الغرباء : الي روح ناجي العلي
فتيان الحي العتيق هنا
على خاصرة الدهشة قابعون
يدخنون سيجارة تلو أخرى
بستلذون بقتل احلامهم على ضفاف
الصمت
كأني بأحفادهم لا يعرفون الهوان
اتهرب عن يدك عنقود السقوط ؟
حين ارتوى الطقس بماء الانتباه
و الفتاة التي خفية غازلتك
تمتد جسرا لعبور الظلال
و الفتى المسكون بالصحوة النادرة
يستضيء بشمع الكلام الأنيق
يكتب شهادته الأخيرة
يحتسي قهوته على عشب المدى
هل يمنحني ضلعه المستميت
لأشهر صمتي في وجوه الذين لم يعلنوا
عشقهم
لصدى الأمنيات
هل بإمكان الفتى ان يكحل عيون النساء
قبل الغروب
حين تلامس ضحكتي ورق العنب
يجيء الولد مجهشا بالأرق
فتيان الضواحي جاؤوا هذا الصباح
ذاهلين لانكسار العواصم…
و الجسد المهشم في جهة ما
يومئ الحنين القابع في خلاياي:
صبايا الحي ارتحلن
و لم لا أحد يمعن النظر في وجوه
الآتين من هناك…
ليس الحرير على مقاس الجسد
و لا أثر لأقدام الفاتحين
على أرض “الخليل”
هذا الطريق الطويل يسلكه الأولاد
مثلما سلكته الشاحنات
دفاعا عن الموت المغاير
وحده يباغتهم بالكبرياء
كان اندهاش الورد ممزقا بين الضلوع
و خلف خيوط النهوض
اعتلى الهمس زوايا الامكنة
أين أصدقاء الطفولة؟
ذهبوا الى حانة بلا قوارير…
هو ذا الولد الذي ادهشته الأغاني
و الثالث من يناير
لم يرتبك حين رأى عطش الاقاليم
كم شاردته الكلمات
و اغمضت جفنيها على ركبتيه فتاة
الضاحية
الصحف اعلنت عن موت العناقيد
بالأمس قال لي: لن تعبث الاغصان بالغد
الاتي
الماء دليل الطيور
الضوء نقيض المقصلة
هنا كانوا قاب قوسين من الزهر
و الجثث القادمة
أين اختفى صوت ناجي؟
و تلك الرسوم التي كادت تصيح:
غداً تأتي أم المعارك
و جاءت سريعا
كأنك لم تكن تودع قبل حين حنظلة
إلى أين الرحيل؟
إلى حيفا٫ حيث تمددت على خصرها قبعات
الجنود الآتين من خيام
الظلال
دمها مسكوب على صدرها
و صمتها ذهبي الملامح
للنوارس دموع مثل تيه المحارب
و القرى. المقطوعة الحناجر لم تضيع
اسراها
و لا قتلاها……
*
” و الفتى المسكون بالصحوة النادرة
يستضيء بشمع الكلام الأنيق
يكتب شهادته الأخيرة
يحتسي قهوته على عشب المدى ”
بمثل هذا القول يخاطب الشاعر والمحلل السياسي والشريد التونسي البشير عبيد روح فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ، وعلي لسان النص فهو – فنان الكاريكاتير – ذلك الفتي المسكون بالصحوة النادرة ، وبمثل هذا القول ايضا يبعدنا الشاعر الشريد بالكاد عن القابه ليقربنا من صفات ناجي العلي في مرثيته الجميلة ” الغرباء ”
” غداً تأتي أم المعارك
و جاءت سريعا
كأنك لم تكن تودع قبل حين حنظلة ”
ابدع ناجي العلي رسوماته الساخرة الي الدرجة التي اقض فيها مضجع العدو ، وهو العدو الذي يحتل ارضه , مما عرضه لعملية اغتيال في لندن عام 1978 . ابدع ناجي العلي في خلق شخصيات مثل حنظلة ابتداء من عام 1969 ليرمز به الي الفلسطيني المقهور في ارضه ” فتيان الضواحي جاؤوا هذا الصباح
ذاهلين لانكسار العواصم… ”
وفيما يتعلق بانكسار العواصم فإنها الإشارة والرمز الي أنظمة عربية اعتراها الوهن والضعف والتخاذل ، وفقدت قدرتها علي المقاومة ، لكن فتيان المقاومة وفقا لتعبير النص نشطوا منذ باكورة الصباح لرفض التخاذل دون ان يقيموا وزنا لكافة العقبات
” هذا الطريق الطويل يسلكه الأولاد
مثلما سلكته الشاحنات
دفاعا عن الموت المغاير ”
ويمثل النص في جوهره تلك المواجهات بين القوة الغاشمة وسبل المقاومة ، حيث يقوم هذا النص بتصدير تلك العلامات الفارقة دون ان يفارقه روح الأسي ، وفي تلك المرثية تظهر العلامات الفارقة جهود المقاومة وكذا العقبات التي قد يتكبدها – وقد تكبدها ناجي العلي – وهو من الذين التزموا باسلوب المقاومة ونتائجها بين رمزي الحياة والموت
” الماء دليل الطيور
الضوء نقيض المقصلة
هنا كانوا قاب قوسين من الزهر
و الجثث القادمة
أين اختفى صوت ناجي؟ ”
فأينما وجد الماء وجدت الطيور ووجد الزهر ووجدت الحياة ، وبينما وجد الظلام وجد الموت ووجدت المقصلة واختفي صدي الأصوات المفعمة بالحياة بعد ان امتلأ المشهد بالجثث , ليقوم النص بطرح سؤاله الهائل : اين اختفي صوت ناجي العلي ، ثم تتوالي الأسئلة , السؤال تلو الآخر
” هل بإمكان الفتى ان يكحل عيون النساء
قبل الغروب
حين تلامس ضحكتي ورق العنب
يجيء الولد مجهشا بالأرق ”
انه نفس الفتي المضمخ بالألقاب .. الثائر . المناضل . المحارب . انه الفتي المسكون بالصحوة قبل ان يحتويه الموت ، لتبقي تحولات المشهد المأساوي في حالة تستقبل فيها اشارات الغروب داخل النص بمعني الموات والشهادة لهذا الثائر المناضل . لقد احتفظ لنا التاريخ بعلاماته قبل استشهاد ناجي العلي وبعده ، حتي انه لم يعد بإمكاننا نسيان وجود هذا الثائر ، وهو الذي لم يعد بقادر علي ان يكحل عيون النساء بوجوده
” صبايا الحي ارتحلن
و لم لا أحد يمعن النظر في وجوه
الآتين من هناك ”
ووجود اشارات تنبئ برحيل النساء انفسهم ومجيء نساء اخر ، يمثل احد العلامات الفارقة بتمثيل القدوم والارتحال في ثوبه الاستعاري بحلول عناصر محتلة غير وطنية ، وقد يهيئ لنا ذلك فهم التصورات المعبرة عن هذا الإحلال ، وهو يمثل بوجود هؤلاء الغرباء الاحتلال في جوانبه الاجتماعية
” اعتلى الهمس زوايا الامكنة
أين أصدقاء الطفولة؟
ذهبوا الى حانة بلا قوارير… ”
يزدحم المشهد بعلامات التغير إذن ، فغياب النساء ونزوحهن الي المخيمات ، يقابله غياب اصدقاء الطفولة ، وهم اولئك الذين قام النص بمتابعة رحيلهم الي حانة لا تشغلها قوارير وفقا للمنطق الساخر .
لم تعد ضحكاته الفتية تلامس اوراق العنب ، وانقضاء الصباح ومجيء الليل لا يمثلان فترة للراحة من اعباء الجهاد كما يشير التاريخ الي ذلك ، فالليل يسلم الفتي المسكون بالصحوة الي الصباح دون ان تغمض عيناه ، فلم يكن هناك وقتا للراحة حتي اتاه الرحيل عن عالمنا
” إلى أين الرحيل؟ ”
والسؤال عن المكان هو سؤال موجع يوجب الأسي ، وبمنطق النص فهو سؤال يبرر ذرف الدموع تحية وتعظيما وسلاما الي روح هذا المحارب
” للنوارس دموع مثل تيه المحارب
و القرى. المقطوعة الحناجر لم تضيع
اسراها ”