بقلم: المهندسضياء طمان
مَسْعًى نقدي ومُقارَبَات أظنُّها ناجزةً في النادر مِن أشعار العباقرة: صلاح جاهين ـ محمود درويش ـ أدونيس ـ لوركا ـ وفي النادر مِن قصص الجهابذة: يوسف إدريس ـ محمد المخزنجي ـ يحيى الطاهر عبد الله ـ ناتالي ساروت.
-إلى المتلقي الفذ، الذي تجاوزَ المبدعين حُلمًا وصِدقا، وتجاوز النقَّادَ عِلمًا وعدلا.
-أنا لا آكلُ على كلِّ الموائدِ
لا عزةً ولا عفافًا فحسب
وإنما..؛
لأنني مُتخمٌ بجوعِ الاستغناءِ،
مُولَعٌ برشاقةِ الروح.
-أنا جريءٌ جدًّا
والدليلُ؛
أنني حتى ساعتِهِ،
لمْ أقُلْ يومًا للأعورِ في عينِهِ،
أنهُ أعورُ في عينِه.
#ض_ط
تنويه غير واجب
-رغمَ اختلافي الجَوْهَري البَيِّن مع بعضِ ثوابت وقناعاتِ وقِيَمِ ومبادئِ بعضِ مُبدعي إبداعاتِ هذا المسعى النقديِّ، على مستوياتٍ عِدَّةٍّ، العقائديُّ منها أوالأيديولوجيُّ أو الأخلاقي أو الإبداعيُّ؛ إلا إنني قد تناولتُ إبداعاتِهم النبيلاتِ المذكوراتِ، بتواضعٍ وعفة؛ لقناعتي الكاملةِ الراسخةِ، بأن النقدَ (بمفهومِ التقييمِ والتقويمِ)، لأي فعلٍ إنسانيٍّ في أي مَنحى- مهما كان اسمُ أو شأنُ صاحبِه -هو الحِصنُ الرئيسُ-إن لمْ يكُنْ الأولَ – للنهوضِ والسُّمُوِّ بالإنسانيةِ وبالأوطانِ؛ ما لَمْ يكُنْ هذا النقدُ نقدًا للنقض. وإنما إبداعٌ على إبداعٍ. واللهُ من وراءِ القصد.
المؤل
مقدمة
المهندسُ والأديبُ مبدعان، لا فرقَ بين إبداع أحدِهِما عن الآخر إلا باللغة. فلغةُ المهندسِ هندسيةٌ عقليةٌ رياضيَّةٌ يُظِلُّها الوجدانُ بشكلٍ أو بآخر. والأديبُ لغتُهُ لفظيَّةٌ وجدانيَّةٌ أدبيَّةٌ يُظِلُّها العقلُ بشكلٍ أو بآخَرَ كذلك. وإنْ كان الوجدانُ ضميرَ الأديبِ ورُوحَهُ، فالعقلُ مهندسُ الوجدانِ ، وبين الوجدانِ والعقلِ يكمُنُ التوازنُ النفسِيُّ الذي يَهَبُ المبدعَ، مهندسًا كانَ أو أديبًا، توافُقَهُ واعتدالَهُ، فتصير الإبداعاتُ قابلةً للتَّذَوُّقِ والتأثير.
ولمَّا كان الإبداعُ الهندسيُّ يُقاسُ شكلًا ومضمونًا بنتائجه الملموسةِ بين متخصصيه، فأنا أرى أنَّ الإبداعَ الأدبيَّ يُمكِنُ قياسُهُ أيضًا بين متخصصيه شكلًا ومضمونًا. فالشكلُ مَردُودُهُ في الحواس، سواء كان الإبداعُ هندسيًّا أوأدبيًّا. والمضمونُ مَردُودُهُ في فوائدِهِ المباشِرةِ في الإبداعِ الهندسيِّ، وفوائدِهِ غيرِ المباشِرةِ في الإبداعِ الأدبيّ. ورغم الفرقِ الشاسعِ بين الفوائد المباشِرةِ وغيرِ المباشِرةِ للإبداعَيْنِ، إلا أنَّ تأثيرَهما قد يكونُ واحدًا على الذَّات، وإنْ كانَ الأوَّلُ ـ قطعًا ـ لهُ ذَواتُهُ، والثَّاني لهُ ذَواتُهُ الأخرى.
وهذا يعني: أنَّ محاولةَ قياسِ الإبداعِ الأدبيِّ محاولةٌ ذاتيَّةٌ لتقييمه من المنظورالكَمِّيِّ، فكَمِّيَّةُ أيِّ إبداعٍ، هندسيًّا كان أو أدبيًّا في المُنتَجِ الإبداعيِّ، تتَّكِئُ على كيفيَّته. وبمعنًى آخر: إنَّ درجة الإبداعِ في المُنتَجِ الإبداعيِّ تتَّكِئُ على عناصرَ محدَّدَةٍ، من المفترضِ أْنْ تتوفَّر فيه جميعُها. وهذه العناصر هي التي أَوجَدَها المبدعون أنفُسُهُم في أعمالهم الإبداعية، من خلال تجاربهم المختلفةِ والمتعدِّدةِ والمتباينةِ والمتراكمة. عِلمًا بأنَّ محاولةَ قياسِ الإبداعِ الأدبيِّ تتغير ثوابتُها مِن صِنفٍ إبداعِيٍّ إلى صِنفٍ إبداعِيٍّ آخر، وتَثبُتُ متغيراتُها للصِّنفِ الإبداعيِّ الواحد.
وأزعُمُ أنَّ الجَديدَ في محاولتي هذه، هو إمكانيةُ رَصْدِ ثوابتِ الإبداعِ ومتغيراتِهِ ـ لكل صِنفٍ إبداعيٍّ ـ بقِيَمٍ وأرقامٍ محدَّدةٍ، والتي أجِدُها تُضفي على النقد الإبداعيِّ قدرًا من الموضوعية التي تتعارض يقينًا مع المقاييس الوجدانية النبيلة، والتي تتفق يقينًا مع مقاييسِ العقلِ، مهندسِ الوجدان.
وأرجو أن يكونَ قياسِيَ الكَمِّيُّ والكَيفيُّ لبعض الأعمالِ الأدبيةِ في الشِّعر والقصة القصيرة لبعض المُبدعينَ العربِ والأجانبِ دربًا من دروب الجِدِّ والاجتهاد، وألَّا يكون دربًا من دروب المُحال.
لكني أرجو من المتلقي الموقَّرِ أن يسمحَ لي أوَّلًا بنقلِ بعضِ المفاهيمِ إليه، باعتبارِها الأُسُسَ التي نَبني عليها هذه الرؤيةَ المتواضعة. من خلال بعض الخرائط الاسترشادية المُبَسِّطةِ لي قبل أن تكونَ مُبَسِّطةً للقارئِ الفذ. فالقدراتُ الاستثنائيةُ للإنسان، لعقلهِ ووجدانه، تتمثَّلُ في الإبداعِ، والابتكارِ، والاختراع، والاكتشاف. وكما هو موضَّح بالشكل (1)
فالإبداعُ هو استخدامُ منتَجٍ مألوفٍ لعملِ منتَجٍ غيرِ مألوف (شجرة تُحَوَّلُ لكرسِيٍّ مثلًا)، وهو ينقسم إلى قسمين: شكل وجوهر. والشكلُ فيه لا يحتاجُ لمتخصص. والشكلُ هو الملامحُ الظاهريةُ للمُنتَجِ الجديدِ غيرِ المألوف، والذي لا يحتاجُ إلى متخصص. فالكرسيُّ قد يكونُ بأربعِ أرجلٍ أو بثلاثٍ أو باثنتَين، وقد يكونُ بِظَهرٍ أو بدونِ ظَهر. وقد يكون لونُه أبيضَ أو أخضر. لكن الجوهر، وهو المقوِّماتُ الباطنيةُ للمُنتَجِ المذكور، يحتاجُ إلى اختصاصِيٍّ ليُقِرَّ إنْ كان ذلك الكرسيُّ متينًا في صُنعِهِ، وفي نوعِيَّةِ خشبِهِ، وفي نوعيَّةِ دِهاناتِه وعمرِها، وفي عمره الافتراضيِّ كذلك
أما الابتكارُ، فهو إلغاءُ المُنتَجِ المألوفِ، وإنتاجُ مألوفٍ جديدٍ (بطيخة مستديرة تُحَوَّلُ إلى مكعَّبة، كما فعلت “اليابان” لسهولة التحميل والتخزين، وزيادة كميتها). وأرى في الابتكار أنَّ شكلَه جوهر؛ بمعنى أننا لا نستطيع فصلَ شكلِ الابتكارِ عن جوهرِه؛ حيث إنهما متداخلانِ ظاهِرًا وباطِنًا، وهو يحتاج لمتخصص قادرٍ على تقييم المُنتَجِ المألوفِ البديلِ شكلًا ومضمونًا كما ذكرنا. فالبطيخةُ المكعبةُ قد تكونُ عمليةً في التخزين والتحميلِ، كما ذكرنا، لكنَّها قد تكونُ غيرَ صِحِّيَّةٍ وتؤدي بآكِلِها إلى تَهلُكَةٍ مُطْلَقَةٍ أو نسبية؛ أي إننا في حالة الإبداع قد نشتري الكرسِيَّ لِشكله ونتجاهلُ مضمونَه. لكننا في حالةِ الابتكارِ لن نشترِيَ البطيخَ المكعَّبَ الجديدَ إلا إذا أكَّدَ المختَصُّ أنَّهُ غيرُ ضارٍّ، بل ومُفيد. وهنالك أمثلةٌ أخرى كثيرةٌ للابتكار؛ منها: تحويلُ “الحَلَّة النحاس” إلى “حَلَة ألومنيوم” ثم إلى “حَلَّة استانليس” ثم إلى “حَلَة سيراميك” التي تحتاج في ـ كل مرحلة ـ إلى مختص يُقِرَّ أنَّ “حَلَّته” صحيَّة.
أما الاختراع، فهو إنتاجُ مُنتَجٍ لا مألوفَ له؛ مثل اختراع “العجلة” الشهير، واختراع الكهرباء، وخلافه. والاختراع ليس إلا الجوهر فقط، أي إنَّ شكلَ الاختراعِ غيرُ مؤثر؛ فالكهرباءُ اختراعٌ، لكن المصباح الكهربائي ابتكار، والعجلة اختراعٌ، لكن “البسكلتَّة” أو الدَرَّاجة ابتكار. فالمصباحُ بدونِ الكهرُباءِ لا فائدةَ منه؛ فهو وسيطٌ للإضاءةِ الكهربيَّةِ، وشكلُهُ جوهر؛ لأننا لا يمكن أن نستخدمَ مِصباحًا لا يوصلُ الكهرباءَ، مهما كان شكلُهُ جميلًا. وكذلك الدَّرَّاجة لا يُمكنُ استخدامُها مهما كانت جميلةً وإطاراتُها غيرُ قابلةٍ للدوران. وهكذا.
أما الاكتشاف، فهو اكتشاف منتج مجهول، قد يكون له منتج مألوف، أو غير مألوف. وذلك لأنه قد يحدث بالصدفة، ويحدث كذلك بالبحث والتقصي، كالقدرات الاستثنائية الأخرى، التي تحدث فقط بالبخث والتقصي. والاكتشافات- على سبيل المثال- كما هو مبين بشكل(1)، قد تكون لأثر أو لمعدن أو لنظرية علمية، أو لظاهرة طبيعية، أو لدواء، أو لقاح، أو قد تكون لفكرة. وطالما أن الاكتشاف يحدث بالبحث والتقصي أو بالصدفة فقطعا قد يكون شكلًا أوجوهرًا أو كليهما. ومطلقًا أو نسبيًّا أو كليهما كذلك. وقد يحتاج أو لا يحتاج لمتخصص.
أما الخلق، فهو إنتاجُ أيِّ مُنتَجٍ من العَدَم. وقَطعًا هذا الخلقُ لا ولن يكون إلا للخالقِ سُبحانَهُ وتعالى فقط. ولا مجالَ في هذا المقامِ للخوضِ فيه.
وقد تعمَّدتُ أنْ أُرجِئَ مُقَوِّمًا رئيسًا من مُقَوِّماتِ الإبداعِ والابتكارِ والاختراعِ؛ لأهميَّتِهِ فيما نتعرضُ إليه في قياسِها جميعًا، وهو المُقَوِّمُ الفاصلُ الذي دفَعَنا ويدفعُنا إلى مَبحَثِنا لقياس الإبداعِ واختلافه عن الابتكار وعن الاختراع، ألا وهو نسبيَتُّه، التي قد تتحقق لبعض الاكتشافات؛ لذا وجَبَ البحثُ عن طريقةٍ نُقَلَّلُ بها الفروقَ في قياسِهِ من مُتَلَقٍّ لآخَرَ (شَكلًا) ومِن مُختَصٍّ لآخَرَ (جوهرًا). وإن كان الابتكارُ مُطْلَقًا لأنه مألوفٌ أوَّلُ يتحوَّلُ إلى مألوفٍ ثانٍ يَجُبُّ الأوَّلَ أو يتفوَّقُ عليه ويتجاوزُهُ ويتميَّزُ عنه. وإن كان الاختراعُ مُطْلَقًا كالكهرباء و”العجلة” حيث إنهما مُنتَجانِ لا مألوفَ لهما، غَيَّرا وَجْهَ البسيطةِ تمامًا، إلا أنَّ السيارةَ والطيارةَ و”الموبايل” و”الكمبيوتر” اختراعاتٌ نسبيَّةٌ (عُرفًا) وليست مُطْلَقةً، لأنها تتَّكِئُ في متنها على الكهرباءِ و”العجلةِ” اللتين لولاهما ما تَوَصَّلَ مُختَرِعوهما النِّسبيُّونَ إليها. فيظلُّ الإبداعُ قياسُهُ نِسبِيٌّ؛ حيث قد يقبلُهُ البعضُ، وقد يرفضه البعضُ الآخر. فالكرسيُّ الجميلُ قد يراهُ غيرُ المُختصِّ قبيحًا شكلًا رغم متانتِهِ جوهرًا عند المختص.
ما ذكرناه في الإبداع العام، والابتكار العام، والاختراع العام، والاكتشاف العام؛ بمعنى أنه إبداعٌ، أو ابتكارٌ، أو اختراعٌ، أو اكتشاف في كل المناحي التي تخصُّ المجتمعاتِ في الطبِّ، والهندسةِ، والزراعةِ ، والصناعةِ، … إلخ، بدايةً من الإبرةِ إلى الصاروخ، كما يقولون. ومجازًا، فللإبداعِ إبرةٌ وصاروخ، وللابتكارِ إبرةٌ وصاروخٌ كذلك، وللاختراعِ إبرةٌ وصاروخٌ ثالث وللاكتشاف أيضا. وكلُّها ـ لا محالةَ ـ أفادت الإنسانيَّةَ، بل وأفادت كلَّ المخلوقاتِ بشكلٍ أو بآخر، أو بشكلٍ أو بجوهر ، أو بشكلٍ وجوهر. فإن كان الإنسانُ قد استفاد من “العجلة” والكهرباء والبطيخ المكعب والكرسيِّ والحَلَّة والديناميت والملابس والمسكن والسيارة والطائرة و”الموبايل” و”الكمبيوتر”، فقد استفادت كلُّ المخلوقاتِ من إبداعاتِ الإنسانِ وابتكاراتِهِ واختراعاتِه واكتشافاته كذلك، حتى في إبداعاتِهِ الإنسانية الوجدانية الخاصة، وابتكاراته الإنسانية الوجدانية الخاصة كذلك، واختراعاتِه الإنسانية الوجدانية الخاصَةِ والاكتشافية، بلا شك.
نعم، فللوجدانِ إبداعاتٌ وابتكاراتٌ واختراعات واكتشافات، وليس فقط إبداعات، كما هو شائع. فالموسيقى إبداعٌ وجدانيٌّ إن تجاوزَت المألوفَ من المألوف، برغم استخدام الآلاتِ نفسِها بالمُقَوِّماتِ نفسِها. وقد تكونُ ابتكارًا إن رفضَت المألوفَ وأسَّسَت مألوفًا بديلًا ببعضِ التراكم. وقد تكونُ اختراعًا إن لم يسبق لها مثيلٌ في مجتمعاتِها. وقد تكون اكتشافًا بالصدفة يفوق القدرات الاستثنائية التي ذكرناها جميعًا. وكذلك الفن التشكيليّ والشِّعر والقصة والمسرح وكل الآداب والفنون والعلوم الإنسانيَّة التي تتجذَّرُ في وجدانه قبلَ عقله.
وما يهمنا في هذا المقام هو الإبداعُ الأدبيُّ بمنتجاتِهِ المألوفةِ من شِعرٍ وقصةٍ وروايةٍ ومسرحٍ لإنتاجِ منتجاتٍ أخرى غيرِ مألوفة، والابتكار الأدبيّ لها بإلغاء المألوفِ وإنتاج مُنتَجٍ بديلٍ مُغايرٍ نأتلف معهُ تراكميًّا، والاختراع الأدبيّ بإنتاج مُنتَجٍ لا مألوفَ لهُ قَبْلًا، والاكتشاف لأي منتج أدبي جديد أو مجهول، سواء كان له منتج مألوف أو غير مألوف؛ التي سنتعرَّضُ لفكرةِ قياسها كَمًا والتي تعني في حقيقة الأمرِ قياسَها كَيْفًا، فالكَمُّ في الإبداع فقط لابد أن يكونَ كَيفًا في الوقتِ ذاتِهِ، لكن في غيره لا. وهذا ما يتفرَّدُ به الإبداع عن غيرهِ من المنتوج الإنسانيِّ بصفةٍ عامَّة. والأمثلةُ كثيرةٌ في المحاصيل مثلًا، أو في الصناعات المختلفة؛ فقد تكون المحاصيلُ المنتَجةُ كَمِّيَّاتُها كبيرةٌ لكن معظمها مريض. وقد تكونُ صناعةُ منتَجٍ ما غايةً في الجَودةِ لكنَّها قليلة. أما في الإبداع فلا يمكنُ أن نفصلَ بين الكمِّ والكَيف أبدًا، كما ذكرت.
