نصوص للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي نموذجاً
إذا كان الشّعر ذلك العالم السّرّ الّذي يصعب تفسيره، فالشّاعر هو المبدع الّذي امتزج في هذا العالم وسبح في أثيره إلى غير رجعة. يتأمّل ما يحيط به بدقّة، فيتّجه أفقيّاً نحو الكون ومكنوناته وعناصره. ويتأمّل أسرار هذا الكون وأصوله وغايته وهدفه. فيتّجه عمودياً ليلج العالم الإلهيّ ويستبصر بهاءه. فيكون الشّعر أدباً في حضرة الجمال الإلهيّ. وبالتّالي فالشّعر تصوير لهذا الجمال انطلاقاً من يد الله مبدعة الجمال. فإذا ما كتب الشّاعر كان ريشة في يد مبدع الجمال يصوّر البهاء كتابة.
ولئن غاص الشّاعر في عالم الجمال الإلهيّ، غرق في حبّ الله الّذي لم يعد يبحث عنه. وإنّما يرنو إليه حبّاً، ويتّصل به عشقاً ويكتشف حقيقته هياماً، حتّى تنكشف له الرّؤى ويفيض الحبّ الإلهي ويمسي الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ. وفي حضرة الحبّ، لا بدّ من الحديث عن تجربة حقيقيّة تقودنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان الشّاعر يرى فعلاً الله. فالشّاعر وهوَ في خضمّ المناجاة قد يقول ما لا يُقال، وقد لا يتمكّن من كتمان المكاشفة؛ وذلك لأنّ الحبّ أقوى من الكتمان وأعظم من الإخفاء.
إلّا أنّ نصوص الشّاعر يوسف الهمامي تخلص إلى ما هو أبعد من المناجاة والعبادة، لتخلق خطّاً صوفيّاً يقوده الوحيّ إلى تجلّي الحبّ الإلهيّ في النّصّ، بل إلى جعل الكلمة جسداً يتحرّك داخل النّصّ. فيظهر تفاعل الشّاعر مع الوحي، من جهة. ومن جهة أخرى انقياده التّلقائيّ إلى الإصغاء العميق إلى الصّوت المرتدّ في داخله، الّذي يبلّغ الشّاعر الشّعر. كما أنّه ينكشف ما هو أبعد من العشق في قلب الشّاعر. فإذا كان الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ فلا ريب أنّ الشّاعر عاشق يتفاعل مع عشق يرفعه إلى مقام أرفع:
أنا لا أعشق
إنّما أتلذّذ جمال الله
في خلقه..
وما التّلذّذ بالجمال الإلهيّ إلّا ارتشاف وحي الحبّ والانصهار في تفاصيله، والتّماهي وحقيقته. فنحن هنا أمام شاعر خاضع للشّعر تماماً يُكتَبُ ولا يَكتُبُ. يسمح للوحي أن يتسرّب إلى عمق أعماقه حتّى يعود ويعكس بهائه في القصيدة. يحيا تفاصيل الله ممتلئاً من العشق الإلهيّ. هذا الوجدان المغمور بالحبّ الإلهيّ والمتفاعل معه يعوزه اعتماد مبدأ عشق الإله الشّخص لا الفكرة. ما يدفعنا إلى قناعة تشرح رؤية الشّاعر لله:
أرى الله..
لم أعد أبحث عن براءة الواجهة
دِبْرُ القميص صار مثل قُبُله
(أرى الله/لم أعد أبحث). عبارتان متلازمتان تبيّنان بلوغ الشّاعر قلب الحقيقة. يتعايش معها ويدور في فلكها. ولكن هذا لا يعني أنّ الشّاعر يرى شخص الله، أم أنّ الذّات الإلهيّة انكشفت له. إنّ كيان الشّاعر الهائم في العشق الإلهيّ يبصر الله الشّخص من خلال اتّحاده الرّوحيّ بشخص آخر،ألا وهو المحبوبة. هذا الاتّحاد العشقيّ المرتقي بالكيانين جاعلاً إيّاهماً واحداً. وتبدو هذه الوحدة متجليّة في نصوص الهمامي، وهي تتّخذ خطّ العشق الإلهيّ. وتشكّل درباً للوصول إلى الله، بل إلى رؤيته:
الله غمرني بك
حتى فضتُ بك
..حُبًّا لَهُ
/
أنت دابّة روحي إليه
أعيشك كي أعيش أبدا
تتشكّل الوحدة بين الحبيب والمحبوب بفعل المشيئة الإلهيّة، وتفيض حبّاً يعود إليه. فيحبّ الشّاعر محبوبته بقلب الله والعكس صحيح. ولعلّ هذه الوحدة تنفي حضور الشّخصين ضمنيّاً ليظهر شخصاً واحداً (الأنا- أنت) عابداً عاشقاً لله.الأنا في الأنت، والأنت في الأنا، والأنا- أنت في الله. فيصير الكلّ في الكلّ المطلق (الله). من هنا يمكن للقارئ أن يفهم أنّ الشّاعر يرى الله فعلاً في حقيقة الوحدة. بل إنّه في عمق قلب الله حتّى أنّه يغيب عن ذاته ليتفرّغ لرؤيته وحسب من خلال المحبوبة:
سَجَدَ سهوًا
عندما مرّتْ بباله
وهو يصلي!..
يصلّي الشّاعر بالعشق المتحوّل إلى صلاة، فيسجد إذا ما مرّت المحبوبة بباله. يشير هذا النّصّ الشّعريّ المتّشح بالقداسة، إلى توجّه الكيان بكلّيّته إلى الله. فتغدو الصّلاة في الله وبالله ولله. سجود العقل المستنير (عندما مرّت بباله)، بلوغ الشّاعر مرحلة الصّلاة اللّاكلاميّة (لا أحد يتكلّم، لا أحد يسمع). اعتناق العشق مذهباً لبلوغ ذروة الصّلاة بل لبلوغ النّور الإلهي. الأنا-أنت، مسافة عشق بين الشّاعر والله:
أنت – أنا
لا مسافة بين مُعتكفٍ
وكَلِيمِه..
..
الحروف أنفاس
عند النّداء
يُصلّي الحميم بِحَمِيمِه
نصوص متكاثفة تجعل من الألفاظ لحظات شاعريّة، وليس فقط قصائد وجملاً شعريّة، محققّة رسالتها في الجمال اللّغويّ والمعنويّ المفتوح على المطلق والسّاعي إلى تماهي جميع الموجودات بما فيها اللّغة في ذات واحدة، يدلّ على الوحدة الشّموليّة للكون والإنسان والذّات الإلهيّة.