مقاربة بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة المصادف غدا الخميس 16 نوفمبر من كل عام 2023م

بقلم:د /قاسم المحبشي( اليمن )

(النظريات رمادية أما شجرة الحياة فهي مؤرقة عى الدوام) غوته

التجديد جوهر الفلسفة ومضمارها بوصفها الفكر الذي يفكر في العالم وفي ذاتية باستمرار فهي البحث الدائم فيما وراء الظواهر وفيما ما ينبغي أن يكون وليس فيماهو كائن.والتجديد والتغيير والتطور والتقدم والنمو والارتقاء خاصية جوهرية من خصائص الحياة والتاريخ والزمان والمكان، ففي عالم ما تحت فلك القمر، عالم الأرض والإنسان والحاس والمحسوس والفعل والانفعال لاشئ يدوم على حال من الأخوال، فكل شيء في حركة وتحول وتبدل ونمو وتجدد باستمرار وهذه سنة من سنن الكون وقانون من قوانين الحياة والتاريخ. فالنمو هو جوهر الحياة وكل الكائنات الحية تنمو وتنضج وتكبر وتشيخ وتموت وتعود من جديد وتتبدل من حال إلى حال ولا يستطيع المرء أن يستحم بمياه النهر مرتين! وطالما أن الواقع يتغير ويتجدد باستمرار فمن الضروري للفكر أن يتجدد باستمرار. والفلسفة بوصفها أكثر اشكال الفكر تجريدا هي أولى بالتجديد نظرية ومنهجا. إذا هي مثلها مثل أنساق المعرفة الانسانية والاجتماعية والطبيعية بحث في مشكلات العالم وتجاوزها. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. لأن هدف الفلسفة هو معرفة الحقيقة من خلال فهم للواقع وتملكه. أداتـها في هذا البحث عن الحقيقة هو هذا الذي نسميه عقلا. هـذا الذي يسترشد ببوصلة الحدس . لكن ماذا نعني بالعقل؟ إنه “قدرة الفكر البشري على ملاحظة ومعرفة الأحداث بشرية كانت أو طبيعية في ماضيها أو حاضرها والقدرة، بعد ذلك، على التنبؤ بـها”. إذا كان يلاحظ ليعرف ويعرف لكي يكون قادرا على التنبؤ، فمعنى هذا أنه ينطلق، منذ البدء، من الجهل.فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة ابستمولوجية مع الاسطورة وحينما ظهرت الفلسفة الحديثة كانت قطيعة ابستمولوجية مع المنطق الصوري الارسطي. وتجديد الفلسفة ارتبط مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة وبهذا المعنى نفهم مسعى الفيلسوف البراجماتي جون دوي في كتابه تجديد الفلسفة ونفهم مسعى الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود في دعوته إلى تجديد الفكر العربي. إذ أن حاجة الفكر الدائمة إلى التجديد هي حاجة حيوية حاسمة في كل زمان ومكان. أن الحاجة إلى تجديد العقل تنبع من السؤال التالي” ما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لاكتشاف الحقيقة؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟ والجواب هو أن العقل وهو يتأمل ويكتشف المعنى في هذا العالم لا يعود كما بدا سالما غانما بل يغترب في دروب رحلته التعقلية في مجموعة من المفاهيم الكلية هي حصيلة رحلته التأملية تتحول من طول الاستخدام ومرور الزمان إلى أوثان واوهام تكبل حركته وتعيق استئناف دهشته. والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي أشبه بالكشف والانكشاف، وهي بحسب (جان جرش) في كتابه “الدهشة الفلسفية” لحظة مفارقة في حياة الكائن يتفتح عقله لاستقبال إشارات الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة مرتبطة بالماديات أو بالإلهيات، فالإنسان العارف هو الذي يكون مندهشًا من أبسط وأقل الأشياء الموجودة في العالم، لأنه يرى الأشياء بمنظار الاندهاش، وهذا الاندهاش هو الذي يلهمنا لعبة التساؤل وسط غموض المعنى وصخب الحياة وتمظهراتها الحسية الانفعالية. وهكذا تعاود الفلسفة الحضور في كل عصر من العصور. فما الذي بمقدور الفلسفة أن تفعله اليوم في عالم اضحى بفضل الثورة العلمية والتقنية جديدا ومتغيرا بايقاع متسارع فلم يعد الوجود هو الوجود الذي ادهش افلاطون بل صار وجودا افتراضيا أكثر منه واقعيا ولم يعد العالم منقسما إلى ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر بل صار وجودا متصلا. ولم تعد الثنائيات الميتافيزيقية التقليدية قائمة( الذات والموضوع والروح والجسد والفكر والواقع والمادي والروحي والمنطقي والتاريخي الخ) في عالم انكمش في الزمان والمكان وبات شديد التداخل والتواصل والاتصال. شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة على مختلف الأصعدة (الحضارية والثقافية والمدنية)، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً؛ من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة، ووسط تلك الأحداث والمتغيرات العاصفة أخذ العلماء والمفكرون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في الواقع ويدور في عالم جُنَّ جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول. (ينظر، جورج بالانديبة، في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين .. التيه،2000م) أن الفلسفة اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها ومناهجها واساليب تدريسها بما يجعلها قادرة على استئناف دهشته وقول كلمتها فاذا كانت بوما ميرفا اليونانية تطلق جناحيها للريح مع مقدم الأصيل بحسب هيجل ويقصد أن الفلسفة لا تحضر الا في آخر النهار بعد اكتمال مسار العالم لتتعقله وتمنحه المعنى فإنها اليوم مدعوة للاستيقاظ منذ بزوغ الفجر لترى ما يحدث في عالم سريع الايقاع والتغيير. فالأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس والمعرفة هي جديدة وفريدة ونوعية في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه.
