صدرت عن دار السرد في عام 2025 رواية بعنوان ( يمامة بغداد ) للكاتب شلال عنوز وهي من الروايات المهمة والمختلفة من حيث المضمون الفني والصياغة السردية وقدرة الكاتب على إيصال الحدث بطريقة متفردة ومشوقة . وتتسم هذه الرواية بأبعاد انسانية وتحقيق قيم العدالة النبيلة .
تبدأ الرواية من لحظة تصاعدية اتسمت بحدث الموت ( موت حنان ) بطلة الرواية . بعد أن تم دفنها في المقبرة بحضور ابنها بالتبني ( طاهر ) وتنتهي الرواية بذات الحدث، أي تطابق نقطتي البداية والنهاية بعد أن كشفت لنا الخاتمة عن جوهر تلك البداية .
يقول طاهر في سره عند دفن ( أمّه ) ( هل تذكرين …. تلك الفاختة الرمادية الجميلة هي وذكرها اللذين كانا يتناغيان وهما يحطان على شجرة الزيتون وأنت تراقبينهما كل صباح؟ سيختفي هديلهما بعيداً عن أسماعنا حين يشعران برحيلك ) . وبعد دفنها غادر الطائران بعيدا بعد أن أكملت اليمامة سرد الحكاية .
لقد أنتج الخيال في هذه الرواية مديات موسعة من خلال شخصية حنان، فبعد خروجها من المقبرة في إحدى الزيارات تتذكر شخصاً جاءها بزيّ عربيّ لينبئها بحدث معين، ومن هنا يبدأ سرد الأحداث تدريجيا أي أنّ استرجاع الحدث بعد لحظات من الحدث الرئيسي ( الموت ) أي مزج الخيال مع الحدث عبر مفارقة زمنية محددة .
إنّ اللحظة التصاعدية للحدث من خلال دفن بطلة الرواية في المقبرة وعبر مفارقة زمنية يظهر رجل عند إحدى مخارج المقبرة يبشر حنان بوجود شخص يمثل لها انعطافة مهمة في حياتها أي أنّ الكاتب مزج بين النهاية والبداية وهذا ما أشرنا له في أعلاه بعملية السرد الدائري أي هناك العديد من الكشوفات المخفية التي ستظهر للقارئ عند متابعته الأحداث في حالة تشكّل تشويقاً مهماً لدى القارئ .
إنّ حركة الشخصيات ونموها في الرواية أضافت تحولا مهماً في رصد تفاصيل عديدة أسهمت في كشوفات معينة دفعت الأحداث نحو مسارات جديدة ومختلفة تتعلق في كشف الحقيقة التي كانت غامضة من جهة وأيضا تلك المعاني التي تتعلق في فهمنا للحياة من جهة أخرى، أي القضايا التي تتعلق في حرف مسار الرغبات الداخلية للفرد وتلك المصائر المحتومة التي تواجهنا .
إنّ بطلة الرواية التي عاشت مأساة حقيقية حين فقد زوجها وتزوجت رجلا كان قد قتل زوجها وهي لا تعلم وتبنت طفلا لسد فراغ الحياة فتلك هي الأحداث التي بحثت عن الهم الإنساني وتقلبات الحياة التي امتازت بالمكر والخديعة وعدم استطاعة الإنسان تجاوز فكرة النقص الداخلي، وبذلك تعبر هذه الرواية عن الواقع المليء بالعديد من المآسي التي يعيشها العالم في هذه الفترة، إنها رواية تعبر عن التوحش والبراغماتي المقيت وما وصل إليه العقل الخبيث من الدهاء الذي لايضع حدّاً معينا للتوحش القاتل الذي يريد أن يصل إلى مبتغاه بأية وسيلة حتى وإن كانت على حساب سفك الدماء، لكن إرادة السماء كانت بالمرصاد التي ترى بعين طائر رصدت كل شيء، هو ذلك الطائر الذي لم ينم بل بقيّ ساهرا يجوب المدن يرى ويفتش ويراقب الحدث عن كثب ليكون ذلك الطائر البريء الذي دوّن كل شيء، إنها عين الكاميرا التي لا تخطىء، عين ساهرة تراقب الخير والشر وتكتشف الخبث الذي وصل إليه الإنسان .
إنّ عملية تعرية المستور في هذه الرواية تتشكل من خلال تفاعلية قائمة بين تخصص الشخصيات المحددة وبين الحدث القائم لتتحول فيما بعد عبر تفاعلها مع الحيز المحيط بها الى ديناميكية دقيقة لكشف العديد من الأحداث المخفية، وبذلك أصبح التخصص الدقيق للشخصيات لبنة أساسية تشكل مع الحدث في بنية السرد، حيث يحمل اختيار مهن الشخصيات في الرواية دلالات عميقة في صياغة الحدث وفق حركة فيزيائية متجانسة، فضلاً عن القدرة الفنية المتميزة في ترتيب الأحداث حسب مفارقة زمنية وروابط مباشرة بطبيعة اختيار الشخصية، أي أنّ اختيار الشخصية مع تحديد طبيعة عملها ولحظة ظهورها على مسرح الرواية يتشكل كشف ملامح الحدث والنتيجة المرتقبة التي يبحث عنها القارئ لتشكل نوعا من الإدهاش لديه وإنّ طبيعة هذا العمل يولد حبكات فنية متتالية ومترابطة فنيا مع تجسير اللحظات الزمنية المنتقاه . ( الطائران اللذان يقفان على شجرة السرد وظهور الضباط الذين يعملون في نفس الوحدة العسكرية التي يعمل بها الضحية وكذلك الدكتورة لمياء التي تعمل أستاذة في كلية الطب الخ من الصفات التي تتمتع بها الشخصيات المنتخبة ) . وبذلك يكون الوصول إلى الذروة من خلال الخيوط المترابطة في نسج دوائر السرد لكشف الملابسات وتحقيق النتائج النهائية في الرواية .
لقد استطاع الكاتب في هذه الرواية أن يعبر عن صدق المشاعر الحقيقة بطريقة فنية تجسد احترافية الصنعة من خلال أسلوبه الفني في تشكيل حبكة فنية مقنعة ومتكاملة على مستوى الحدث والصورة والوصف والإيصال الصوري للحدث عبر صياغة سردية اتسمت بالتعبير الدقيق لإيصال المشاهد بطريقة التلاعب بالحركة الزمكانية وتلك هي العتبة المهة التي عبرت عن صعود الأحداث بطريقة درامية مشوقة .
الرواية تحمل سردا واسعا للعديد من الاحداث والمعارك التي مرت بالعراق منذ الحرب العراقية الإيرانية وصولا الى غزو العراق من قبل الولايات المتحدة، واعتمد الكاتب في ذلك على أسلوب قطع المشهد عبر استرجاعات فنية للأحداث التي تقوم على التناوب في سرد الأحداث الماضية والراهنة .
إن هذا الأسلوب الفني المتبع أنتج عملا روائيا متميزا ومحترفا من حيث قص الحكاية وشكّل متعة رائعة لدى القارئ واختلافا واضحا في السرد بعيدا عن التقليدية والكلاسيكية بعد أن جعل الكاتب المتن النصي بموازاة المبنى الشكلي للرواية .
أسقط الكاتب من خلال تخصصه القانوني على العديد من حيثيات الرواية حيث تأخذ الرواية بعدا إنسانيا نبيلا في تحقيق العدالة والقيم النبيلة وكشف الجريمة في نهاية المطاف حيث اكتشاف القاتل الذي أصبح فيما بعد مجنونا يجوب الطرقات بعد أن انتابه الندم مما اقترفه من ذنب كبير .
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية
