لما بكى ابن الرومي / بقلم: ابراهيم مشارة

 شاعر فذ من شعراء العصر العباسي لم ينل حقه من الإعجاب والتقدير حتى العصر الحديث حين قيضت له الأقدار عباس محمود العقاد فكتب عنه كتابه المشهور” ابن الرومي حياته من شعره” واقفا على أسرار حياته، غائصا في أدق دقائق سريرته متحمسا لشعره، كاشفا عن مكامن الفن فيه وآيات ،التفرد وللعقاد على ابن الرومي دالة بعد أن أنصفه كما أنصف غيره من الذين اعتقد أن الإجحاف والنكران لحقا بهم .

وإذا كان ابن الرومي غريب الأطوار وأخص خصيصة فيه تشاؤمه وتطيره  بالناس إلى الحد الذي كان يلازم فيه بيته أياما إذا تطير بشخص، كما عرف عنه الشره، ولئن كان في حياته قد عانى من إهمال نقاد الشعر له وعدم احتفاء البلاط به فقد آذته هذه المعاملة الماكرة في نفسه وهو الذي كان يقدر مواهبه وعبقريته الشعرية التي بذت العرب في أخص خصيصة فيهم وهي عبقرية البيان لا جرم أنه شعر بالضيم واجتر المرارة ونزف الجرح في أعماقه غير مندمل فانقلب لسانه سوطا يسوم به خصومه سوء المقال تشفيا منهم ومن الزمن الذي غمطه حقه وبخسه ثوابه أوليس هو القائل:

نحن  أحياء على الأرض وقد

خـــسف بنـــا الدهر ثم خسف

أصبـــح الســـــافل منا عــاليا

وهوى أهــل المعالي والشرف

يســـــفل النـــاس ويعلو معشر

قارفوا الإقراف من كل طرف

ولعمري لو تأملناهم مــاعلوا

ولـــكن  طـــفوا  مــثل الجيف

والكاريكاتوري يبلسم به جراحه ويفكه به خاطره بعد أن يتردى خصمه في دركات النقص والجهالة والبلادة ومن أمثلة ذلك قصيدته المشهورة في هجاء شخص يدعى عمرو من  مخلع  البسيط التي منها هذا البيت:

وجهك يا عمرو فيه طول

وفي وجوه الكلاب طول

وسخريته من صاحب لحية طويلة ربما آذى شاعرنا فتهكم منه في مثل قوله:

عـلق الله في عذاريك مخـلا

ة  ولكنها بــغير شــعــــــــير !

غير أن ابن الرومي كان شاعرا حقا فإذا نفر منه الخلفاء والأمراء وأفردته العامة إفراد  البعير الأجرب عاد ذلك على الأدب بالخير العميم ، فقد تنزه شعره عن أن يكون شعر المناسبات وقصائد المديح الرنانة الفارغة المضمون، وهو في وصفه لقالي الزلابية ووصفه لقرص الشمس وقت الأصيل وللأحدب أشعر منه من كبار الشعراء الذين وقفوا مواقف مخزية فرفعوا ممدوحيهم إلى مصاف الآلهة ووقعوا في مبالغات كاذبة واهية لا تمت إلى روح الفن بصلة طمعا في عرض ينالونه ولو أدى ذلك إلى الكذب و البهتان .

بل ترى في شعره فلتات إنسانية ونفسا مرهفة الحس ووجدانا متعاطفا مع مظاهر النقص في بني البشر كقصيدته في وصف ” الحمال الأعمى ” ذلك الذي مر به فقهاء ورجال دولة وشعراء وأعيان وعامة  فلم يلتفت إليه أحد ولا أحس بمعاناته فرد إلا الشاعر الذي قال فيه :

رأيـت حمالا مـبين العمى

يـعثر بالأكم و في الوهد

مــــحتملا ثقلا على رأسه

تــــضعف عنه قوة الجلد

بـــين جمالات و أشباهـها

من بشر ناموا عن المجد

والبائس المسكين مـستسلم

أذل للــمكروه مــــن عبد

فالشعر عنده كما ترى للحياة والشاعر هو قلبها لا يراعي إلا الصدق مع نفسه وفي فنه مطرحا عنه التقليد نابذا التكلف واجدا الشعر في قرص الشمس وفي حجر يسقط في بركة ماء وفي وصف مائدة  دسمة وفي هجاء إنساني يخفف به الشاعر  من غلواء الزمن وتباريح الحياة.

