بدايةً من واجهةِ الغلاف المعنون (لِرُوحِكَ أُلَمْلُمُ حُرُوفِي)(1) نكتشفُ أن الشاعرة سُهَى حدّادِين تستهدف القاريء بمستوى عال من التشويق والدهشة والجاذبية سواء على صعيد المفردة اللغوية التي ترسمها بكل رقة ورصانة وعذوبة، أو الفكرة والمضمون الإنساني الذي تنحاز إليه نصوصها الشعرية الرقيقة. فمصافحة القاريء بمثل هذا العنوان المتأسس على خطاب مفتوح لا يحدد إنساناً معيناً، أو مكاناً جغرافياً خاصاً، أو زمناً بعينه يبعثُ إحساساً في القاريء بأنه المقصود مباشرة بنبض وبوح الشاعرة، وبالتالي فهو سيظل يتمثل ويتجسد حسيّاً في كل تلك الصور البلاغية والايقاعات الشجية التي تعزفها شاعرتنا الواعدة بقصائدها المتراقصة.
ولا شك بأن إصدار الديوان الأول يكتسي غالباً أهمية تأريخية خاصة ومهمة بالنسبة للشاعرة، كما هو بالنسبة لمدونة الشعر الوطنية. فالشاعرة ستستمر في اعتبار أن بصمتها الأولى في عوالم الشعر قد سجلتها بإطلاق هذا الديوان الأول، والذي سيتواصل معها مستقبلاً ليكون أرضية أساسية للنقاد عند دراسة ورصد تطور نصها الشعري ومتابعته ومقارنته بما تصدره لاحقاً من نصوص أو دواوين. أما مدونة الشعر الوطنية فهي بلا شك ستزهو وتحتفي بها وتعترف من خلال هذا الديوان الأول بولادة شاعرة جديدة تنضم إليها لتضيف إسهاماتها الإبداعية في رحابها، وهذا يعزز بالتأكيد دور الشعر بشكل صريح ومعلن في سيادته للعلاقة بين الوجدان وأوجه الحياة كافة، باعتباره مؤشراً على المستوى الثقافي لأي مجتمع أو شعب أو أمة.
وإنْ صدر الديوان الأول للشاعرة سُهى حدادين بلا توطئة أو مقدمة فقد اشتمل وصفاً قصيراً بارعاً لنصوصها في القصيدة التي اختارتها عتبةً وعنواناً للديوان بأكمله (لِرُوحِكَ أُلمْلِمُ حُروفِي) تقول فيها:
(ديوانُ قصَائدِي
أعمقُ من نصًّ
ليسَ لَهُ
قَافيةٌ
وَهُناك حُقولُ
الزنبقِ والياسَمِين
والحبق،
تنتظرُني)(2)
ويحمل هذا الوصف العام للديوان وقصائده صدقية كبيرة تؤكدها بعض ما احتوته نصوصه التي جاءت زاخرة بالياسمين والزنبق والحبق، إضافة إلى الوطن والشوق والموسيقى والرفقة، والهمس والقبلات والإنتشاء والوله والعشق، وفيروز، والنبيذ، وأيلول وتشرين، والمحبة والوفاء والسلام والنشوة، مما يعكس المشاعر الجيّاشة والمخيلة الخصبة، ويوحي بالروح الحالمة لدى الشاعرة، ونفسَها الطموحة المبتهجة والتواقة لغدٍ أفضل، ومستقبلٍ أجمل تزهرُ فيه ورود الأمنيات والحكايات العِذَاب التي تبثها الشاعرة في وجدان قارئها باعتباره قيمة إنسانية نبيلة، وتناجي بها وطنها باعتباره حضناً اجتماعياً يعبق بالدفء والأمان والطمأنينة والسلام.