أن تجديد الفلسفة يعني فيما يعنيه تجديد اسئلتها وطريقة نظرها واساليب تدريسها
بروح فلسفية جديدة كتب الزهيدي مصطفى” إن ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، وقيمتها، هو تشكيكنا في الطرح الذي يعتقد في كون كل من ولج إلى المدرسة / المؤسسة قد تعلم الفلسفة. وهذا التشكيك نابع من شهادات الواقع، التي تجعلنا نصادف، يوميا، وفي وضعيات مختلفة، طلابا درسوا الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية، لكنهم في كل مناحي حياتهم وسلوكهم، لا يزالون يسلكون ويتصرفون، كما يتصرف بادئ الرأي – الإنسان البسيط في التفكير الذي يسلّم لانطباعاته. وهذا ما يجعل المسلمة، التي تقدم إلينا، بأن تعريف الفلسفة بات واضحا بمجرد ما نقول إنها محبة / عشق / إيثار، ونزوع نحو الحذق، والمهارة، والحقيقة، والحكمة، لا يفي بالغرض. من هنا نكون دائما في حاجة إلى البحث عن تعريف للفلسفة خارج التعريفات الايتيمولوجية والمعجمية والتاريخية الشائعة. بل نكون هنا، في حاجة إلى استيعاب «روح الفلسفة»( ينظر، الزهيدي مصطفى، تجديد النظر إلى الفلسفة بمناسبة يومها العالمي، صحيفة الشرق الأوسط)
أننا إذ نتفق مع تلك الدعوة لتجديد الفلسفة نرى أن مقومات التجديد لا تقتصر على تجديد الدرس الفلسفي الأكاديمي ومساقاته التقليدية بل وتجديد الموقف الفلسفي برمته. واذا ما اتفقنا أن الفلسفة ليست معرفة مكتسبة بل هي بالأحرى فن تعليم التفكير بالعقل والشعور في مشكلات الواقع المباشر فمن المهم إعادة تجديدها بتجديد اسئلتها بما يشبع مشكلات الواقع الجديد. فما قيمة أن يعرف الطالب أن الفلسفة هي ( حب الحكمة) فيلو سوفيا) إذا كان عاجزا عن مباشرة الدخول في مضمارها. وبهذا المعنى كتب مقالي عن البرقاوي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد إذ أن الفلسفة عنده هي حكمة العقل ودهشة الانفعال هي المعنية دائما بتحطيم الأوثان؛ اوثان العقل ذات وذلك بنقدها وبيان تارخانيتها وهذا هو معناها بوصفها قدرة الأنا الواعية على وعي ذاتها إي العقل الذي يعقل ذاته. قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية ووعي ذلك السلوك اثناء الانهماك في تأمل الموضوعات الخارجية” السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري) وحدها الفلسفة هي من ستنطق الكلمات والمفاهيم والمصطلحات والافكار من أين جاءت؟ وكيف ولدت وازهرت في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية؟ ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وازدهار وعلاقة قوة وسلطة وحقل دلالة وفضاء تلقي وحساسية ثقافة وابتسمية خطاب.( ينظر، قاسم المحبشي، أحمد برقاوي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد، الحوار المتمدن) أننا بحاجة إلى فلسفة تشتبك مع مشكلات الوقع لا فلسفة تعيد وتكرار ما قاله الفلاسفة في الماضي. فلسفة تستلهم التاريخ وتتقحم الحاضر وتستشرف المستقبل.
كتب المفكر الأيطالي الجنسية لوتشيانو فلوريدي أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة ورئيس مجلة الفلسفة والتكنولوجيا. أستهل مقدمته لكتاب الثورة الرابعة؛ كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني. الذي قال في مستهل الكتاب ما يلي: ” نحن بحاجة الى فلسفة جديدة للمعلوماتية.. فلسفة تمكننا من فهم واستيعاب التحولات العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفهم طبيعة المعلوماتية ذاتها.. نحن في حاجة الى الفلسفة لنترقب ونوجه الأثر الأخلاقي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات علينا وعلى بيئتنا. نحن بحاجة الى الفلسفة لبناء الإطار الفكري المناسب الذي يمكن أن يساعدنا على إدراك الدلالات والمعاني العقلية لمأزقنا الجديد، وباختصار، نحن في حاجة الى فلسفة المعلومات بوصفها فلسفة تخص عصرنا، من أجل عصرنا”ففي كل عصر من العصور يختار الإنسان نفسه ويضع اسئلته من جديد فالتفلسف هو استئناس البدء يسمي هوسرل كبار الفلاسفة ب ” البادئون الكبار”. أمسكوا الأشياء من بداياتها وهو ما مكنهم من فهم الأخطاء من خلال جينيالوجيتها (نسابتها) التفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية إذ أن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري والشك المنهجي ونقد الجهل المكابر.
والخلاص أننا بحاجة إلى تجديد الفلسفة في النظرية والمنهج؛ تجديد فكري وجداني وتجديد مؤسسي أكاديمي وتجديد ثقافي اجتماعي تنويري. وربما كانت الفلسفة اليوم مدعوة إلى جمع شمل المعنى أكثر من أي وقت مضى معنى الوجود ومعنى الحياة ومعنى التاريخ ومعنى الخير والشر والعدالة والحرية والإنسان والزمان. فرغم ما حققه العلم من انجازات حاسمة في عصرنا الراهن الا أنه يظل عاجزا عن الإجابة بإزاء تلك الأسئلة الفلسفية المتصلة بحياة الإنسان في كل زمان ومكان.

 

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!