وقد مات للشاعر ولده الأوسط وكان صغير السن فرثاه رثاء إنسانيا حارا تحس فيه بشهقة الروح وسخونة الدمع والعجز أمام جبروت الموت فكان في رثائه كما كان في سائر شعره مبدعا ، أصيل العبقرية مكين الأدوات الفنية .

والعجيب أن الشاعر اختار للقصيدة التي رثى بها ولده وهي من الطويل وقافيتها من المتواتر حرف  “الدال” وهو اختيار اتفق عليه كثير من الشعراء الذين رثوا أحبابهم منذ الأدب الجاهلي إلى الأدب الحديث فإحدى قصائد الخنساء الشهيرة في رثاء أخيها صخر دالية :

أعيني جــــودا و لا تـــــجـمدا

ألا تبــكيان لصخر الندى ؟ !

وقصيدة حسان بن ثابت الأنصاري في رثاء النبي – عليه السلام – دالية كذلك :

بطـــيبة رسـم للـرسول ومعهد

منـير وقد تعفو الرسوم وتهمد

أما قصيدة المعري المشهورة في رثاء صديقه “أبي حمزة الفقيه ” والتي هي في مضمونها رثاء للإنسانية جمعاء دالية أيضا:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نــوح بــاك ولا تــرنم شــاد

ومن الأدب الحديث قصيدة الشاعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته وهي كذلك دالية :

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يـدي

تقوى على رد الحبيب الغادي

وفقيد شاعرنا هو ولده ” محمد” وقد صرح باسمه في قوله:

مـــحمد ما شيء تـــوهم ســلوة

لــقلبي إلا زاد قلبي من الوجد

وهو أوسط صبيته لقوله كذلك :

توخى حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد !

وهو إن كان الأوسط فهو صغير وما أشد براعة الشاعر في الإشارة إلى ذلك بقوله :

لـقد قــل بين المهد واللحد مكثـــــــه

فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد

ولقد مات الولد بنزيف حاد أبدله صفرة بعد حمرة الورد ونحولا وضعف قوى نتيجة لفقد الدماء:

ألح عليه النزف حتى أحـــــــــــــاله

إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط نفســـــــــه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

ونحتاج إلى طبيب أديب متذوق للشعر ليشخص لنا مرض الولد الذي أودى به، فقد اهتم في العصر الحديث فريق من الباحثين من ذوي الاختصاص وهواية الأدب

والتاريخ بدراسة أفذاذ من الماضي بل تشخيص أدوائهم التي أسلمتهم إلى الموت فنابليون بونابرت شخص دواؤه على أنه سرطان المعدة وابن سينا سرطان القولون بل وقرأنا لطبيب أديب يشخص الحمى التي ذكرها المتنبي في قصيدته المشهورة والتي كان من أعراضها أنها لا تنتابه إلا ليلا وتصيبه بقشعريرة لا تدفعها عنه المطارف والحشايا :

وزائـــرتي كـــــأن بها حياء

فليس تزور إلا في الظــــلام

بذلت لها المطارف والحشايا

فعافتها وباتت في عظامــــي

يضيق الجـــــلد عني وعنها

فتوسعه بأنواع السقــــــــــام

وقد أصيب امرؤ القيس بمرض جنسي خطير لعله ” الزهري” نتيجة شبقيته وعلاقاته الجنسية المتعددة حتى سمي بذي القروح لقوله :

وبدلت قرحا دامــيا بعد صحة

فيــا لك نعمى قد تحول أبؤسا !

و أنت إذا قرأت قصيدة ابن الرومي هذه في رثاء ولده تقع على وصف جاء بتمامه في وصف امرئ القيس لعلته على الرغم من تباين الداء والأعراض والعمر:

فلو أنــــها نفس تموت سويـــــة

ولــــكنها نفس تساقط أنفســــــا

ويقول ابن الرومي في ولده :

فيا لك من نفس تساقط أنفســـا

تســــاقط در من نظام بلا عقد

وأما داء الولد الذي أودى به فلا ترى فيه أثرا لذكر الحمى ولو اصطلحت على بدن الطفل ما أغفل الشاعر ذكرها وعهدنا بالصغار يقعون فرائس لها ولا إشارة لأي إسهال مميت وما أصيب الولد به أصلا ، وما كان شاعر وصاف مستقص لدقائق الأشياء أن يغفل أشياء خطيرة كهذه لو انتابت ولده، إنما هو استمرار النزف والنحول  وانحطاط القوى الذي أسلم الولد الرطب العود إلى يد المنون .

