ما يشبه نقد النقد في شعر أنيس الدغيم.

بقلم:السيد العيسوي

قصيدة ونقد:
(الانتفاخ الشعري والتهويل النقدي والتصفيق الأيديولوجي- قراءة في نص ونقد)

مررت على منشور لحسن بن محمد الحملي يقول:
أنس الدغيم شاعر الشام ..
في ملحمته العظيمة .. حُق له أن يكون #أمير_شعراء أحفاد بني أمية في الزمن الجديد ..
لستَ احتمالًا ولا نسيًا ولست سُدى
أنا وأنتَ دمٌ يستعمرُ الجسدا
وموقِنانِ بأن الأرضَ من خشبٍ
إن لم تكن أنتَ فيها أو أكن بلدًا
وأنّ ما كانَ ممّا كانَ من دمِنا
يا أنتَ يومَ التقى الجمعانِ محضُ هُدى
وأنّنا لم نكن يومًا هواةَ دمٍ
لكنّ هَويناه حتى لا يضيعَ سُدى
مذْ فار تنّورُ هذا الكونِ قمتُ إلى
بحري أشدُّ عليه اللوحَ والوتدا
في ساعة البدءِ كان البحرُ مجتمعًا
ناديتُه: يا بنيّ اركبْ، فما رشدا
لا يعصمُ الجبلُ الجوديُّ وافدَهُ
ما لم يكن بحبالِ الله معتضدا
إنّي أنا البحرُ والربّانُ، من ركبوا
سيولدونَ غدًا أو يكبرون غدًا
سيزرعونَ بأرضِ الشامِ غيمتَهم
ويقرؤونَ وجوهَ السادةِ الشهدَا
ويقرؤون: هنا كانوا، هنا هتفوا،
هنا أريقوا دمًا كي يزهروا بردى
لا شيء يُشبه موتًا باذخا عطِرًا
لا شيء يقلقُ طاغوتًا كأن تُلدا
هذي السلاسلُ لم يُضرب لها زردٌ
لو كان في الأرضِ من لا يقبل الزردا
والله ما حُمّدَ المولى بمثلِ دمٍ
يُراق حتى تُرى حرًا ولا عبدا
لا أكتب الشعر، إن الشعرَ يكتبني
فحين تقرأُ شعري، تقرأ الكَبدا
أنا الموزّعُ في أوجاعِ خارطةٍ
تمتدّ حتى إلى أن لا يظلّ مدى
هناك عند حدودِ الصينِ أزرعني
قمحًا ليأكلني في الغربِ من فَقدا
قلبي مشاعٌ لكلّ النازلين بهِ
كأنّه والدُ الدنيا وما ولدا
لو أنّ شاةً بأقصى الأرضِ قد عثرتْ
سُئلتُ عنها، وذابت أضلعي كمدا
ومنذ قدّمتُ للرحمنِ سنبلةً
جعلتُ روحي لكلّ الطاعمين فدى
فإن مددتَ يدًا نحوي لتقتلني
كففتُ عنك، لنحيا سالمَيْن يدًا
قسّمتُ قلبي على مليارِ مئذنةٍ
فحيثما أذّنتْ أجزاؤه سجدا.
ثم يقول:
#نعم، تستحق أن تُعلّق هذه القصيدة على أبواب دمشق، وتُكتب بماء الذهب على جداريات التاريخ، وتُعلّم للأجيال كما تُعلّم قصائد الأدب الخالدة ..
أنس الدغيم .. هنا لا يكتب قصيدة، بل يصوغ ملحمة من دمٍ ونار، من وجعٍ وحلم، من صبرٍ وشهادة.. كل بيتٍ من أبياتها يُشبه طلقة حرية، أو دمعة من أمّ شهيد، أو آهة من معتقلٍ لا يزال يحمل الشام بين ضلوعه كأنها الوطن الأخير !! ..
لا شيء يُشبه موتًا باذخًا عطِرًا
وكأنه يعيد صياغة معنى الشهادة، في زمنٍ تتلطّخ فيه المفاهيم ويُحرّف فيه المجد ..
والله ما حُمّدَ المولى بمثلِ دمٍ
يُراق حتى تُرى حرًا ولا عبدا
بيت يهزّ الوجدان، وكأنه امتداد لقول سعيد بن جبير: اللهم خذ مني حتى ترضى ..