ولنا أن نتساءل الآن بأَرْيَحِيَّةٍ وبراءة، هل سنتمكَّنُ حقًّا من القياسِ الكَيفِيِّ الكَمِّيِّ للشِّعر ِوللقصةِ وللروايةِ ولكلِ صنوفِ الأدبِ بمقياسٍ موضوعِيٍّ يُمَكِّنُنا من تقديرِ جَودةِ تلكَ الآداب من عَدَمِها ، ومن حسابِ كَمِّيَّةِ إبداعِها، بل وهندستِها بقِيَمٍ وأرقامٍ محدَّدةٍ تؤهلُنا إلى نقدٍ إبداعِيٍّ جديدٍ مُغايرٍ للنقدِ الانطباعِيِّ، والنقدِ التعليمِيِّ، والنقدِ الرَّصْدِيِّ، والنقدِ الهُلامِيِّ الذي يختلفُ من ناقِدٍ لآخرَ طبقًا لقناعاتِهِ وتَوَجُهاتِه التي قد لا تَمَسُّ إبداعَ تلكَ الآدابِ من قريبٍ ولا من بعيد، أو التي قد تُبَرِّرُ لِجَودتِهِ أو لِضَعفِه وانعدامِهِ طِبقًا لِنَزَاهةِ الناقدِ أو فَسادِه. فها أنَذَا ـ بتواضُعٍ ـ أَدَّعِي ذلكَ بتطبيقاتٍ مختلفةٍ على الشِعر بِشِقَّيهِ: العربيِّ الفصيح، والعربيِّ المِصريِّ، والقصةِ القصيرة كمدخلٍ بريءٍ لهندسةِ الوجدان، باعتبار أنَّ الهندسةَ هي عِلمُ العقلِ المُنظَّم الدقيق الذي يدخلُ في كُلِّ العلومِ ومشتقَّاتِها، والذي أراهُ ـ كما ذكرتُ ـ عِلْمًا للوجدانِ كذلك، برغم الفروق الكبيرةِ بين العقلِ وبينَه. فإنْ كان العقلُ هو العاملَ المسؤولَ عن الحَسمِ والإنجازِ والنِّظامِ والتخطيط، فالوجدانُ هو العاملُ المسؤولُ عن تزيينِ الحَسمِ، وتجميلِ الإنجازِ، وتهذيبِ القراراتِ، وترقيقِ النِظامِ وترشيقِ التخطيط. وهذا معناه أنَّ العقلَ والوجدانَ لا ينفصِلانِ عن بَعضِهِما أبدًا، وأنهما مرتبطانِ ارتباطًا وثيقًا، هذا الارتباط هو الذي يُسْهِمُ في استواءِ شخصيَّةِ صاحِبِ هذا العقلِ وذلكَ الوجدانِ، إنْ قامَ كلٌّ منهما بدورِهِ المَنُوطِ به الذي حَدَّدناه منذُ قليلٍ دونَ تقاعُسٍ أو تفريطٍ أو إفراط. لذا .. أرى أنَ العلمَ قد أخطأ عندما اهتمَّ بقياس قدرةِ العقلِ فقط بمقاييسَ موضوعيةٍ كمقياسِ الذكاءِ والذاكرةِ والإدراكِ وتكوينِ المفهوم.
وقد يتصور البعضُ أنَّ تلك المقاييسَ العقليةَ الموضوعيةَ يمكنُ استخدامُها لتقييم الإبداع. وهذا ـ شكلًا ـ قد يكون مقبولًا، لكنْ جوهرًا لا.. ، فإن كانت المرونَةُ، مثلًا، والمخاطرةُ وحُبُّ التغييرِ صِفاتٍ شخصيَّةً وسِماتٍ لبعضِ الناس، فهذا ليس معناهُ ـ جوهرًا ـ أنَّهُ إنسانٌ مُبدِعٌ أو مُبتكِرٌ أو قادرٌ على الاختراعِ بمفهومنا لذلك. فنحنُ نقصِدُ في هذا البحثِ الإبداعَ الأدبيَّ ، الذي لم يتعرَض لهُ أحدٌ قَبْلًا بقياسِهِ كَمَّا وكَيْفًا. فقد تؤدِّي نتائجُ تلكَ الاختباراتِ العقليةِ إلى أنَّ صاحِبَها قادرٌ ـ نظريًّا ـ على الإبداعِ أو الابتكارِ أو الاختراعِ، لكنَّهُ، وحتى تاريخِ الاختباراتِ، لم يُبدِع شيئًا، ولم يبتكر شيئًا، ولم يخترِع شيئًا. نحْنُ نتكلَّمُ عن العملِ المُبتَدَعِ، أو العملِ المُبتَكَرِ، أو العملِ المُختَرَع، وليس عن صاحِبِه. فقد يكون صاحِبُهُ في الشِعرِ لكنَّه شاعرٌ عادِيٌ وليس مُبدِعًا، أو قد يكون قاصًّا أو روائيًّا، لكنَّهُ قاصٌّ أو روائيٌّ غيرُ مُبدِع.
وقد آن لنا الآنَ أن نَلِجَ معًا إلى الغايةِ من هذا البحثِ لقياسِ الإبداعِ الأدبيِّ وتطبيقاتِهِ على أشعارٍ وقصصٍ لكبارِ كُتَّابِنا المِصريينَ والعربِ، وبعضِ أدباءِ الغربِ كذلك، لنصوصٍ شهيرةٍ قَيَّمناها بمقياسنا الهندسِيِّ باعتبارِها نماذجَ إبداعيَّةً سامقةً، فوجدناها ـ للأسف ـ بالأرقامِ عادِيَّةً، مؤَكِّدينَ على أنَّنا قَيَّمناها بِشَرَفٍ يُشاركُنا فيهِ أيُّ مُتَلَقٍّ أو ناقِدٍ عادِيٍّ، باعتبارِها أدبًا إنسانيًّا غَيرَ مُقَدَّسٍ، يأتيه الباطلُ مِن بين يديهِ ومِن خلفه، والباطلُ هنا بمعنى الأخطاءِ والنواقصِ والقصورِ الذي نشتركُ فيهِ جميعًا كبَشَرٍ مِن بدءِ الخلقِ إلى مُنتهاه. وقَطْعًا لم نَخْتَرْ هذه النماذجَ عشوائيًّا، وإنَما اخترناها لقصورِها، لا لِنُقَلِّلَ مِن شأنِها ومِن شأنِ أصحابِها الأعلام، وإنَّما لتكونَ خيرَ مِثالٍ على ما نَدَّعيهِ مِن قياسٍ مِن المفتَرَضِ أنْ يُسقِطَ النادِرَ جِدًّا مِن أعمالِ مُبدِعِيها الذين نُؤَكِّدُ على أنهم مُبدِعونَ أُصَلاءُ أضاؤوا لنا ـ بإبداعاتِهِم ـ معالمَ كثيرةً في حياتِنا سَمَت بِنا وارتقت إلى الحدِّ الذي جعلنا نُدرِكُ معنى إنسانيَّتِنا، ونكتشف مَواطِنَ جَمالِها، ونسعى بها لتحقيقِ ذواتِنا وذواتِ مَن نُحِبُّهم.
ومِن وجهة نظرنا، فالإبداعُ الأدبيُّ يتكوَّنُ مِن أربعةِ عناصِرَ رئيسَةٍ، كما في شكل (2).
1ـ الموهبة: وهي حُرَّةٌ وخاصَّة. حُرَّةٌ مكانيًّا وزمانيًّا، وخاصَّةٌ بمعنى ذاتيَّة. وهي التي تدفعُ الأديبَ دَفعًا لكتابةِ عَمَلِهِ الأدبيِّ، في صِنفِهِ الأدبيِّ المُحَبَّب.
2ـ الضَّمير: وينقسِمُ إلى قِسمَيْن:
أـ ضمير إنساني عادي يحظى به كُلُّ إنسان.
ب ـ ضمير أدبي (فنِّيّ) وهو لدى الأديبِ فقط أو (الفنَّان)
ويتكوَّنُ الضميرُ الإنسانِيُّ مِن رؤًى إنسانيةٍ وقناعاتٍ خاصَّةٍ بالأديب + سلوك إنساني يخصُّه
أمَّا الضميرُ الأدبيُّ فيتكوَنُ مِن شكل + مضمون + رؤى
وإنْ كانت رؤى الضمير الإنسانيِ للأديب مشتركةً ومتداخِلَةً مع الضمير الأدبيِّ له، فهي ليست بالضرورةِ متطابقة.
ـوالشكل: هو ملامحُ العملِ الادبيِّ في أيِّ صِنفٍ أدبيٍّ (عنوانُه ـ بدايتُه ـ خِتامُه ـ طولُه ـ قِصَرُه ـ الموسيقى الداخلية والخارجية)، ومِن المفترَضِ أن يُسْهِمَ الشكلُ في جذبِ المُتلقِّي لقراءة العملِ الأدبيِّ
ـ والمضمون: هو جَسَدُ ورُوحُ العملِ الأدبيِّ
ـ الجسد: يتكون من الجُمَل + التراكيب الُّلغوية + المجاز + البناء + الغاية المُبتغاة من العمل الأدبي.
ـ أما الروح: فهي خصائصُ العملِ الأدبيِّ التي تؤهله ليكونَ إبداعًا أو أدبًا عاديًا. وتلك الروح هي المِعيار الأول لقياس العملِ الأدبيِ، وليس المِعيار الوحيد. فالروح هي الأساس الذي يحمل الجسد، وليس العكس، وهي التي تجعل العملَ الأدبيَّ مُتماسِكًا راسِخًا يُمَكِّنُهُ مِن الحياةِ الخالدة التي تُخَلِّدُ صاحِبَها. باختصار .. إنَّ الرُّوحَ هي الفكرةُ أو الثيمةُ الرئيسةُ التي يتَّكِئُ عليها العملُ الإبداعيُّ والتي بدونِها يتهاوى ويتهدَّم بمجرَّدِ تسليمِهِ للقارئ أو المتلقِّي، أو المُختصِّ (الناقد). فالفكرةُ هي التي ـ إنْ تَوَفَّرَت عناصر العمل الأدبيِّ الأخرى ـ تجعلُ العملَ الأدبيَّ خارِقًا أو عاديًّا. فمجازًا، إن اعتبرنا المِسبَحَةَ تتكون مِن رُوحٍ وجَسَد، فالجسدُ فيها هو حبَّاتُ المِسبحة، أمَّا الرُّوحُ فهي خَيطُ المِسبحة، ومن الرُّوحِ والجَسَدِ نرى ونتعاملُ ونُسَبِّحُ، لكن بدونِ الخيطِ لن يكون هناكَ حَبَّاتٌ ولا تسبيحٌ ولا عمل. وإذا وُجِدَ الخَيطُ وانقطعَ لِضَعفِهِ في أيَّةِ مرحلةٍ من مراحل التسبيح (العمل) تنفرِطُ حبَّاتُ المِسبحة (جسد العمل) وتتبعثرُ هنا وهناك وينقَطِعُ التسبيحُ ويتوقَّفُ العمل. وكأنَّ مضمونَ الضَّميرِ الأدبيِّ هو المُحَدِّدُ الأثيرُ للعملِ الأدبيِّ الذي بِهِ يُحَلِّقُ في الآفاقِ الإبداعيَّةِ بِدَرَجَتَي صِحَّةِ جَسَدِه ورُوحِهِ مَعًا.