وما من إنسان قرأ هذه القصيدة إلا وتعاطف مع مصاب شاعرنا تعاطفا وجدانيا يمحو أثر الزمن الذي قيلت فيه وكأن الولد مات لساعته والشاعر حديث عهد بإبداع هذه القصيدة المؤثرة ، وترى كذلك الوالد حزينا ولكنه الحزن الهادئ ، والنفس الراضية بالقدر لأنه لا مرد لقضاء الله وهو الحزن الممض كذلك والجزع الدائم ولكن بغير عربدة  وجموح وما أبدع وصف الشاعر لهول المصاب بمثل قوله :

وما سرني أني بعته بثوابـــه

ولو أنه التخليد في جنة الخلد

وفي القصيدة بيت ذائع جرى مجرى الحكم وهو قوله :

وأولادنا مثل الجوارح أيــها

فقدناه كان الفاجع البين الفقد

ثم يستدل الشاعر على ذلك بتشبيه الأولاد بالحواس وأن حاسة لا تغني عن حاسة

وكأنه يرد ضمنيا على الذين عزوه في ولده وذكروه أن في ولديه الباقيين سلوى

وعزاء له إلا أن الشاعر في تشبيهه الأولاد بالحواس يصر على أن لكل مكانه

وموقعه :

لــكل مكـــان لا يســــد اختلالــــــــه

مكـــــان أخيه من جـزوع ولا جـــلد

هـل العين بعد السمع تكفي مكانـــــه

أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي؟

وهناك ظاهرة ملفتة للنظر في شعر الشاعر إضافة إلى دقة التصوير وتلك هي ملكة النفاذ إلى باطن المعنى والظفر بمكنونه فتراه يخرجه لنا وقد استوفى الدقائق فلا نطلب مزيدا وهي تشبه ما نعرفه في النثر تحت اسم ” جوامع الكلم” ،، ويجوز لنا أن نسميها ملكة الإيجاز أو جوامع النظم قياسا على جوامع الكلم  فهو بعدد محدود من الكلمات أو من الأبيات يقف على مضمون المعنى الذي يريد التعبير عنه ويترك الكلمات توحي

ودلالة تسـتـنسل من دلالة دون أن يكلف نفسه عناء التطويل واقرأ  قوله في القصيد ة ذاتها :

 

 

على حين شمت الخير من لمحاته

وآنست من أفعاله آية الرشــــــد

طواه الردى عني فأمسى مزاره

بعيدا على قرب قريبا على بعد

وهو أبدع وصف للقبر ، أو كما يقول البلاغيون كناية عن موصوف فصاحبه قريب بجسده الذي فارقته الحياة بعيد بالروح  التي عرجت إلى العالم الآخر ، ولا تقرأ البيت الذي قبله إلا أوحى إليك بما كان الشاعر يأمله من الولد وما كان يتوسم فيه من خير ومن مستقبل زاهر ولعله توسم فيه أن يكون خليفته في الشاعرية لولا خطفة الموت العاجلة ولم يشأ الشاعر أن يثقل قصيدته هذه بالتطرق إلى قضية المصير وجدوى الحياة ومعنى الوجود ولغز الموت كما فعل المعري  في قصيدته المشهورة في رثاء صديقه أبي حمزة الفقيه وقد أتينا بمطلعها لما كنا بصدد الحديث عن  اشتراك كثير من قصائد الرثاء في روي واحد هو حرف ” الدال” إنما حزن ابن الرومي حزن ذاتي نقي لا تخالطه شائبة الفلسفة ولا عكر الفكر هو أشبه بالحزن الطفولي في غضاضته  وفي إبهامه وغموضه وأصالته التي هي سره فهو إذا البكاء المتجدد والحسرة الباقية  ولو أن الزمن سوف يجعل الأحزان أثرا بعد عين :

