مرهقة في القسم الأوّل من القصيدة (هشاشتي/ هامش روحي/ نزف قصيدة/ لغة عابرة) الشّاعر المنهك مستسلم لقوى خارجة عنه، يتطلّع إلى الواقع بضعف من لا يقوى إلّا على التّرقّب، من جهة (كيف أردّ الرّيح عن عتبات قلبي؟)، ومن جهة أخرى، يلتمس بخجل خلاصّاً يأتي من الغيب (يا الّتي تنهض السّماءُ من أوراقها../ كفرصةٍ أخيرةٍ في الضّوء..)
تظهر في القسم الأوّل من القصيدة روح الانهزام، وفقد عناصر المقاومة للواقع، ونوع من الغربة والتّيه عن الانتماء (لي في هشاشتي وطن). الشّاعر متقوقع داخل هشاشته متّخذاً إيّاها وطناً، ما يدلّ على انغماسه في الضّعف والتئامه بالوجع النّازف. أشارت إليه السّطور الّتي خلت من أيّ فعل إلّا واحد (أردّ)، ذهب بالشّاعر إلى أقصى الاستسلام (أصابعي منفى..!!/ فكيف أردُّ الرّيح/ عن عتبات قلبي ..؟) كما أنّ القسم الأوّل بدا كسماء ملبّدة، نقلت إلى القارئ ثقل المشهد وقتامته. ولعلّ هذا المشهد يشكّل حاجزاً بين الشّاعر والقارئ فتتسرّب إلى الأعماق نفحات الحزن. وبدل أن يسبر القارئ أغوار الجمال، يدخل مع الشّاعر دائرة الحزن والأسى ويتعاطف معه دون أن يرتقي إلى عوالم الشّعر. والتّعاطف مع حزن الشّاعر لا يدلّ بالضّرورة على جماليّات القصيدة. وإنّما التّعاطف لحظة يستيقظ فيها الحزن الكامن في قلب القارئ. وما يلبث أن يتلاشى كرائحة اللّغة العابرة في القصيدة النّازفة:
وعلى هامش روحي
نزفُ قصيدة ..
ورائحة لغةٍ عابرة..
لقد استخدم الشّاعر صيغة النّكرة في الحديث عن (نزف قصيدة) (ورائحة لغة عابرة) ما دلّ على إمعانه في الضّعف الدّاخليّ دون أيّة مقاومة أو محاولة لتحدّي الواقع. وسيكشف لنا القسم الثّاني من القصيدة هيكليّة الوهن الّذي يعيشه الشّاعر، وهو يترقّب دون أيّ فعل شيئاً من الخلاص:
يا الّتي تنهض السّماءُ من أوراقها ..
كفرصةٍ أخيرةٍ في الضّوء ..
أنا رصيفُ أنثى الغيب
الطّالعة من حنايا جوعي ..
(أنا رصيف) انتظار مستمرّ لخلاص غامض أو بعيد أو مستحيل (أنثى الغيب). ولئن استخدم الشّاعر لفظ (الأنثى) ابتعد بعض الشّيء عن معنى الخلاص الحقيقيّ، لأنّه تحدّد بالأنثى لا بالمرأة، وبالغيب أي المجهول. لذلك يسقط من القصيدة معنى الخلاص والنّجاة من التّقوقع الدّاخليّ، فالشّاعر ملتصق بواقعه أكثر من انفصاله عنه. فلو أنّه انفصل عنه لتبيّن في القصيدة خروج عن المألوف أو ارتقاء نحو الحزن المدهش، الّذي يمنح القارئ جمالاً شعريّاً خاصّاً يؤسّس لزرع القصيدة في النّفس. لكنّ الشّاعر أنهكه الحزن وأضعفه فتعثّر دون الانفتاح على الأنوار الشّعريّة، فهزمته قصيدته.
أتعثّر بأوراق ظلٍّ
يخلع نعليه.. ويمضي..!!