وإجمالاً يمكن القول بأن موضوعات نصوص الشاعرة سُهى حدّادين لم تختلف عن مثيلاتها العربيات منذ ظهور شعر المرأة على يد العراقية “نازك الملائكة” في خمسينيات القرن المنصرم، ذلك لأن جلَّ التجاربِ الشعرية النسائية في الوطن العربي متشابهة نسبياً بشكل كبير، وتحمل العديد من القواسم المشتركة سواء على مستوى المضامين والموضوعات والقضايا والهموم والانشغالات التي تتناولها في نصوصها الشعرية، أو التقنيات والأساليب التي اختارتها الشاعرات العربيات لصياغة نصوصهن، وهي في شكل قصيدة النثر والشعر العمودي أو الحر غالباً، والتي وإن تنوعت فهي لم تذهب فيها بعيداً عن تسجيل الشأن الشخصي، وبث الأحاسيس والمشاعر المتفاعلة في النفس الأنثوية المرهفة، وهو ما يعزز الامتداد الأفقي والتواصل بين أطياف الشعر في الوطن العربي كافة.
ولكن رغم ذلك فإنه بالإمكان رصد بعض الخصائص المميزة في نصوص شاعرتنا سُهى حدّادين لعل أهمها المفهوم الشمولي الواسع للوطن الذي جعلته يتداخل بين الوطن الجغرافي المادي حين خصصته لمدينتها عمان وبلدها الأول الأردن، ويمتد ليشمل مدينة القدس وفلسطين نتيجة الارتباط التاريخي بين المكانين، والوطن الإنساني الوجداني الذي هو الحضن العاطفي الذي تنشده وتحلم به وتصبو إلى استيطانه بكل الدفء المفعم بالأحاسيس النبيلة الخالدة. وحتى وإن كان مفهوم الوطن والتغني به والحنين إليه في النص الشعري العربي يرجع إلى عهود قديمة منذ أن سجلتها قصائد الشعر الجاهلي وما بعده، إلا أن التطور المادي للأوطان وأساليب التعبير المتجددة قد أسهم في ظهور الكثير من الجماليات الحسية والمادية والصيغ والمفردات التعبيرية المواكبة لهذا التطور الزمني.
وفي هذا السياق فقد حظي الوطن الجغرافي لدى الشاعرة سهى حدادين بسبق الظهور في نصوص الديوان بشكل مباشر حين تغنّت شاعرتنا بالأردن الحبيب قائلة في قصيدتها (سرب حمام):
(أردنُّ العزِّ والسّوْددِ أنتْ
الفخرُ والمجدُ والعلياءُ وأكثرْ
هناك في الأعَالي
أراكَ شَامِخاً
تُعانِقُ النجومَ وأبعد.)(3)
ثم اتسعت رؤيتها الحسيّة والفكرية للوطن الكبير وتمددت مادياً باتجاه أفقي عبر ذلك الفضاء الجغرافي الشاسع الذي توحّد فيه الأردن والتحم مع فلسطين الحبيبة داخل (شمس ماعين):
(من هنا أرى أضواءَها في المساء،
مثل رعشاتِ قلبٍ
أسمعُ همسَها تناديني،
تلك فلسطينُ هناك
وما غابتْ
عن مُهجتي وعُيوني.)(4)
ولم تتوقف شاعرتنا عند فلسطين كمكان جغرافي عربي له دلالاته التاريخية وخصوصيته الدينية وأهميته القومية فحسب، بل صدّرت مدينة “القدس” الفلسطينية عنوان نصها (بواباتُ القدس) واستنقطت صوراً عديدة في ربوعها تعكس التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين من خلال تجاور “المساجد” و”الكنائس” في شوارعها العتيقة، وأسكنت متن النص مدينة “دمشق” السورية، وإقليم الشام كله، والعراق، ومصر، واليمن، وهو ما يؤكد الروح العربية القومية المتأصلة في الذات الشاعرة عند سُهى حدّادين المؤمنة بوحدة الأرض والمصير والهدف المشترك من خلال الصورة الشعرية الجميلة التي طرّزتها بشقائق النعمان الأردنية، وزهرات الياسمين الدمشقية السورية، والجماليات المطلقة للقدس العربية الفلسطينية وهي تترنم بأرق الألحان وأعذبها معبأة بالأمل المشرق في المستقبل العربي:
(القدسُ بوصلتنا التي لا تحيد
أسوارها، أبوابُها السبعة،
مساجدُها وكنائُسها،
شوارعها العتيقة
بيوتها وقبابها
زيتونها وسماؤها
تقاوم، وعينها لا تفارق
أردنها العزم شرقاً
شامها وعراقها
مصرها واليمن.