سأسقيك ماء العينين ما أسعدت بــه

وإن كانت السقيا من العين لا تجدي

والشاعر تراه عدل عن كلمة ” أسعفت به” إلى أسعدت به عن قصد حتى تكون المسرة بالبكاء عنوان ذكرى دائمة ووفاء مستديم ، وعهدنا بالشعراء شرقا وغربا يستجدون العبرات لأن البكاء آية وفاء وتجدد ذكرى ولا ينسى الوالد المفجوع أن ينعى على  الزمن جبروته وإعصاره الذي يذرو اللحظات السعيدة هباء فتغدو كسراب مستقبل ومستدبر ألم يقل امرؤ القيس كذلك :

 

 

كـــــأني لم أركب جـــــــــــوادا للذة

ولـــم أتبطن كـــاعبا ذات خـــلخال

ولم أ سبأ الزق الروي مـــــــــــــرة

ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال

وأما شاعرنا فيقول عن تلك الحسرة:

كأني ما استمتعت منك بضمة

ولا شمة في ملعب لك أو مهد

وأما أبلغ الأبيات تأثيرا في وجدان القارئ فهي تلك الأبيات التي يتحدث الشاعر فيها عن حسرته إذا رأى ولديه المتبقيين يلعبان لأنهما يذكرانه بمحمد واسطة العقد كما وصفه وقد ذهب فأورث ولده غصة متجددة وكمدا دائما:

أرى أخويك الباقيين كليهمـــــــــا

يكونان لأحزان أورى من الزند

إذا لعبا في ملعب لك لذعـــــــــــا

فؤادي بمثل النار عن غير قصد

فما فيهما سلوة بل حـــــــــــرارة

يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

وفي قوله ” عن غير قصد ” يكشف الشاعر لمترصديه أحد أسرار عبقريته وهي استقصاء أدق الأشياء مع الاقتصاد في الكلمات حتى يسلم شعره من الحشو وآفة التكرار،فالولدان يلعبان وبمرحهما يثيران الشجن لوالدهما ولا قصد لهما أن يؤذياه أبدا

وبعد أن قال القدر كلمته وسل الموت سيفه مغمدا إياه في قلب الولد مسلما إياه إلى وحشة القبر ، لم يبق للوالد الذي لا حول ولا قوة  له إلا تحمل شدائد الكمد وأهوال الجزع متعزيا بولديه المتبقيين وهما أيضا منبع حزن ومصدر جزع لأنهما يذكرانه بالفقيد العزيز. فلا كلمة أجدى إلا الدعاء له بالرحمة واحتسابه عند الله والصبر طريق إلى الجنة :

وأنت و إن أفردت في دار وحشـــــــــة

فإني في دار الإنس في وحشة الفــــرد

عـــليك ســــلام الله مــني تــحـــــــــــية

ومن كــــل غيث صادق البرق والرعد

وبعد :

فلقد عهدنا ابن الرومي شاعرا محبا للحياة ، شغوفا بلذاتها متمسكا بأطايبها وهو لم ينس الثمار حتى وهو يصف النساء في مثل قوله :

أجنت لي الوجد أغصان وكثبان

فيهن نوعان تفاح ورمـــــــــــان

وبين ذينك أعناب مهدلـــــــــــة

سود لهن من الظلماء ألــــــوان

كماعهدناه ساخرا مبتكرا لفن الهجاء الكاريكاتوري ، فالدنيا التي تطاولت على عبقرية الشاعر ولم توفه حقه من الإكبار والتقدير شأنه شأن غيره من الشعراء الذين كانوا دونه عبقرية وملكة شعرية، فهذه الدنيا لا تستحق غير السخرية والقهقهة منها ومن قيمها وأعيانها ومراتبها.

وها نحن في هذه القصيدة نعهد ابن الرومي شاعرا باكيا من الطراز الأول، وصف حسرته أدق وصف بلا صخب أو ضوضاء كما فعلت الخنساء في رثاء صخر ، ولم  يشأ أن يضمن قصيدته فلسفة ولا تأملات في الحياة والموت كما شاء- رهين المحبسين- أبو العلاء المعري، فجاءت قصيدته نضاحة بالدلالات الحزينة فضاحة للكمد المعشش في قرارة نفسه كأنه لبد !

ولئن رحل محمد ولم ينعم بالحياة كأخويه اللذين لا نعرف حتى اسميهما فقد عاش قرونا وسوف يعيش أخرى في قصيدة أبيه وحسبه أن يحيا حياة أدبية في ديوانه لا يناله كبر ولا يقوى عليه مرض ولا يمحو ذكره من الوجود زمن !

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!