أنا الموزّعُ في أوجاعِ خارطةٍ
تمتدّ حتى إلى أن لا يظلّ مدى
صورة شاعرية كونية، تجعل من الشاعر حاملًا لوجع الأمة كلها، من المشرق إلى المغيب ..
قسّمتُ قلبي على مليارِ مئذنةٍ
فحيثما أذّنتْ أجزاؤه سجدا
ذروة المنهج السلوكي في الوطنية، والإيمان في الهوية، والدمعة في القصيدة ..
#هذه القصيدة ليست مجرد شعر، بل وثيقة وجدان أمة، وصرخة تاريخ، ودعوة مفتوحة لليقظة والانبعاث ..
#أنس_الدغيم في هذه الملحمة، أمير من لا إمارة لهم، وصوت من لا صوت لهم، وسيف من لا سلاح لهم إلا الشعر ..
#نعم ؛ يستحق أن يكون أمير شعراء أحفاد بني أمية في هذا الزمان الحالك.. ومن لم يفهم القصيدة، فليقرأ التاريخ.. ومن لم يدمع منها، فليس له قلب سليم ..
✍ حسن الحملي ..
==============================================
السيد العيسوي عبد العزيز:
قصيدة عادية جدًا، وتعليقات عادية، ولا يجمع الأمرين سوى المبالغة، والتهويل، واستقطاب العاطفة، وهذا ليس باب الشعر ولا النقد، وهي -أيضًا- متأخرة عن طرائق الشعراء ولغة العصر، مجرد زعيق وهتاف ورغبة في الحصول على التصفيق، ودغدغة المشاعر، الأمر الذي بُني عليه التعليق، لا على فنيتها أو جاهزيتها الشعرية، ناهيك عن التعصب والتعصب ليس باب النقد، ولو شئت لتوسعت في نقدها على صفحتي، لكن هذا شعر عادي وتعليق غير عادي على شعر عادي، والشعر فيه قليل. وكلا الأمرين يفسد الذائقة.
نعود للتوسع والتمثيل والتعليل والتحليل، من خلال أدواتي في النقد، كيف كان ذلك؟
يقول في الشطر الأول:
(لستَ احتمالًا ولا نسيًا ولست سُدى
أنا وأنتَ دمٌ يستعمرُ الجسدا)
إن كان الخطاب للمخاطب فهذا مطٌّ : لست ، ولا .. ولست. إن كان الخطاب مرة للمخاطب ومرة باسم الفاعل (ولستُ سدى) فأين التناسق الفني، فمرة (لست احتمالا ولا نسيًا) ومرة (ولست سدى) وفي الحالتين فكرة الحشو الوزني هي ما يسيطر. والشطر الثاني (أنا وأنتَ دمٌ يستعمرُ الجسدا) الصورة غير ناضجة من ناحية، ومن ناحية أخرى تستعمل تعبيرات مقيتة (تستعمر الجسد) علاقة غير حميدة بين الدم والجسد، والصورة منفرة في مركوزها العميق، أي أنها صورة سطحية. حتى وإن كان الشاعر يريد (يستعمر) بدلالتها المعجمية لا الحديثة، فهو لم يؤسس هذا فنيًا، فبدت الظلال منفرة، أو مجردة من نسيم الشعر.
والبيت الثاني:
(وموقِنانِ بأن الأرضَ من خشبٍ
إن لم تكن أنتَ فيها أو أكن بلدًا)
صياغة مجهدة غير ناضجة، ما هذا (بأن الأرض من خشب) (إن لم تكن أنت فيها أو أكن بلدا) أين الشعر هنا؟ الشعر يبدأ بالعلاقات المرهفة بين المفردات لا بالزحام الشكلي.
والبيت الثالث:
(وأنّ ما كانَ ممّا كانَ من دمِنا
يا أنتَ يومَ التقى الجمعانِ محضُ هُدى)
ما هذا الزحام المعجمي المقلق (ما كان مما كان من دمنا) الشاعر تائه في الصياغة لا يكاد يجد معناه أو نفسه على نحو ناضج، والبيت كله تهتهة شعرية.
والبيت التالي:
(وأنّنا لم نكن يومًا هواةَ دمٍ
لكنّ هَويناه حتى لا يضيعَ سُدى)
مجرد صياغة لمعان سياسية شائعة قالها الزعماء، بل الصياغة أردأ بكثير من خطابات الزعماء. وهكذا تسير معظم أبيات القصيدة. وهذا يعني -بداية- أن الشاعر ليس مشغولاً بالشعر، بل بتقديم بيانات وحشد مقولات، مع القيام بدور حزبي إن صح التعبير: التهليل والتصفيق من خلال رنين الوزن والقافية لهذه المقولات، والشعر له مقولته الأولى قبل أن يستعير أن مقولة، أو يكون مجرد مطية لها.