القدسُ تطيّر الحمام من أبراجها
فيسافرُ حيث يشاءُ ثم يعود.
هي القدسُ بوصلتُنا،
على شُرفاتِها ينهمرُ ياسمينُ دِمشقْ
ودحنون الأردن
ويُغني لأيامٍ قادمة
حيثُ القدسُ هي الأجملْ)(5)
وبعد أن حلّقت شاعرتنا بروحها الوحدوية العربية واخترقت حدود المدن والبلدان عادت للغوص داخلياً في قرى وبلدات وطنها الأردن الحبيب لتوطن (ماعين) و(كيرحارسة) و(الكرك) في نصها الشعري، وهي أمكنة تحظى بحضور باذخ في الذات الشاعرة ترافقت معها خلال مسيرة حياتها الشخصية، وصاغت فيها مشاوير العمر بكل أطيافه، ولازالت تعبق منها روائح الذكريات الماضوية طازجة عند استحضارها وبعثها في النص الشعري وإطلاقها داخل فضاء الوطن الكبير، برابطة متينة تؤكد التلاحم الذاتي في أعماق الشاعرة سُهى حدّادين، وكل هذا يمثل سطوة الأمكنة على الإنسان واستمرار تدفق تأثير صورها المتداعية وانعكاساتها عليه:
(صباحاً تشرقُ شمسُ “ماعين”
تحملُني إلى مُنحدراتِ الغروب
أحملُ حزمةَ قمحٍ
وأمضي،
إلى وطنٍ يعانقُ وعداً
أفقاً
وفيضاً
من أمنيات)(6)
ولا تقتصر شاعرتنا على قرية (ماعين) كمعلم أو موقع معين فحسب بل تمضي إلى مكان آخر غيره بالأردن الحبيب لتستعرض وتبيّن لنا أسباب عشقها له بعد أن عنونت النص (كيرحارسة) باسم قرية أردنية صغيرة، وظلت تقرعنا بلازمة متكررة لعدة مرات (أعشقُها، لأنّها الكرك) للتأكيد على إحساسها العميق تجاه ذاك المكان، الذي من الواضح أنه يحتل حضوراً وخصوصية معينة في عقلها وقلبها:
(أعشقُها،
لأنَّها المجدُ والتاريخ،
تحملُ على أكتافِها أحلامَ شعبٍ بأكملِه،
روحِ الناسِ الواحدة
أعشقُها،
لأنَّها الكَـرك)(7)
أما الوطن بمفهومه الإنساني الوجداني العميق والواسع فقد ظهر لاحقاً متصدراً عنوان نصها (عيناكَ وطن) الذي اختارت فيه بشكل مجازي عينا حبيبها لبداية التغزل والبوح بأسلوب حداثوي رسماً ونغماً وفكراً، حين جعلت للوطن الإنساني دستوراً ونشيداً وجيشاً، كما صنعته خيالاتها ولازالت تبحث عنه في عالمها الشعري:
(مازلتُ أبحثُ عن وطن صغير،
دستُوره الحبُّ،
ونشيدُه الياسمّين،
نــ
هــــ
ــــــره
حضورُك الأنيق،
وجيشُه عيناك)(8)
ويمكن القول أن شاعرتنا سُهى حدّادين قد تأثرت في هذا النص بالشاعر العربي الكبير نزار قباني واستوحت منه هنا نفس المعنى الذي صاغه في قصيدته (متى يلعنون وفاة العرب) التي يقول فيها:
(أحاولُ رسمَ بلادٍ…
لها برلمانٌ من الياسمين
وشعبٌ رقيقٌ من الياسمين
تنامُ حمائِمُها فوق رأسي
وتبكي مآذنُها في عُيوني)(9)
أما في نصها (سنبلة) فقد أعلنت منذ السطر الأول بكل الغبطة والانتشاء حد الثمالة حبها العميق واللامحدود للوطن الذي جاء متداخلاً بين الجغرافي المادي والإنساني المعنوي، حافظت فيه الشاعرة على إيقاع تعبيرها الصريح بأن حبها للوطن يرجع إلى ما قبل البدايات، وأنها رغم العديد من صور المعاناة التي أصابتها جراء هذا الحب فهي لن تتنازل أو تتخلى عنه:
(أحببتُكَ يا وطني
حتى … قبلَ النظرةِ الأولى
اشتهيتُك حبّاً وحيداً
شوكك قد يُدمِيني،
يؤلمني
ولكن ..