3- الخبرات: هي ثالِثُ مُقَوِّماتِ العملِ الأدبيِّ، وهي ثقافةُ الأديبِ الزَّمانيَّةُ والمكانيَّة، وتعني خبراته المختلفة بحيوية الأزمنة والأماكن التي عايشها وارتآها، وليس عمره والأماكن التي رآها بنفسهِ وعاش فيها. والخبراتُ هي التي تؤهِّلُ الأديبَ لتهذيبِ وتشذيبِ وتكثيفِ العملِ الأدبيِّ وتحميه من التَّرَهُّلِ والنَّوافل.
4- المُتَلَقِّي: هو آخِرُ المعاييرِ والمُحَدِّدات التي تدخُلُ في قياسِ العملِ الأدبيِ، بِرَغمِ أنَني في الوقتِ ذاتِهِ لا أُعِيرُهُ اهتمامي إلا بعدَ إقرارِ الأديبِ لعملِهِ الأدبيِّ، لأنهُ من المُفتَرَضِ ألا يكون المتلقِّي عامِلًا ضاغِطًا على الأديبِ بأيَّةِ صورةٍ من الصُّوَر طوالَ مرحلةِ الكتابة. ومع ذلك فإنَّني أضعه هنا في مكانِهِ المتأخِّرِ لِما بعدَ الكتابة، أو، كما ذكرتُ، ليبرز دورهُ فقط بعدَ أن يُقِرَّ الأديبُ بصلاحيةِ عَمَلِهِ الأدبيِّ للنَّشرِ أو للتَّلَقِّي. وبرغمِ ذلك، فإنَني أرى إلغاءهُ أيضًا حتى بعد إقرارِ الأديبِ لعملِه الأدبيِّ، لكنْ مع إلغاء معيار الموهبة كذلك. إنَّ الموهبة مهما كانت فَذَّةً، فَسَيَدْحَضُها في المُقابلِ مُتَلَقٍّ فَذٌّ كذلك، وبذلك تتساوى درجاتُ الموهبةِ المُوجَبة بأيَّةِ قيمةٍ لصالحِ الأديب، مع درجاتِ المُتَلَقِّي (الموهوبِ كذلك) السَّالِبَةِ بقيمةِ الموهبة الموجَبَةِ نفسِها، لتكونَ مُحَصِّلَةُ جَمعِ درجاتِ الموهبةِ والمُتَلَقِّي مُساوِيَةً صِفْرًا. وهذا معناهُ أنه إن كانت الموهبةُ موجودةً لدى الأديبِ بنسبةِ 100% افتراضًا، فإنَّ درجة تَلَقّيِ المُتَلَقِّي تكون بدرجة 100% كذلك. وبذلك، فإنه لا يتبَقَّى في معاييرِنا الأربعةِ سوى مِعيارَي (الضَمير) و(الخِبرات) لنضعَ جميعَ الأدباءِ على قدم المساواةِ أمامَ أُطرُوحتي الخاصَّةِ بقياسِ أيِّ عَمَلٍ أدبيٍّ، بعد أن افترضنا رفضَ المتلقِّي الفَذِّ لموهبةِ الأديبِ الفَذَّةِ كذلك بالقَدْرِ نَفسِهِ. وهذا يعني أنَنا بشَكلٍ أو بآخر افترضنا أنَّ موهبةَ الأديب التي لا يمكن قياسُها صِفْرًا، وأنَّ المتلقِّي غيرُ موجودٍ، أو موجودٌ لكنَّه مُتَحَفِّظٌ بنسبةِ 100% على العملِ الأدبيِّ، لأنَّنا لن نتمكَّنَ كذلك من قياسِ درجاتِ التلقِّي، لأنها تخُصُّ كُلَّ مُتَلَقٍّ على حِدَة، أي إنها نسبيَّةٌ تمامًا كالموهبة التي هي أيضًا لابُدَّ وأن تكون نسبيَّةً، مِمَّا يَرُدُّ قياسَنا للعملِ الأدبيِّ إلى نسبِيَّةٍ تَرُدُّنا هي الأخرى إلى النقدِ الانطباعيِّ والتعليميِّ والمِزاجيِّ الذي رفضناه، وأَسَّسْنا ضِدَّهُ هذه الأُطروحة.
وحتى أخوضَ تجربةَ قياسِ إمكانيَّاتِ العملِ الأدبيِّ بالمِعيارَينِ المُتَبَقِّيَيْنِ، ألا وهُما: (الضمير)، و(الخبرات)، أرجو أن تقبلوا وتتقبَّلوا اختياراتي لثمانية أعمالٍ أدبيَّةٍ في الشِّعرِ والقصَّةِ القصيرةِ لثمانية أدباء مِن مشاهير وأعلامِ الأدبِ كما ذكرتُ، وهم الأديب الفَذُّ النبيل “صلاح جاهين” رَحِمَهُ اللهُ، وذلك في ثلاث رباعيات من رُباعِيَّاتِهِ الشهيرة، باعتبارِ أنَّ الرُّباعيَّاتِ هي ذُروةُ إبداعِهِ الأدبيِ، باعترافِهِ وباعتراف المُختَصِين والعامَّةِ كذلك. وكذلك قصيدة للشاعر الكبير “محمود درويش” ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ الذي جابت أشعارُهُ أرجاءَ العالم لِما يتميَّزُ بِهِ مِن عالَميَّةٍ استطاع بها أن يدخلَ التاريخَ ويستقِرَّ بِهِ عربيًّا ودوليًّا بمنتهى الهدوءِ والسَّكينة.
وكذلك مجموعة من القصائد القصيرة للأديب والناقد والمفكر الكبير “أدونيس” بارك الله في عمره، بغضِّ النظرِ عن كُنهِهَا شِعرٍ منثورٍ أو قصيدة نثر، لكن لِما يتمتَّع بهِ أدونيس ـ كرائدٍ من روَّادِ الحَداثةِ ـ من خصوصيَّةٍ كبيرةٍ لشِعرِهِ المتفرِّدِ شكلًا وموضوعًا، بشهادةِ خصومِهِ قبلَ مُريديه. وبعض القصائد القصيرة للشاعر المسرحي الفنان عازف البيانو الإسباني العالمي الثوري لوركا، رحمه الله. الذي مات دون الأربعين من عمره (1898م- 1936م).أمَّا في القصةِ القصيرةِ، فقد اخترتُ قِصَّةً لأميرِ القصةِ العربيةِ الأوَّلِ “يوسف إدريس” ـ رَحِمَهُ اللهُ، وكذلكَ قِصَّتينِ قصيرتينِ للأديبِ الكبيرِ الشاعر والقاص “محمد المخزنجي”، بارك الله في عمره. صاحبِ الحِسِّ الإنسانيِّ الرقيق بلا مُنازِع. والذي استطاع بجدارةٍ تأسيسَ مكانةٍ خاصَّةٍ لأدبهِ السَّرديِّ المُغاير. وقِصَّةً لشاعِرِ القصَّةِ العربيَّةِ الكبير “يحيى الطاهر عبد الله”، رَحِمَهُ اللهُ. وقِصَّتينِ قصيرتين للأديبةِ الروائية المسرحية الناقدة الفَرَنسيَّةِ العالمية رائدة التيار الفرنسي الجديد للرواية الفرنسية الحديثة “ناتالي ساروت”، بعد الحرب العالمية الثانية، رحمها الله(1900م- 1999م). التي أحدثت رواياتُها وقصصُها ضجةً لم يُضاهِهَا ضجة. والتي قدَّمها الأديبُ والمفكرُ والفيلسوفُ والسياسيُّ العالميُّ جان بول سارتر، رحِمَهُ الله. باعتبار رواياتِها (إبداعات ضد الرواية.. صعبة لكنه ممتازة).لكن قبلَ أن أبدأَ في ذلك القياس لتلك الأعمالِ الأدبيَّةِ الشهيرة الكبيرة، يُشَرِفُني أن أُعَرِّجَ قليلًا على قراءةِ مَقال (مدخل كَمِّيّ للجمال) للناقد الكبير الدكتور “سيد البحراوي” ـ رَحِمَهُ الله ـ المنشور بجريدة “الأهرام” في الثاني والعشرين مِن مايو عام 2015م (مع العلم) بأنَّ إرهاصات بحثي لقياس الإبداع الأدبي كانت في عام 2000، موثَّقًا بالغلاف الخلفي (المرفق
صورته) لكتابي “الدرامجيَّة التليفزيونيَّة” المنشور بـ “مكتبة مدبولي” الغرَّاء
وفي مَقالِهِ يتحدَّث الدكتور سيد البحراوي عن مصطلح الإنتروبيا (entropy) وهو ( اللايقين أو التشتُت أو الفوضى) التي يرى فيها “يوري لوتمان” أنه كلَّما زادت درجة الإنتروبيا (اللامُتَوَقَّع) زادت كميَّةُ الجمال. وأَوْضَحُ مِثالٍ لهذا هو الفارقُ بينَ الماءِ والثَّلجِ والبُخار؛ فدرجة التَّشَتُّت تزداد بين ذرَّات الأُكسجين والهيدروجين من الثلج إلى الماء إلى البُخار طبقًا لدرجة الحرارة المحيطة بهذه الذَّرَّات ( وإنَّه من المُهِمِّ أن نَنتَبِه إلى أنَ العلاقاتِ بين المفرداتِ تنعكسُ على المفرداتِ ذاتِها ، أي إنَّها تُعطيها خصائصَ موضوعيَّةً مُغايِرَةً لِما هي عليه خارجَ هذه العلاقات). وأحسنُ مِثالٍ على ذلك هو اللونُ الأحمرُ في إشاراتِ المرور، فمعناهُ المَنْعُ في كُلِّ دُوَلِ العالم، أمَّا في الاتحاد السوفييتي القديم فقد كان معناه السَّماح، وكذلك في المَلْبَسِ والمَأكَلِ والمَباني، فيأخذُ دَلالاتٍ مُختلِفةً، لكنَّه في النهايةِ لا يفقِدُ كَونَهُ الأساسِيَّ كلونٍ أحمر.