مذْ فار تنّورُ هذا الكونِ قمتُ إلى
بحري أشدُّ عليه اللوحَ والوتدا
البيت تمثُّل لقصة سيدنا نوح عليه السلام، مع شيء من التشويه الفني والصياغي، فكيف يكون التعبير (قمت إلى بحري) ولم يكن ثمة بحر بعد، وإن كان الشاعر يتصرف في القصة التاريخية، فكيف قفز البحر هنا؟ ثم ما دلالته القافزة؟ عدم وجوده كان أبلغ، كما في القصة الأولى، ثم إن وجد، فما دلالته الفنية، أتحدث عن الصياغة الداعمة، لا التأويل المجاني، فالصياغة مجانية. والمعروف أن السفينة تبني في اليابسة ثم تجر بطريقة فنية إلى سطح المياه ويتم تجريبها ثم إبحارها، وإلا فصورة الجلوس على سطج المياه وصناعة السفينة صورة مضحكة، وفيها كثير من مجانية التعب.
ثم ما هذا (أشد عليه اللوح والوتدا) هل هو يبني خيمة في البحر؟ أم جرته القافية لهذا الملء.
في ساعة البدءِ كان البحرُ مجتمعًا
ناديتُه: يا بنيّ اركبْ، فما رشدا
لا نعرف ما ساعة البدء هذه؟ هو كان على سطح المياه يشد الألواح ويقيم السفينة، هل هذا كان البدء، أم البدء الآن؟ ما هذه التعبيرات المجانية؟
ثم الركون إلى الصياغة التقليدية: ناديته: (يا بني اركب فما رشدا) مجرد استدعاء لما هو معروف أصلا، ووضعه في وزن وقافية، مع كثير من التقصير، فكيف يختم البيت بهذا الشكل (فما رشدا) جملة هابطة، والطريق إلى القافية لا يكون بجملة هابطة. جملة نثرية بل ساذجة. وهي معروفة ولا تؤسس معنى أو فنًا، وهنا يتبدى كيف تقع القصيدة في ثغرة الشاعر الذي يطبل للمعنى، وليس الذي يخترع معنى أو يبتدع شعرًا، وما سبق من تمثل هو أكبر داعم لذلك، فالنصوص أرواح لا اقتباسات.
ثم يقول:
لا يعصمُ الجبلُ الجوديُّ وافدَهُ
ما لم يكن بحبالِ الله معتضدا
بيت رخو جدًا فنًا ومعنى، وهو يقوم فيه بدور الخطيب لا الشاعر، مجرد تحصيل حاصل، وصياغة نثرية، وإذا كان الأمر مجرد سرد، لم لا نلجأ إلى قراءة بلاغة القرآن بدلا من الصياغة الركيكة هنا؟
وفي البيت القادم:
إنّي أنا البحرُ والربّانُ، من ركبوا
سيولدونَ غدًا أو يكبرون غدًا
ما هذا التعبير العبقري (سيولدون غدًا أو يكبرون غدا) معقول؟ بدأ الشاعر بعبارة جيدة (إني أنا البحر والربان) ثم ختم بعبارة ساذجة.
سيزرعونَ بأرضِ الشامِ غيمتَهم
ويقرؤونَ وجوهَ السادةِ الشهدَا
ما العلاقة بين الزراعة والغيمة، مجرد كلمات مرصوصة، تعتمد على الرص المجاني بحثًا عن التأويل المجاني، والشعر فن يؤسس المعنى فنيًا قبل أن يؤسسه دلاليا، ولا يعتمد على المتباعدات إلا بمنطق نابع من عمق الصياغة، كان يمكن أن تكون الصورة جميلة لو تم خدمتها، ولكن القصيدة تصير بمنطق القفزات التعبيرية لا الصياغة الشعرية، وشتان! والشطر الثاني مجرد اعتماد على الحماس والخطابية الماثلة في كلمة (الشهدا)، دون أي تعب في الصياغة أو تقديم الفني. كأن المتلقي من الواجب عليه أن يصفق كلما سمع كلمة (الدم)، (الشهيد)، (المجد)، (الفداء) إلخ. وهذا مفهوم أيديولوجي للشعر لا فني.