لا أملكُ سوى وجهِكَ والكلمات)(10)
وتعود الشاعرة سُهى حدّادين لتصدر الوطن مرة أخرى في عتبة عنوان نصها (وجه الوطن) لتؤكد فيه بأنه درسها الأول في الحب وبوصلة اتجاهها أينما تحركت، واستهلته بالقول:
(سنون تمر
وقلبي تلميذٌ،
يتهجأ درسَ الحبِّ
وطن) (11)
وكذلك جعلته في نصها (معك أنت) عنواناً للحضن الدافيء والأمن والسلام الذي تستمده من غفوتها على صدر حبيبها الذي تعده وطناً معنوياً ومادياً تتحقق كل الأحلام اللذيذة فيه:
(نمارسُ طقوس العشق المجنون
لأرتشف من خمرة شفتيك
حلماً أحياه
وأغفو على وسادة صدرك
لأنها وطني
الذي أذاب روحي مرتين)(12)
أما رصد مظاهر الحداثة الشعرية في ديوان (لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) فتبدو جلية واضحة بداية من واجهة الغلاف الأمامية التي اختارتها الشاعرة من بين اللوحات التشكيلية للفنان الفلسطيني يوسف كتلو وقد تنوعت عناصرها التكوينية المستوحاة من غصون الأشجار المخضرة، وجدايل شعر تستريح على ظهر صبية تعطي القاريء بظهرها، ربما لتحرك عقله بالعديد من الأسئلة حول من تكون الفتاة، ولماذا لا تلتفتُ إليه، وإلى أي مدى هي توجه بصرها، هل للمستقبل الحالم أم أبعد من ذلك؟ ثم خطوط الكتابات المتداخلة بأسفل اللوحة، ومباني القرى المنتصبة في البعيد، وكوة اللهب، وتفاوت ألوان الرسم الجميل بين الترابي والأخضر والسماوي، وهذا كله بلا شك يضيف الكثير من التشويق والجاذبية لمحتوى الكتاب، الذي لم تشأ الشاعرة أن تصرح بأنه ديوان شعر، لأن كلمة (نُصُوص) ارتسمت بخط صغير في أعلى الركن الأيمن من الغلاف، وهي تستوعب الكثير من الأجناس الأدبية غير الشعرية، وهو ما يمكن اعتباره نوعاً من المراوغة المخاتلة، أو ربما الدلال الذي تداعب به الشاعرة الرقيقة مخيلة قارئها!!!
وفي الواجهة الخلفية (لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) تكرر عنوان الديوان واسم الشاعرة وتأثت الغلاف الخلفي بصورة شخصية للشاعرة نفسها، جمعت فيها عدة عناصر تحمل بلا شك دلالات مهمة بالنسبة إليها وهي: العلمُ الأردني، أرففُ المكتبة المتراصة، الكتابُ المفتوح، والقلمُ الذي تحمله الشاعرة بيدها اليمنى وهي ترسم ابتسامة على شفتيها ونظرة ترسلها عيناها الجميلتان إلى قارئها، إضافة إلى بيان شعري استقطعته من خاتمة نصها (لقاء) تقول فيه:
(ما جئتُ ألقاك
وإيَّاي حلمُ لقاك
فبعضي انسيابُ قصيدة
جوى وغوى
وثمالة،
باشتعال ثورة حنينْ
لعودة الياسمينْ
فبعشق الإنسانْ،
للإنسانْ
عطرٌ به تكتملُ
الأوطانْ)(13)
أما عناوين قصائد (لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) فقد جاء أغلبها مقتصراً على كلمة مفردة واحدة، تختصر أو تلمح إلى موضوع النص الشعري، وأحياناً تحتويه بأكمله لتكون مظلة تستوعب كل مضامينه الفكرية والجمالية. وقد قسّمت الشاعرة ديوانها إلى ثلاثة مجموعات شعرية هي (بين سنابلك) و(لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) و(سيد الوقت) احتوت كل منها بالتساوي خمسة عشرة نصاً شعرياً، ثم فصل معنون ب(نبضات) تضمن خمسة عشرة نصاً نثرياً قصيراً وهي نصوص تحمل الكثير من التعبيرات اللغوية المكثفة، التي تبرز حكماً انبثقت كما يبدو من تجارب شخصية مريرة، أرادت الشاعرة أن تنقلها للقاريء، ليس لاستدرار عطفه أو المتجارة بألامها ومعاناتها، بل يبدو عكس ذلك أي أنها اختارت أن تحتفظ بكل دموعها الصامتة، وآهاتها المكبوتة، وتهديه الورود والرياحين مقابل كل الانكسارات الشخصية بصوت مسكون بالشجن والأنين، تباين إيقاعه بين الظاهر والمخفي، وهذا الايقاع يعد عنصراً أساسياً في النص الشعري الحديث، لأنه يظفي الكثير من الموسيقى على المفردة، ويبعث حيوية وحركية سمعية تطلق الأخيلة البصرية والحسية في فضاء النص، وهو ما نجده في نصوص الشاعرة سُهى حدّادين يتفاوتُ في درجته بين الرنين المدوي والخفوت الهامس، وفي كل الأحوال فإن موسيقى الديوان لم تكن على حساب المعنى أو مضمون النص الشعري.
كل هذه العناصر المادية تنتمي إلى عالم الصورة البصرية التي صارت ركناً أساسياً في المجموعات الشعرية الصادرة حديثاً، لتضيف أبعاداً جمالية عديدة، كما يتصور أصحابها، وإن حادت عن المضمون الشعري وأسلوبه الفني. ولكن أبرز ما يلفت القاريء لديوان الشاعرة سهى حدادين (لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) هو كثرة تفكيك المفردات والكلمات في نصوص عديدة، وإعادة صفِّ حروفها بشكل أفقي تارة وعمودي تارة أخرى، بهدف مراوغة القاريء بصرياً عند قراءة النصّ الشعري، الأمر الذي يجبره على التأني والتوقف طويلاً ومراراً لإعادة ترتيب تلك المفردة، وقراءتها مكتملة في سياق تركيبتها اللغوية واستيعاب مفهومها وفق ذلك. وهذا بلا شك يمنحه فرصة لمزيد التأمل والتدبر في المفردة نفسها، ثم مضمونها، ودلالاتها القريبة والبعيدة، ضمن الجملة والصورة الشعرية الشاملة في النص.