وطِبقًا لنظرية المعلومات (information theory) فإنَّ وحدة السيميم (semime) هي الوحدة الدَّلالية الصُّغرَى. وللوصول إلى هذه الوحداتِ الدَّلالية الصُغرَى، فهذا يعني رصد الخصائص الموضوعية في الوحدة الحجميَّة والتي يُشّكِّلُ مجموعُها مُجمَلَ دَلالاتِها.
مِثال: تقولُ نظريَّةُ المعلوماتِ إنَّ جُملةَ (غدًا تُشرِقُ الشَّمسُ من الشرقِ) جُملةٌ خاليةٌ من الدَلالةِ؛ لأنها خاليةٌ من اللامُتَوَقَّع أو من الإنتروبيا، حيث يعرفُ الجميعُ هذه الحقيقة. أمَّا جُملة ( غدًا تُشرِقُ الشَّمسُ من الغرب) كجملة غير متوقعة ومفاجئة، فبديهيٌّ للجميع أنَّ كَميَّةِ المعلومات (اللامُتَوَقَعة) من استبدال كلمة الغرب بالشرق أكبر بكثير. لكن الكلمة وحدها ليست هي المسؤولة عن هذا، بل ما فَرَضَتهُ على الجملة من علاقاتٍ جديدةٍ غيرِ مألوفة. وقد يكونُ هذا صحيحًا إذا تعاملنا مع الجملتين تعامُلًا عاديًا مُباشِرًا. الجملة الأولى تحملُ معلوماتٍ قدرها 30 سيميم (semime)، أمَّا الثانية فقد بلغت معلوماتُها 41 سيميم. لذا فالجملة الثانية بهذا القياس أجملُ بِفَرقِ 11 سيميم (نظرية المعلومات نظرية كلود شانون).
والحقيقة أنَّني استعرضتُ هذا المقال بِرَغم تَحَفُّظي عليه لسببٍ واحدٍ وحيدٍ هو إثبات أسبقيَّتي لقياس كَمِّيَّة الإبداع في العمل الأدبيِّ عام 2000، وأنَّ مقال الدكتور سيد البحراوي تم نشرُه عام 2015 وقد جاء تَحَفُّظي لأنَّ القياس المذكور يتَكِئُ على كميَّة المعلوماتِ المُفاجئة (اللامُتَوَقَّعة) باعتبارِها المَحَكَّ الرَّئيسَ لمفهوم الجمال. بَيْدَ أنَّ اللامتوقع قد يكونُ على المستوى المعرفِيِّ المعلوماتيِّ جديدًا، أمَا على المستوى الجماليِّ فقد يكون قبيحًا، وأنَّ تأكيد تلك المعلومات بالتداعي الأدبي ـ في بعض الأشعار على سبيل المثال ـ قد يكونُ صُوَرًا للمعلومةِ نفسِها لكن بجماليَّاتٍ مُتعَدِّدة، مِمَّا يجعل العملَ الأدبيَّ أكثرَ ثراءً بِرَغمِ محدودِيَّةِ المعلومات. فقد يتجدَّدُ الجمالُ بالتِّكراريَّةِ غيرِ المألوفة أو المألوفة، لكن طِبقًا لقياسِها. ودَعوني أعودُ للمِثالِ نفسِه، المثال:
غدًا تُشرِقُ الشَّمسُ مِن الشرق
و غدًا تُشرقُ الشَّمسُ من الغرب
فالجُملةُ الأولى قد تكونُ دَلالتُها ـ بِرَغمِ عَدَمِ فَوضَوِيَّتِها ـ أجملَ وأبلَغَ من دَلالة الثانية؛ فأن تُشرقَ الشَّمسُ غدًا من الشَّرقِ، هذا يعني أنَّها تُشرِقُ الآنَ من الغرب، وأنَّ غدًا سيكونُ أجملَ أمنًا، بَيْدَ أنَّ شروقَ الشَّمسِ من الغربِ غدًا يعني أنَّ الغدَ مُخيفٌ وقبيح، وبالتالي تُصبحُ معلوماتُ الجملةِ الأولى المُتَوَقَّعةِ أجملَ وأسمَى وأوقَعَ بالمفهوم التفاؤليِّ، أو مُساوِيَةً للثانيةِ في المعلوماتِ البديهيَّةِ بالمقياسِ نفسِه، حيث إنَّني أرى أنَّ الإبداعَ هو مَنْطَقَةُ أشياءَ غيرِ مَنطِقِيَّة، أو لا مَنْطَقَة أشياءَ مَنْطِقِيَّة، فإنَّه قد يكونُ أكثرَ جمالًا ورُؤيَوِيَّةً من كَميَّةِ المعلوماتِ المفاجئةِ اللامُتَوَقَّعة.
وعلَّنَا نؤكِّدُ رُؤيَتَنا هذه في أُطرُوحَةِ “هندسة الوجدان” لقياس إبداعِ مُبدِعينا العِظامِ، والتي سنبدأ بها في قياسِ إبداعِ ثلاث رباعيات خالدات لشاعرِنا النبيل “صلاح جاهين”
وأؤكِّدُ ـ على استحياءٍ ـ أنَّ النَّقدَ والتَّقييمَ لأعمالِ عِملاقٍ مِثل صلاح جاهين ولكلِّ مَن اخترناهم مِن مُبدِعينا الآخرين في الشعر والقصة، يدُلُّ على أنَّ كَلَّ المُبدِعِينَ مِن المُفتَرَضِ أن يكونوا سواسيةً أمامَ النَّقدِ، خاصَّةً وأنَّنا سنُبَرهنُ في تواضُعٍ شديدٍ، على أنَّ هذه الرُّباعِيَّات الشهيرةَ الخالدةَ بِها سلبيَّاتٌ هي وغيرها. وقبلَ أن أبدأ في قياسها، اسمحوا لي أن أتطَرَقَ مرَّةً أخرى لوجهة نظري في عناصر الإبداعِ الأدبيِّ، عسى أن أُضفِيَ عليها مزيدًا مِن الدَّلالات. فالموهبة، والضَّميرُ بِشِقّيهِ، وخبراتُ المبدعِ بِشِقَّيها، والمُتَلَقِّي، هي المعاييرُ الأربعةُ التي بها نستطيعُ تقييمَ العملِ الأدبيِّ بسهولة.
فالمَوهِبةُ ـ إضافةً لِمِا ذَكَرناهُ ـ تَتَّحِدُ مع المبدع ولا تخبو أبدًا، ولا علاقةَ لها بالإنجازِ ولا بِزَمَنِ ذلكَ الإنجاز. وشَتَّانَ بينَ الموهِبَةِ والإرادة. فالإرادةُ تتعلَّقُ بإنجازِ شيءٍ مُحَدَّدٍ في وقتٍ مُحَدَّد، وقد تخبو لَحظِيًّا بعدَ ذلك الإنجاز، ثُمَّ تشتعِلُ في موقفٍ آخَرَ لإنجازٍ آخَر. أمَّا الموهِبَةُ فهي هاجِسٌ دَيْمُومِيٌّ يَحُثُّ صاحِبَهُ على الإنجازِ الأدبيِّ دُونَ قرار. وإنْ صّحَّ التَّعبيرُ لقُلنا إنَّ الموهبةَ هي دِماءُ المُبدِعِ، وإنَّ الإرادةَ هي مِدادُه. وشَتَّانَ بين الدَّمِ والمِداد.
ومِن الموهبةِ التي قَدَّرناها بـ 100% لكُلِّ المُبدِعين إلى المتلَقِّي، أحَد عناصر الإبداع، سواء كانت كتابَةُ المُبدِعِ لهُ أو مِنه، فهو المِرآةُ الخاصَّةُ التي يرى فيها المُبدِعُ مَوهِبَتَهُ الكامِلَة المُقدَّرةَ بنِسبَةِ 100%. ولكنَّنا نقصِدُ بذلكَ المُتَلَقّي، المُتَلَقِّيَ الفذَّ وَحدَهُ، وبِمعنًى آخرَ أنَّنا نقصِدُ بِهِ المُتَلَقِّيَ الذي صارت نِسبَةُ تَلَقِّيهِ لهذه الموهبةِ وهذا الإبداعِ صِفرًا %، باعتبار أنَّهُ مُتلَقٍ مَوهوبٌ أيضًا، أو فلنَصِلْ لأبعَدَ مِن ذلك لنقولَ إنَّ هذا المُتَلَقِّي هو المبدعُ ذاتُهُ أو قَرينُهُ الدَّاحِضُ والمُناهِضُ لإبداعِهِ بنِسبَةِ 100% كذلك.
وبذلك فإنَّ مجموع نِسبَتَي الموهبة والتَّلَقِّي = 100/100 – 100/100 = صفر/100 = صفر%. وكأنَّ المِعيارين الآخَرَين المُتَبَقِّيَينِ فقط وهما الضَّمير والخبرات هما العنصران اللذان نُحَدِّدُ بِهِما كَمَّ الإبداع الأدبي. وبِرَغمِ ذلك فإنَّه كان من المستحيل تَجاهُلُ عُنصُرَي الموهبةِ والتَلَقِي ، إذْ هُما بمثابةِ الهواءِ والماءِ اللذَينِ يعيشُ عليهما العنصرانِ الآخَراِن، الضميرُ والخبرات، واللذَينِ لولاهما لبارَت سِلعةُ الأدبِ وتلاشت واختفَت وانتَفَت. أو فلنَقُلْ إنَّ الموهبةَ هي أُمُّ الإبداع والمُتلَقِّي أبوهُ اللذانِ يمنحانِهِ الوجودَ، سواء وُجِدا معهُ أو غابا لبعضِ الوقت، أو حتى إنْ غابا عنه دونَ رَجعةٍ (نظريًّا كما افترضنا).