ويقرؤون: هنا كانوا، هنا هتفوا،
هنا أريقوا دمًا كي يزهروا بردى
هل يحتمل الشعر كل هذه الهُنات (جمع هنا، إن جاز التعبير) ثم ما (هنا هتفوا) هذه؟ هل الشعر يتحقق بالهتاف؟ أم هي روح الخطابية التي يعتمد عليها النص وتتردى بالذائقة اعتمادًا على حمولة غير شعرية يغر بها السُّذَّج من الجماهير ولا أقول القراء؟
لا شيء يُشبه موتًا باذخا عطِرًا
لا شيء يقلقُ طاغوتًا كأن تُلدا
صياغات عادية بعلاقات قريبة في متناول اليد، واعتماد على كلمات خطابية لا تؤسس شعرية ناضجة مثل (موتًا) و(طاغوتًا)، ولم أستسغ (كأن تُلدا) هذه بهذه الصياغة بهذا الشكل. فالنص مليء بالنتوءات غير الفنية.
هذي السلاسلُ لم يُضرب لها زردٌ
لو كان في الأرضِ من لا يقبل الزردا
والله ما حُمّدَ المولى بمثلِ دمٍ
يُراق حتى تُرى حرًا ولا عبدا
صياغات عادية لنصوص مقدسة، والشعر ليس مجرد إعادة صياغة لنصوص سابقة، الشعر حالة استلهام عظيمة لروح عظيمة في النصوص، وإلا فنحن نسطح النصوص الأولى مرتين: مرة في الفهم كروح ملهمة، ومرة في الاستخدام والعبور عليها من أجل شيء شخصي، كأن يقال: أنا شاعر! أما هذا فعمل شكلي يمر على النصوص والوقائع مرورًا سطحيًا، وكأنه يريد أن يقتطع لنفسه مساحة شعرية بالقوة من خارج الشعر، وهذا فهم خاطئ للشعر.
لا أكتب الشعر، إن الشعرَ يكتبني
فحين تقرأُ شعري، تقرأ الكَبدا
هذا مجرد ادعاء، وإيهام شعري لا يقدم ولا يؤخر من حقيقة النص، فلا هو كتب الشعر ولا الشعر كتبه، هذه تلصيمات شعرية وتركيبات من هنا وهناك، وقد تنطوي على انتفاخ في غير محله، وحتى الآن لا نكاد نرى شعرًا ولا شاعرًا. وبالطبع حكمي هنا ليس مطلقًا بل على نص واحد، فقد يجيد الشاعر أو يسيء هنا وهناك، والنقد يكون بحسب الشيء المنقود. والجملة الشعرية هاوية وضعيفة: (فحين تقرأ شعري تقرأ الكبدا) كلام عادي لا يوجد به شعر في أتون الحديث عن الشعر. وهذا يعني إيهام الشاعر للقارئ من ناحية، ووقوعه هو في الوهم الشعري من ناحية ثانية. ناهية عن سيطرة القافية وتشويهها للمعنى، فالطبيعي (تقرأ روحي ..تقرأ نبضي.. تقرأ قلبي) أما التعويل على الكبد هنا فغريب.
أنا الموزّعُ في أوجاعِ خارطةٍ
تمتدّ حتى إلى أن لا يظلّ مدى
هذا بيت جيد، فيه من الشعر ما يحرك الخيال مع وقوع الشاعر في هذا التشابك اللغوي المعرقل (تمتد حتى إلى أن لا ) ولكن الصورة الجميلة تشغلنا عن هذا، وقد نغتفر للشاعر أشياء في مقابل أشياء.
هناك عند حدودِ الصينِ أزرعني
قمحًا ليأكلني في الغربِ من فَقدا
قلبي مشاعٌ لكلّ النازلين بهِ
كأنّه والدُ الدنيا وما ولدا
لو أنّ شاةً بأقصى الأرضِ قد عثرتْ
سُئلتُ عنها، وذابت أضلعي كمدا
ومنذ قدّمتُ للرحمنِ سنبلةً
جعلتُ روحي لكلّ الطاعمين فدى
فإن مددتَ يدًا نحوي لتقتلني
كففتُ عنك، لنحيا سالمَيْن يدًا
مجرد إعادة صياغة لمعان ذائعة وقصص معروفة، وليس فيها أي دهشة أو جديد ، وليس هذا سبيل الشعر، الشعر ليس إعادة صياغة، هذا عمل الصحفيين وطلاب المدرسة في كتابة مواضيع التعبير، الشعر ابتكار صياغة، وتسيد تعبيري، ناهيك عن أنها جملة من هنا وجملة من هناك، فكرة من هنا وفكرة من هناك، مجرد حشد وتهييج للمتلقي دون وجود ذائقة أو فن أو شعر، وهذا يعني عبور الشعري من أجل النثري، إذًا لماذا لا نلجأ إلى النثر؟! فأنا على يقين أن هذا الأبيات لو صيغت نثرًا لكانت أبلغ بكثير جدًا، لأن القافية عرقلتها، وفكرة جمع فكرة من هنا ومن هناك أفقدتنا الوحدة والتناغم، وفكرة النظر خارج الشعر أخرجتنا خارج الشعر وشتتت الشحنة الشعورية المركزة. فالشاعر يعتمد على حمولة غيره لينسبها لنفسه، وهذا كل ما يشغله، لا إبداع ولا ابتكار ولا تأسيس شعري ولا نحت جمالي ولا إضافة لقصائد شامخة في هذا المجال، فالشاعر يعتمد على عكاكيز من خارج النص، ويظن أنه تضمين واستلهام، فلم يتفجر النص من الداخل، بل كان وثبات من الخارج. وربما ينشغل بفكرة الإعجاب والتصفيق بهذا الصنيع، وفي الحقيقة نحن سنصفق، ولكن للنص القرآني أو النبوي، وليس للنص الشعري، أي أنها عملية شكلية برمتها.
قسّمتُ قلبي على مليارِ مئذنةٍ
فحيثما أذّنتْ أجزاؤه سجدا.
هذا البيت هو الشعر، يحقق لنا نشوة الشعر، وتعد الأبيات السابقة جواره هراء وتكلفًا ونظمًا وإيهامًا شعريا، ما كان أغنى الشاعر عنه.
وهذا مثال آخر على خطورة فكرة وسائل التواصل واعتمادها على الإيهام الشعري والنقدي وإفساد الذائقة الشعرية لمجرد شعور عابر أو تعصب مذهبي أو فكر أيديولوجي أو أي شيء آخر من خارج النص الشعري، إلى الدرجة التي تجعل نصًا رديئًا بهذا الشكل وصاحبه، فوق الجميع لمجرد الانطلاق من منطلق غير شعري وغير ذوقي مما سبق عرضه.
كلمة الشعر وكلمة الشاعر كلمة كبيرة، لها احترامها، ويجب أن يظل لها احترامها، ناهيك عن إطلاق باقي الأحكام والألقاب المجانية في عصر صار كل شيء فيه مجانيًّا ولا فاتورة من ذوق أو علم أو حساب. ولا يُستحسن الشعر لمجرد استحسان المعنى أو جماعية التجربة أو إطلاق الأحكام المجانية وإملائها على القارئ لممارسة إيهام آخر عليه يجعله يفقد الثقة في ذوقه، وما ثم داعٍ. وهذا واحد من أخطر أسباب تردي الأدب والذائقة وابتذال الجمال.
من خلال النقد يتبين أننا أمام قصيدة عادية، وربما وصفها بعض المعلقين بأقل من ذلك بكثير، وكنا أمام تعليق أشبه بالتصفيق الأيديولوجي أو مجرد التهليل غير المحسوب إلى درجة غير معقولة من المبالغة تجعلنا نتعجب من أذواق الناس وجرأتهم على إطلاق الكلمات لمجرد أن تتاح لهم حرية نافذة من النوافذ، الحرية ليست كل شيء، ما يجعلنا في فضاء مضطرب لا يُعوّل عليه في بناء ذائقة أو إطلاق أحكام.
وإن كنت قلت من قبل إن المثقف لا يكون مثقفًا إلا حين يكون حرًا، وكذلك الناقد، فمن حسن الحظ أني لا أعرف الصديقين الفاضلين، ولكن كان لا بد من قول كلمة نقدية من باب قيام الناقد بدوره، وهو ما أفعله على فترات كلما سمح الوقت دون حسابات مع أحد إلا الشعر والنقد. وهذا فاصل من تاريخ الشعر الحديث والنقد الحديث في هذه الفترة العجيبة التي نفقد فيها كل شيء جوهري، مع كثير من التجوز في كلمة “شعر” و”نقد” في هذا المثال التحليلي.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!