ولم يغب عن الشاعرة أهمية السؤال الفكري في قرع أجراس التفكير لدى القاريء وإقحامه في سيول الإجابات التي يقترحها، سواء المتوافقة مع رؤية الشاعرة أو المختلفة مع ما تطرحه أو تهدف إليه من إطلاق ذاك السؤال المطرقة. وقد ظهر هذا مبكراً في الديوان في قصيدة (جسد الوقت) حين صاغت سؤالها عاماً بألم وأنين صامت وشوق عارم:
(هل من ضميرٍ
يحمل تلك الأوجاع
لنعود كما كنا
نرتوي حبّاً
ونعزفُ ألحاناً
على جسد الوقت
ونحكي أسطورةً كانت؟)(14)
ولم يقتصر وجود السؤال في الديوان على هذا النص المؤثر الذي تمازج فيه الشخصي مع العام ولكن نجد الشاعرة قد رفعت العديد من الأسئلة إلى محرك عقل القاريء ليتدبر فيها ويبحث معها عن إجابات تروي عطشها لليقين. ففي نصها (أميري) كان السؤال مفتتحا للنص بخطاب مواجهة مباشر مما يوحي باللهفة والحنين والشوق للحبيب:
(أين أنت؟
يوم ملأت ربيعي
كأس فكأس.)(15)
أما في (حلم) فقد تركت شاعرتنا باب ردها موارباً حين همس الحبيب يسألها:
(هل ستأتين معي؟
أم هو حلمٌ أنتظره؟)(16)
وفي (بوح الياسمين) نجد السؤال يوغل بعيداً في الفكر، محاولاً استشفاف المستقبل بعد لوعة الفقدان والفراق، فجاء عميقاً في الآسى والحزن والكآبة:
(هل لي في غيرِكَ أيامْ؟
فصولُ السنة أنت
الياسمينُ أنت
صمتي الذي بداخلي أنت؟)(17)
وفي (الصدفة) تحاول الشاعرة إشراك الجموع في البحث عن إجابة لسؤالها الفلسفي العميق فتواجههم بتحدي واضح:
(أخبروني
أين تُباعُ الصُدَفْ؟
أين أقطابُ الجدبْ؟)(18)
بينما في (مشاغبة مسائية) نرى الشاعرة غارقة في الحيرة والقلق وهي تلهث صوب المجهول لإعادة صياغة علاقة تتكيء على تذكر الماضي وتتنسم عبير المستقبل بكل هواجسه:
(إلى أين ترحل حروفي
ورائحة عطرك تداعب المكان
وهي ت ت م د د شوقاً
كوهج حلمٍ؟
ألا تذكر كم
اتفقنا أن نعبر حدوداً
نحطم قيوداً
ن
ب
ذ
ر
القمح
نعلن حباً أبدياً من أجل وطن عشقناه؟!)(19)
ونلاحظ أن السؤال يموج في فكر الشاعرة بلا توقف، تنسجه أحداث تجربتها الحياتية الخاصة بأدوات استفهام متعددة تخص الأزمنة والأمكنة والناس وغيرها، سعياً لطمأنة أعماقها وانتشالها من كل القلاقل التي تمور فيها. ولا شك فإن التجربة الذاتية الخاصة للشاعرة تمثل جزءاً من مصادر الإلهام الشعري، التي توظفها للتعبير عن بعض الوقائع أو الأحداث الشخصية وتداعياتها المختلفة، ومن ثم تأطيرها فنياً وفق الأسلوب الفني الذي يقتضيه النص الشعري. كما أن أحاسيس الشاعرة ورهافة وصدقية تعبيرها يسبغ على واقعية الأحداث الكثير من صور الخيال البلاغي الخلاب الذي يطرزها بجماليات لغوية وحسية وموسيقية، فيجعلها تتهادى إلى عقل ووجدان القاريء بكل حنو ودعة وسلاسة. وطالما أن الشاعرة هي كل ذلك فمن حق القاريء أن يتعرف على شخصيتها، وكيف تجسدت في نصها الشعري، حيث لم تخلو نصوص الديوان من صوتها وهي تنقل لنا بضمير المتكلم بعض صفاتها وخصالها ومشاعرها النبيلة، ففي نصها (امرأة نبطية) نجدها تتحدث عن نفسها، وتقدم تعريفاً يلمح إلى أصالتها وعامية وبساطة طبائعها، وكدها وتحملها النوم على صخور مدينة البتراء التاريخية السياحية الشهيرة، بعاصمة مملكة الأنباط بجنوب الأردن، والتي صارت بجمال صخورها الملونة الملتوية تعرف بالمدينة الوردية:
(أنا امرأةٌ نبطيةٌ
تغسلُ ظفائرَها بالشمسِ والحِنَّاء
سَارتْ غرباً
جَابتْ مُنحدراتِ القلبِ
قرأتْ وصايا الأرضِ
عَشِقتْ لونَ الوردِ
نَامتْ في ظلِّ صُخورِ البتراء)(20)
كما تشيد الشاعرة بعزة نفسها، وتفخر بتميزها بكبرياء لا نظير له، وتعتز بأصولها، كما تقول في (كبرياء):
(أنا امرأة لستُ كباقي النساء،
أنا امرأة ذات كبرياء،
لا أنحني
أحلمُ بالصعود
فوق أحلامي ورغباتي)(21)
إن النفس الشعري القصير عند سهى حدادين لم يحد من قدرتها على صياغة صور شعرية جميلة، أبانت فيها عن إمكانياتها اللغوية، التي نقلت نبض مشاعرها، ورؤاها وأحاسيسها الإنسانية أولاً، والأنثوية ثانياً، الزاخرة بالعشق للوطن الذي ظل موضوعها الرئيس، وهاجس نبضات مونولوجها الداخلي، وصوتها الصادح في الفضاء الخارجي، تعانق به طيف حبيبها فتنثر في وجهه زهور الياسمين والعبير تارة، وتقرعه بالكثير من التساؤلات اللذيذة تارة أخرى.
ومن خلال هذه النصوص الرقيقة الصادرة في الديوان الأول للشاعرة سهى حدّادين (لِرُوحِكَ أُلَمْلِمُ حُرُوفِي) يمكن القول بأنها استطاعت أن تكتب اسمها الشعري بيد ثابتة وقصائد واثقة، لتواكب قافلة الشاعرات الأردنيات المتميزات على درب مها العتوم وزليخة أبوريشة ونوال العلي وانتصار الرجوب وجمانة الطريفي ورنا بسيسو وناهد أبو العز وغدير حدّادين ومريم شريف وغيرهن، اللاتي يقدمن الوجه المشرق للمبدعات الأصيلات، ويتحدين بنصوصهن الشعرية الطقوس القبلية والعادات العشائرية المتخلفة، لينقلن صوراَ شتى للإحساس الأنثوي بإنسانيته ووطنيته، وهمومهن المشتركة في أنماط وقوالب شعرية نثرية تستحق الإشادة والمباركة.
(*) كاتب وأديب وإعلامي مستقل من ليبيا
(1) لروحك ألملم حروفي، سهى حدادين، الآن ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2018
(2) المصدر السابق نفسه، ص 54
(3) المصدر السابق نفسه، ص 10
(4) المصدر السابق نفسه، ص 19
(5) المصدر السابق نفسه، ص 27
(6) المصدر السابق نفسه، ص 20،21
(7) المصدر السابق نفسه، ص 22
(8) المصدر السابق نفسه، ص 9
(9) نزار قباني، متى يعلنون وفاة العرب، طبعة الكترونية، 1994
(10) لروحك ألملم حروفي، سهى حدادين، ص 13
(11) المصدر السابق نفسه، ص 18
(12) المصدر السابق نفسه، ص 50
(13) المصدر السابق نفسه، ص 44،45
(14) المصدر السابق نفسه، ص 29
(15) المصدر السابق نفسه، ص 71
(16) المصدر السابق نفسه، ص 74
(17) المصدر السابق نفسه، ص 82
(18) المصدر السابق نفسه، ص 84
(19) المصدر السابق نفسه، ص 91
(20) المصدر السابق نفسه، ص 12
(21) المصدر السابق نفسه، ص 55