ونأتي للعنصر الثالثِ، ألا وهو ضميرُ المُبدِع. فنحن نرى أن لِكُلِّ مُبدِعٍ ضميرينِ لا واحدًا؛ أحدُهما إنسانيٌّ والآخرُ فَنِّي، كما ذكرنا. والضميرُ الإنسانيُّ هو ضميرُ الرُّؤى والسلوك. الرُّؤى التي تمثِّلُ الموقفَ الفكريَّ للأديب من كل الأمور المحيطة به وبعالَمِه وبالكونِ كافَّةً، والسلوك هو الفعل وردُّ الفعلِ لتلك الأمور. أمَّا الضميرُ الفنِّيُّ أو الأدبي فهو الضمير الذي ينفرد به المبدعُ ويتميَّزُ به عن غيرِ المبدعين، وهو ينقسم إلى شكلٍ وجوهر، شكل يحدِّدُ ملامحَ الإبداع من خلالِ مفرداتِهِ اللُّغويَّةِ من ألفاظٍ وكلمات، ومن موسيقاه الداخليَّةِ والخارجيَّة في حالة الشِّعر الموزون العمودي أو التفعيلي الذي نحنُ بصَددِ قياسِ كَمِّيتِهِ الآن في الرُّباعِيَّتين. وجوهر من رُوحٍ وجسد ..، الرُّوح التي تضوعُ به الحالةُ الخاصَّةُ بالعمل الإبداعيِّ إن كان سياسيًّا، أو عاطفيًّا، أو كان ذاتيًّا أو عامًّا. والجسد الذي يتكوَّن منه العملُ الإبداعيُّ (الرُّباعِيَّة) من بناء أخيلةِ وتراكيب الجُمَل.
وكان لابُدَّ للمُبدِعِ أن يكونَ له ضميران؛ حتى تَتَّسِقَ وتتكامَلَ إبداعاتُه إن غابَ بعضُ أو كُلُّ ضميرِهِ الإنسانيِّ. فقد يكونُ المُبدعُ موظَّفًا مُرتَشِيًا لأسبابٍ اجتماعيَّةٍ تقهَرُه، أو مُنافِقًا لحاكمٍ ..، لكن غالبًا ما تُقاوِمُ أعمالُهُ الإبداعيَّةُ الفسادَ بأنواعِه. وقد يتصوَّرُ البعضُ أنَّ هذا التناقُضَ شكلٌ من أشكالِ الفصام، ولكن الحقيقة أنَّه عندما ارتشى أو نافقَ صباحًا، غاب عنه بعضُ أو كُلُّ ضميره الأدبيِّ (الفنِّي) على حساب ضميرِهِ الإنساني. لكنه عند كتابةِ وإنجازِ عملِهِ الإبداعِيِّ، فإنَّ ضميرَهُ الإنسانِيَّ يعودُ مَرَّةً أُخرى ليتَّسِقَ مع ضميرِهِ الأدبيِّ جزئيًّا أو ليتطابَقَ معهُ تمامًا. وأزعُمُ أنَّ تّذَبذُبَ مستوى الإبداعِ عند مُبدِعٍ مُعيَّنٍ قد يكون سببُهُ المباشِر هو غياب بعضِ الضَّميرَين وحضور بعضِهِما بنِسَبٍ تتناسَبُ مع ذلك المستوَى. وأزعُمُ بالتالي أنَّ ثباتَ مستوَى العملِ الإبداعيِّ أو الأعمال الإبداعية لِمُبدِعٍ أنَّهُ دليلٌ على تطابُقِ ضميرِهِ الأدبيِّ مع ضميرِهِ الإنسانيِّ، وهو ما نسميه جميعًا الصدق الفنِّيّ (أو الصِّدق الأدبي).
ونأتي للعنصر الرابع والأخير لقياس الإبداعِ الأدبيِّ، وهو خبرات المُبدِع. وهو من أهم العناصر التي يتِمُ قياسُ الإبداعِ على أساسِها. وتنقسِمُ تلكَ الخبراتُ إلى خبراتٍ زمانيَّةٍ ومكانيَّة، ودرجة استقبالِ المُبدِعِ لتلكَ الخبراتِ وإعادةِ إرسالِها داخِلَ إبداعاتِه، والتي من المُفتَرَضِ أن تَحمِيَهُ وتَحمِيَ إبداعَهُ من التَّرَهُّلِ والتَّفَكُّكِ وعَدَمِ التَّجانُس
وإن كنا قد اعتبرنا الموهبة (م) = + 100%
واعتبرنا التَّلَقِّي (ت) = – 100%
ونعتبر الضمير (ض) إنساني = 25
أدبـــي = 25
والخـــــــبرات ( خ ) زمانيَّة = 25
مكانيَّـة 25 =
وبــذلك يكـــون ( ض ) + ( خ ) = 100%
أو بالأحرى يكون م + ت + ض + خ = 100%
وهذا معناه أنَّ المبدع لو حصل عملُهُ الأدبيُّ مِن مجموع (ض) و (خ) على 70 درجة شِعريَّة (أو درجة سرديَّة، أو خِلافة)، فإنَّ نسبة كَمِّيَّة إبداعِه في عملِهِ الإبداعيِّ
= 70%، وهكذا.
مقاربة قصيدة(أحن إلى خبز أمي) للموقر الشاعر الكبير محمود درويش- رحمه الله
أحِنُّ إلى خُبْزِ أُمِّي
وقَهْوَةِ أُمِّي
ولَمْسَةِ أُمِّي
وتَكْبَرُ فِيَّ الطُفوُلَةُ
يَوْمًا على صَدْرِ يَوْمِ
وأعشَقُ عُمْرِي لأنِّي
إذا مِتُّ
أخجَلُ مِن دَمْعِ أُمِي
خذيني إذا عُدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِك
وغَطِّي عِظامي بِعُشْبٍ
تَعَمَّدَ مِن طُهْرِ كَعبِك
وشُدِّي وَثَاقِي .. بِخُصلَةِ شَعرٍ
بِخَيطٍ يُلَوِّحُ في ذَيْلِ ثَوبِك
عَسَانِي أصيرُ ملاكا
ملاكًا أصيرُ
إذا ما لَمَسْتُ قَرَارَةَ قلبِك
ضعيني إذا ما رَجَعْتُ
وقودًا بِتَنُّورِ نارِك
وحَبْلَ غسيلٍ على سَطْحِ دارِك
لأنِّي فقٌدْتُ الوقوفَ
بِدُونِ صلاةِ نهارِك
هَرِمْتُ، فَرُدِّي نجومَ الطُّفُولَةِ
حتَّى أُشارِك
صغار العَصافيرِ
دَرْبَ الرُّجُوعِ لِعُشِّ انتِظارِك”
أرى أنَّ هناكَ إشكاليَّةً كبيرةً في بِناءِ هذه القصيدةِ، بَدْءًا مِن ” وتَكْبَرُ فِيَّ الطُّفولَةُ “. فلماذا يقول الشاعرُ- فجأةً- بعدَ حنينِهِ إلى خُبزِ وقهوة ولَمْسَةِ أُمِّه، (و) تَكبَرُ فِيَّ الطفولة)؟، ولماذا وَضَعَ حرفَ الواو؟ وإن كانت واوًا استئنافية أو ابتدائية، فأين ذلك الاستئناف لمعنى ما قبلها. وأين ذلك الابتداء الذي جاءنا متأخرًا قسرًا. ورغم أن الواو الاستئنافية تأتي بجملة لا علاقة بها إعرابًا ولا معنى مباشرًا بما قبلها؛ إلا أنه لابد أن يكون لها علاقة بالمعنى المعنوي غير المباشر بشكل أو بآخر. وهذا الشرط لم يُستوفَ هنا كما نرى. حيث أرى الشاعر قد قفز بحنينه إلى الخلف وحده مرة واحدة، تاركًا المتلقي يستعد ليقفز معه إلى الأمام وفي دمه نكهة خبز أمه هو ونكهة قهوتها ولمستها. وأعني بالأم هنا أم المتلقي وليس أم الشاعر. وأرجو ألا يتصور القارئ أنني أعني بالقفز للخلف أنه القفز للماضي ولا أن القفز للأمام هو قفز للمستقبل، وإنما قصدت بهما غير المتوقع والمتوقع. وباختصار.. فإن هذا السَّطرَ مُفتَعَلٌ وغيرُ مناسِبٍ في هذا المقام الشعري الإبداعي. فالشاعرُ بِدُونِ مُقدِّماتٍ سوى حنينِهِ يقولُ ــ عَنْوَةً ــ (و) تَكبَرُ فِيَّ الطفولة. ألم يكن أشعَر أن يقول أنا الآنَ طفلٌ بدلًا من وتكبرُ فِيَّ الطفولة؟ ( هي التفعيلةُ لا محالة). وقد يتحفظ البعض على تحفظي ذلك، وأنا معه بشروط، فلغويًّا وشعريًّا قد يكون هذا مشروعًا بعطف المعنى، لكن في هذا الموقع، فلا. فقد يستهل الشاعر قصيدته بأن يبدأها بقوله(وتكبر فيَّ الطفولة) بواو الابتداء بلا مقدمات، لأنها في هذه الحالة هي المقدمة ذاتها. بل ومن الممكن أن نعتبرها أيضًا عطفًا على معنًى باطني لم يصرح به الشاعر لمتلقيه. وقد يكون موقعها التي جاءت فيه مناسبًا؛ شريطة أن يسبقها ولو لفظة واحدة تمهد لمجيئها. لكن أن تأتي هكذا بواو أو بدون واو في هذا المكان، فهذا ما نصفه بلي ذراع السياق التدريجي للقصيدة بلا مبرر تِقني. وأعلم جيدًا لماذا تداعت في ذاكرتي الآن (ربنا ولك الحمد)، التي نرددها كمسلمين عند إنهاء الركوع بعد(سمِع الله لمن حمد). وكم تساءلت عن سبب وجود تلك الواو التي تسبق (لك الحمد)؟!.. وقد تحفظت على تلك الواو وما زلت، وآخر تلك التحفظات كانت في إحدى عُمراتي هاتفيًّا، داخل الحرم مع أحد شيوخ الإفتاء الموقرين، الذي أفادني بقبولها كذلك بلا أسباب، ولم أقبلها.
وما هي هذه الصورة الشعرية المُفتَعَلَة كذلك: “يومًا على صَدرِ يَومِ” ؟ وماذا أفادَت كلمة صَدر هنا؟ هل أدهشَتْنا مثلًا، أو أضافَت شيئًا؟ وماذا لو أصبحت صدر (حِجر أو ظهر أو حتى قلب). فأنا لا أقصد الكلمات في حد ذاتها وإنما الصورة والمعنى الناتج منها. وهل كان طبيعيًّا أن يتذكر الشاعر بعد تلك القفزة الخاطفة الخلفية المباغتة، طفولته يومًا على صدر يوم بهذا الهدوء وتلك السكينة في تلك القصيدة القصيرة المبتسرة في أكثر من موضع؟! وهو لم يُلمِح لنا بذكرى دقيقة واحدة من تلك الأيام والشهور والسنين العديدة التي تداعت في ذاكرته مع ذلك الحنين؟! وتأتي أيضًا (و) أعشقُ عمري لأني، على نفس المنوال وبنفس القفزة الورائية بدون المتلقي الحر وبنفس النتيجة. هذه الجملة كان لابُدَّ أن يكون تركيبُها أكثرَ انسيابيَّةً. لكن المعنى لو فَصَلناهُ أو اجتزأناه من القصيدة فقطعًا يصبح البناءُ طبيعيًّا ورشيقًا ورائعا. لكن داخل القصيدة بما جاء قبلها وما جاء بعدها فلا. فالشاعر يقهر الكلمات والمعاني بأكثر من واو، لا محل لها من العطف أو الاستئناف أو الابتداء، مدَّعيًا صناعة فضاء شِعريٍّ يَظُنُّهُ جميلًا لكن الحقيقةَ لا، للأسف. ويعود ليبدأ من جديدٍ بسطرٍ يَصلُحُ لأنْ يكونَ الاستهلالَ لهذه القصيدةِ، برغم منطقية الاستهلال الأساسي الذي بدأ فيه بالحنين. لكنني أزعم أن القصيدة في مجملها تَمَّ عمل بعض التوفيقات لها مِن أكثر من قصيدة، أو مقاطع حاول فيها الشاعر الكبير محمود درويش دمجها في توليفة لم يقنعنا بها وبتراتُبِيَّتِها البديهية. وأرجو من مُريديه أن يتخيلوا أن قصيدة ” أحِنَّ إلى خُبزِ أُمِّي ” كُتِبَتْ بِدايةً مِن: “خُذِيني إذا عُدتُ يومًا” برغمِ أهميَّةِ السطورِ الأولى التي تَحَفَّظتُ عليها لانفصالِها التام موضوعًا عن بقِيَّتِها التي تبدأ بــ “خُذِيني إذا عُدتُ يومًا ” .
وتظلُّ القصيدةُ، حتى برؤيتي هذه التي أحاول فيها أن أجد أيَّةَ مُبرِّراتٍ فنيةٍ شعرية، قصيدةً مفَكَّكة، صورها غريبة، بمعنى شاذة، وليست غريبة بمعنى مدهشة. فلماذا تأخذُهُ أمُّهُ وشاحًا لهُدبِها؟ وما قيمةُ هذا الوشاح للهُدب؟ وهل يجوزُ للابن أن يقولَ لأمِّهِ خذيني وشاحًا؟ أَم هي التي تقول له إنَّكَ يا بُني وشاحي، أو وشاحُ هُدبي؟ لكن أنْ يطالب الابنُ أمه شِعرًا بأن تأخذه مَداسًا أو حذاءً لها، فهذا لا شك، أوقعُ وأشرفُ وأجملُ وأشعَر.
ثم يستكمل الشاعر الكبير صُوَرَهُ الغريبة بـ “غَطِّي عِظامي بعُشْبٍ تَعَمَّدَ مِن طُهْرِ كَعبِك”، التي تحيلنا- بلا مناسبة وبلا مقدمات أيضًا- إلى(كعب أَخِيل) وأمه (ثيتس) الحورية التي عمدته في نهر (سيتكس)، ليصبح من الخالدين وهي تمسكه من أحد كعبيه، فيصير ذلك الكعب الذي لم يغمس في النهر هو نقطة ضعفه الوحيدة. والتي يستغلها (باريس) ابن ملك طروادة، فيقتل أخيل بسهم في ذلك الكعب؛ انتقامًا منه لقتله شقيقه (هكتور). وكأن الشاعر خلط بين كعب أخيل وهو نقطة ضعفه وبين كعب أمه الطاهر طبيعيًّا ودائمًا، باعتباره نقطة قوة. وأيًّا كان الخلط مقصودًا أو لم يكن كذلك، فهي صورة مزعجة وقلقة ومقعَّرة تقعيرًا أدّى إلى تشويه المعنى النبيل الذي أراده. بل لقد أدَّت إلى لا معنى لا محالة. وبعدها نأتي إلى(وشدي وثاقي بخصلة شعر).. لماذا تلك الماسوشية التي تحيل الشاعر إلى مَسخٍ لا إلى ملاك كما تمنى؟! وخصلة شعر من؟!.. المفترض أن تكون خصلة شعر أمه وليس أي شعر، فتكون(خصلة شعرك). وأي خيط هذا الذي يلوح في ذيل ثوبها في (بخيط يلوح في ذيل ثوبك)؟!. ويلوح بماذا؟!.. ويلوح لمن؟!.. ولماذا يلوح أساسا؟!.. أسئلة كثيرة ساذجة لا أبحث لها عن إجابة. هي إذن صورة في غاية الغرابة والصعوبة. وكل هذا لماذا؟!.. ( عساني أصير ملاكًا.. هل هذا معقول؟! أليكون الشاعر ملاكًا كما يريد، أكان عليه أن يعبر عن ذلك بتلك الصور المُريبة؟!، التي لا تناسب مردود القصيدة أو غايتها أو مضمونها؟!. ويعود الشاعر مكررًا- بوَهنٍ شعري- ( ملاكًا أصير).. متى؟!.. (إذا ما لمست قرارةَ قلبك). أيكون بكل الصور المجازية الغريبة الفائتة قد لمس قرارة قلب أمه؟!..كيف؟ ونلاحظ الانفصام الواضح بين ما قبل( عساني أصير ملاكًا.. ملاكًا أصير) وما بعدها. فمن المفترض أن يكون ما قبلها تمهيدًا ليكون ملاكًا، لكن الشاعر فصل فصلًا تعسفيًّا تامًّا بينهما لأسباب لا يعلمها إلا الله. فهو يطلب منها أن يكون وشاحًا لهدبها، لا أن تكون هي وشاحًا لهدبه، مع تحفظي الشديد على مقولة(وشاح الهدب). وأيضًا يطلب منها أن تغطي عظامه بعشب تعمد من طهر كعبها، وأن تشد وثاقه بخصلة شعر، فربما يصير ملاكًا- بعد كل ما طلبه- بلمسة من قرارة قلبها. ثم يعود ليبدأ من جديد بعد أن مهد لانتهاء القصيدة، فيقول: (ضعيني إذا ما رجعت وقودًا بتنور نارك).. لماذا بعدما يصير الشاعر ملاكًا يطلب من أمه أن تضعه- إن رجع- وقودًا بتنور نارها؟! وكيف؟!، فالتَنُّور هو الفُرن (وليس فرن النار، ولا تَنُّور النار) لكن هاجس إشباع التفعيلات الغالب عند الشاعر يسوقه لصور ومعانٍ ومضامين ملتبسة. أليس من البديهي والجميل والبسيط أن يقول (وقودًا بِتَنُّورك) “وحبلَ غسيلٍ على سطحِ دارِك” (بمعنى ضَعيني حبلَ غسيلٍ … إلخ) لماذا؟ .. “لأني فقدتُ الوقوفَ بدونِ صلاةِ نهارِك”. الشاعر يطلب من أمهِ أن تجعله أو تضعه حبلَ غسيل على السطح لأنه (فقد الوقوفَ بدونِ صلاةِ نهارِ أمِّه). لا أعلم سردًا أو شِعرًا كيف يفقد الإنسانُ الوقوفَ أولًا، ثم [يفقده بدون صلاة نهار أمِّه، (صلاة نهارِها فقط) ]. ثانيًا: أيّ وقوفٍ كهذا ؟ وإذا كان الوقوفُ يُفقَدُ بذلك الشَّكل، فهل يعني هذا أن تجعلهُ أُمُّهُ حبلَ غسيلٍ على سطحِها؟ بمعنى ما دام قد فقد الوقوفَ ، فالأفضلُ لهُ ولأُمِّهِ أن يكونَ حبلَ غسيل..
ثم يأتي درويش ــ رحِمهُ الله ــ بالطامة الكبرى ليضع سطرًا لا محلَّ لهُ من الإعراب ولا من الشِّعرِ ولا من شيء: “هَرِمتُ فرُدِّي نجومَ الطفولة”. فهذا السطرُ يناقض ويضرب معمارَ قصيدتِهِ في مقتلٍ مِن بدايتِها إليه. والتساؤل هنا: هل الشاعر تكبر فيهِ الطفولةُ، وكذا وكذا … أَم هَرِمَ فجأةً ؟ .. إشكالياتٌ معقَّدة في تراكيبِها، لكنَّها سهلةٌ في اكتشافِها وتقييمِها. ويزيدها غرابةً.. (“.. فَرُدِّي نجومَ الطفولةِ .. حتى أُشارِك.. صِغارَ العصافيرِ.. دَرْبَ الرجوعِ لعُشِّ انتِظارِك”) فهل من الطبيعي أن يُطالبَ الشاعرُ أُمَّهُ أن تَرُدَّ إليهِ نجومَ الطفولةِ بعدَ كُلِّ ما قاله؟!
في هذه القصيدة يُبَرِّرُ درويش ( بلا مُبَرِّرٍ)، بعد كُلِّ ما قالَهُ سببَ طلبِهِ من أمهِ أن ترُدَّ نجومَ الطفولة، ذلكَ حتى يُشارِكَ صغارَ العصافيرِ دَربَ الرجوعِ.. عفوًا .. لا لِعُشِّها، ولكنْ لِعُشِّ انتظارِها. حتى تركيبة ( عُشِّ انتظارِك ) ليست مؤنِسَةً ولا جميلة؛ لأنَّ “عُشّ” جاءت مضافًا لِمُضافٍ إليه ( مصدر) وليست مضافًا لمضافٍ إليه ( اسم ).
باختصار.. أرى أنَّ الشاعر الكبير محمود درويش لم يكن مُبدِعًا في هذه القصيدة مِن بدايتِها إلى نهايتها. فهي مجموعة من السطور غير الصالحة للاستخدام الشعري، أو مجموعة من المقاطع المجازيَّةِ الغريبة التي لم نعتد عليها منه، وأظنه هو الآخر لم يعتد كذلك عليها. حاولَ درويش صهرها معًا لِتُكَوِّنَ قصيدةً خالدة بقامةِ قصائِدِهِ الأُخرَيات الفارقات، لكنَّهُ لم ينجح بالنسبة لي وربما لغيري. وأظُنُّهُ قد (قَرَّرَ) أن تكونَ في أشعارِهِ قصيدةٌ للأُم، فعمِلَ (كولاج) لمقاطع كان قد كَتَبَها منفرِدةً ومُستقِلَّةً على فترات بلا رابط، كما يحدثُ لكُلِّ المبدعين، وعندما لم يأتِ الشِّعرُ انسيابيًّا للأُمِّ، أَتَى بِهِ هو تحتَ ضغط. وشَتَّان بينَ الشِّعرِ الذي يأتي طَوعًا، وبين ما نستدعيهِ كَرْهًا وقهْرًا وقَسْرًا.
ولِنقيسَ هذه االقصيدة بمقياسنا الذي نحن بِصَدَدِ تفعيلِهِ، نجد أنَّ المشكلةَ الرئيسةَ، أو المَثْلَبَةَ الرئيسةَ في الضمير الأدبيِّ أو الفنيِّ أو الصِّدقِ الفنِّيّ. فالصدق الفنيُّ أو الأدبيُّ في هذه القصيدة مَعدُومٌ تقريبًا، وكما ذكَرتُ أنَّ قمَّةَ إبداع المبدعين تكونُ في حالةِ تطابُقِ الضمير الإنساني والفني. لكن ” أَحِنُّ إلى خُبزِ أُمِّي ” قصيدةٌ ضميرُها الإنسانيُّ حاضِرٌ بوضوح، وضميرُها الأدبيُّ غائب. وكأنني أزحتُ الضمير للقصيدة وليس لمحمود درويش، وكأنني أقصِد أنَّ محمود درويش هو الجاني في كتابة هذه القصيدة؛ لأنَّ اللحظة، أو اللحظات، أو الشهور، أو السنين (وهذا جائز) التي كَتَبَ فيها هذه الشَّذَرات المُتفرِّقات السالبات، وجَمَعَها في” أحِنُّ إلى خُبزِ أُمِّي” جاءت درجةُ صِدقِهِ فيها ــ معًا ــ صفر% تقريبًا. لكنْ مُؤَكَّدٌ أنَّ كُلَّ مَقطَعٍ، أو كُلَّ سَطرٍ جاءَ بدرجةِ صِدقٍ مُعيَّنة للغرض الذي كُتِب له. فقد يكون بعضها مكتوبًا لغير الأم كما أتصور. لكنَّها أيضًا جاءت فظة وغير مستساغة.
وهَـأنَذَا ــ واللهِ ــ أقرأ قصةَ قصيدةِ ” أَحِنُّ إلى خُبزِ أُمِّي ” أو “إلى أمي” كما أطلق عليها محمود درويش، أقرأها الآن الساعة الواحدة ظُهْر الأربعاءِ الثامِن عشر مِن مارس عام 2020، التي أكَّدَتْ لي مضمونَ نقدِي وقياسي لإبداعِها السَّلبيِّ. فمجرد أن تنتابَ الشاعِر (محمود درويش) أوَّلُ مَشاعِرِ حُبٍّ فيَّاضَةٍ عامَ 1965، أي وعمرُهُ أربعةٌ وعشرون عامًا، تِجاه أُمِّهِ التي ظَلَمَها ــ على حَدِّ تعبيرِهــ لأنه يشُكُّ في حُبِّها له، لأسبابٍ نفسيَّةٍ تخُصُّهُ وَحدَهُ، بتهميشِهِ بينَ إخوتِهِ، والتي ذابَتْ بمجرَّدِ زيارتِها لهُ في السجنِ بخُبزِها وقَهوتِها. هذه المشاعر الفيَّاضَة الجديدة المُفاجِئةُ لهُ والتي هي بمثابة اعتذار لأمه كانت مُربِكَةً لهُ ولإنسانيَّتِهِ، الأمر الذي قد أدَّى إلى تعلِيَةِ مَشاعِرِهِ وسُمُوِّها إلى أقصى درجةٍ، مِمَّا يُؤدِّي إلى درجةٍ كبيرةٍ من التناقضات، التي تتناسبُ مع تلكَ المشاعِرِ طَردِيًّا، والتي بالضرورةِ لن تكونَ في صالحِ الإبداعِ. ويبدو لي أنه بدأ كتابتها بمجرَّدِ انصرافِها بعد زيارتِهِ في السِّجن، فجاء مطلعها وارفًا جليلًا، ثم تصحَّرَت.. ثم حاول وحاول وتوقف وفشل؛ باختلاط تلك التناقضات. فتهرَّأت القصيدة؛ بغياب إخلاص الشاعر الأدبي وصدقه، الذي حال مِن استكمالها -كما بدأها -بالدمِ، فكتبها بالمِداد، على مراحل أراها عديدة.
وبالأرقـــام:
1 ــ المُفرداتُ والألفـاظ 10%
2 ــ الـموسيقى: خارجية: 5%
داخليــة : 5%
3 ــ الجُمَل وتراكيبُها ومعانيها (مُرتبِكة) 2% من 10%
4 ــ الصُّوَرُ والأخيِلة: الكُلِّيَّـــة 5% من 5%
الجُزئيَّة (مُرتبِكة) 1% من 5%
5 ــ البِنـــاء: 10% من 40%
6 ــ الخبــرات: 10% من 10%
7 ــ الغايـــــة: 10% من 10%
وبذلك يكونُ الإجماليُّ = 58% درجة شعرية ( ثمانية وخمسون درجة شعرية من مائة)
وليست أكثر من ذلك كما كنتُ أراها أنا شخصيًّا في وقتٍ سابق.
-ورغم كل السلبيات التي تضمنها تقييمي لهذه القصيدة؛ إلا أنني لا أنكر تفرُّدَ أسطر ثلاثة منها.. نعم ثلاثة فقط.. وهي:
“وأعشق عمري لأني
إذا مِتُّ
أخجل من دمع أمي”
ففيها إبداع محمود درويش الطبيعي العميق السلس المدهش الحصري، الذي لا التفاف فيه ولا حذلقة بلاغية شائهة ولا فذلكة في صور خيالية مُلفَّقة، لا يستقيم معناها المنطقي واللا منطقي كذلك، كبقية الأسطر الشعرية، التي تناولناها بموضوعية وشفافية؛ بحثًا عن حقيقة الإبداع بِحُرية دونما توجس من نقد النقد أو نقد الناقد. فالنقد في عمومه شهادة حق أمام الحق، الذي لا نخشى به لومة لائم. وإن كنت قد استثنيت تلك السطور الثلاثة من القصيدة المذكورة، ومدخلها الناعم الوجيه كذلك(أحن إلى خبز أمي وأخواتها)، فهذا لا يعني أنني راضٍ عنها تماما. حيث أرى إن المبدع الكبير محمود درويش لم يستثمر(المنطقية في لا منطقيتها) التي هي نِصْف خلاصة مفهوم البلاغة، باعتبار أن (لا منطقية الصورة في منطقيتها) هي النصف الآخر. تلك المنطقية التي تحولت إلى لا منطقية في( إذا مِتُّ أخجلُ). وهنا سر التفرد الذي كان على المبدع ألا يكتفي (بخجله من دمع أمه إذا مات). فخجل الابن هنا لا يكفي شعرًا. ودمع الأم على ابنها الميت لا يكفي شعرًا أيضا. وكان لتلك الرؤية الجديدة غير العادية، التي جاءت في بدايات القصيدة أن تتداعى وتتفجر وتتناثر هنا وهناك؛ ليتغير وجه القصيدة وقلبها، لتصبح غُرَّة على جبين وقلب أم الشاعر، التي أراد درويش تكريمها وتخليدها في حياته وحياتها. بل وغرة على جبين وقلب كل الأمهات. ولا أعلم إن كان من حقي أن أخطر القارئ الموقر، بأنني تمنيت وأنا أكتب هذه المقاربة، أن يكون محمود درويش- رحمه الله وطيب ثراه – حيًّا الآن، لأشرُفَ بلقائه أولًا، وأن أسمع رده ثانيا. وأن أسأله عن مُسَوَّدات هذه القصيدة التي أتوقعها- كمراحل كتابتها- عديدة كذلك. والله من وراء القصد.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية