منال رضوان في ديوانها: أبواب كثيرة لعدن

كتب :دكتور/ ربيع عبد العزيز

أستاذ النقد الأدبي- كلية دار العلوم- جامعة الفيوم
تتعدد مواهب منال رضوان؛ فهي الشاعرة والقاصة والناقدة والصحفية، وقد أورثها تنوع مواهبها ثراء معرفيا وقدرة لا تخطئها عين على توظيف التناص القرآني والرمز الأسطوري في التعبير عن رؤاها ؛ كل هذا أدل على إقبالها على الحياة وحرصها على ألا تكون مجرد رقم.
وفي تنوع مواهبها ما يذكرنا بأعلام جمعوا في كتاباتهم بين الإبداع والنقد، بدءا من طه حسين والعقاد والمازني ويحيى حقي، مرورا بنازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأدونيس وأبي همام وواسيني الأعرج ومحمد برادة. إنها تنهض دليلا على غنى المرأة العربية وقدرتها على أن تسامت ذوي المواهب المتعددة من كبار المبدعين.
” أبواب كثيرة لعدن” أول ما تقع عليه عين المتلقي؛ وهو عنوان يحمل تفاؤلا ويشي بالأمل في إمكانية دخول عدن من أحد أبوابها، ولكن ما إن يغادره المتلقي حتى يباغت بأن الذات – المتكلم في النصوص- يحمل في أعماقه هموم إنسان العصر وما يساوره من الاغتراب والقلق والبؤس والتطلع إلى الخلاص؛ فالمتلقي يجد الإهداء: ” إلى عابر أضله الطريق إلي.. هأنا أمتزج بالظمأ كسراب” يعكس إحساسا قويا بالاغتراب والحيرة وخاصة مع إسناد فعل الإضلال إلى الطريق لا إلى العابر، وكأنما تشابهت الطرق على نحو أفقد العابر قدرة تمييز طريقه إلى الذات الماثلة في الضمير اللاحق بحرف الجر إلى، كما بعث الذات على الامتزاج بالظمأ وكأنما هي سراب لا يمكن الاهتداء إليه.
بل إن المتلقي بمجرد ما يقرأ عنوان أولى قصائد الديوان: ” لغة لم تعد لي” حتى يشعر بأن الذات يتنامى إحساسها بالاغتراب الممتزج بالعجز عن التواصل الإنساني مع محيطها؛ بحيث بدا حديث الذات مع صديقها مجردا من المنطق؛ فالذات تئن من قسوة كلمات صديقها:
“صديقي: مفرداتك قاسية كما الموت.”
ولكن الصديق يبدو غير مصدق قسوة كلماته أو عاجزا عن فهم أقوال الذات؛ ولهذا لا يحاول أن يعتذر، بل يقول:
” أوه؛ كم كنت فتاة لطيفة!”
ولا شك أن الشاعرة تعبر بعلامة التعجب” ! ” عن الكثير مما لم تعبر عنه بالكلمات؛ فقد أودعت في علامة التعجب دهشتها وعجبها من هذا الحوار المفعم بالتناقض.
ومع تفاقم الحس بالغربة يتفاقم الحس بالوحدة والحصار وذهاب الأمن ؛ أصداء هذا كله تتردد في قصيدة رهان خاسر:( )
” الرمية الأولى:
” هب يك”
لتضمن أن تظل بمأمن
تلتحف ببعضك
تُسْقِط رأسك حذاء قدميك
وبين تخوم خارطة الحائط
تتكور وحدك في خانة (…)
موت.”
ومرة أخرى تقول الشاعرة بعلامات الترقيم ما لم تقله بالكلمات؛ فمن خلال التنقيط تمنح المتلقي فرصة تأويل لا محدود لما يمكن أن يحل من كلمات وجمل محل النقاط المحاصرة هي الأخرى بمعقوفتين.
وتعكس بنى الاستفهام التي تبثها منال رضوان في خمس من قصائد ديوانها ما يمور به وجدان المتكلم في النص من القلق والتطلع؛ ففي قصيدة لغة لم تعد لي توظف الشاعرة ستًّا من بنى الاستفهام المتعدد الأداة في استنفاد قلق المتكلم في النص وتطلعاته ورؤيته للأشياء والقيم: ” هل يبدو وجهي الآخر قبيحا إلى هذا الحد؟/ ما غائية الخذلان؟/ وماذا عن الحرية؟ أليست أضرحة رخامية لمئات الخيول؟/ ما تأويل وجهي إذا أمسيت مسخا؟ / أتتسع معاجم اللغة لمرادفات فتاة لطيفة؟ “, أما في قصيدة جاثيا على شفير الدمع فقد وظفت ثلاث بنى استفهامية أحادية الأداة تعكس معاناة جمعية وواقعا بائسا : ( )
” لماذا لا نطرح أوجاعنا؟
لماذا الجبال تنادينا؟
والهواء خان!
ولماذا حين تُفْتَحُ الآفاق
يعود العتم يجثو فوق أكتاف الخيال”
وأما في قصيدة تمرد فقد وظفت الشاعرة اثنتين من بنى الاستفهام تعكس إحداهما إحساسها بلا جدوى البكاء على قديم أطلالنا، وتعكس الأخرى وعيا خاصا بأنه لا جديد تحت الشمس؛ تقول:( )
” فأي بكاء على الأطلال يفيد؟
وأي جديد؟
والشعر بشدقيَّ اجترار الألم
الشعر يا سادتي
امتهان العدم”
إن الذات تواجه أزمة مركبة؛ فهي تتطلع- كما ينبئ عنوان القصيدة – إلى التمرد على السائد وهذا حقها، وهي تعي تماما ألا جدوى من إضاعة الأعمار في البكاء على الإطلال وهذا وعي دقيق يعكس توقا إلى التحرر من السجود الوثني للماضي والتطلع إلى المستقبل، ولكن أزمة الذات تستحكم حين يتصادم نزوعها إلى التمرد ووعيها بلا جدوى البكاء على الأطلال مع إحساسها برتابة الأشياء، وبأن كل شيء معاد وليس ثمة جديد، وأن الشعر على ما فيه من سحر وجمال ما هو إلا امتهان للعدم.
ولا وجود لكلمة الحب واشتقاقاتها في معجم قصائد الديوان، وفي المقابل تشيع في المعجم ألفاظ وتراكيب تتشح بالتشاؤم والانقباض؛ كالحزن، واليأس” تكرر مرتين” ، والخوف، والجراح ، والجحيم ، وعاهرة، واللعنة، والقلب المهترئ، والأقاصيص المهترئة، والهزيمة الجائعة، والمرآة الغائمة، بل إن عناصر الطبيعة تبدو بائسة كأنما تشاطر الذات بؤسها؛ فالأشجار مدممة ، والضوء معتم، والظلال مجعدة، والنجم ينسحب ذابلا، والسماء لا سماء:( )
” وتنطفئ الأماني مثل نجم
كان في حلمي يضيء
ثم ابتعد
نسير على المدى يوما ووهما
والأحلام في كف، وفي الأخرى رماد الشوق
والأمس الذي أدمى
عيون العمر إذ صار الطريق بلا رفيق
لا مكان
ولا سماء”
وكما نجد النجم ذابلا والسماء لا سماء نجد الصباح الذي ارتبط في وجداننا بالإشراق والتجدد والإقبال على الحياة ، تغادره ارتباطاته في رؤيا الشاعرة فيبدو متجمدا قابعا بين الموت، لكن اللافت أنه مع فداحة الحس بالجراح وآلام فقد البَهِيِّ إلا أن الذات لم تتجرد من قدرتها على أن تتعاطف مع الموتى وكأن البَهِيَّ يحل فيهم جميعا:( )
” إلى وردة الصباح القابع بين الموت
وأنتم تزرعون في كبدي هذه الجراح
تمهلوا
لا تنشغلوا كثيرا بألعاب السماء
قد تصادفون ولدي بينكم
أخبروا ” البهي”
أن حضني يتسع لجميعكم.
وعلى أية حال ففي معجم قصائد الديوان تراكيب إضافية وأخرى وصفية لعل ألفاظها لم تتصاحب من قبل: ” / نواقيس العدم/ لقيمات اليأس/ مرثية الأحلام/ قيد انعتاقي/ الضوء المعتم / مرآة جائعة/ دائرة صماء “.
وثمة دوال تتسلط أحيانا على معجم قصائد الديوان؛ ففي قصيدة بلا غد يتسلط دال النسيان على المعجم فيعكس جانبا من رؤية الشاعرة وما يَكْثُرُ إلحاحه على وجدانها بحيث تجد نفسها ميَّالة إلى تكراره سواء أكانت تقصد إلى تكراره قصدا أم كانت تكرره وهي بين الوعي واللاوعي:( )
” النسيان فعل لا إرادي للتطهر
….
النسيان هو غدٌ مدبر
….
النسيان رماد خزفي
يتجسد لعنة
لرفات بغيِّ يلفظها النهر”
ولأن الشعراء أكثر الناس إحساسا بالزمن؛ لذا كان من البدهي أن نجد الشاعرة مؤرقة بثيمة الزمن، مفعمة الحس بفواجعه حتى إنها لترى الوقت قاتلا مأجورا يقصف الأرواح لمن يكتريه؛ تقول في قصيدتها: خبيئة في مدار الليل:( )
” ما الوقت غير فواجع صباحية بلا توثيق

الوقت لا وقت له ؛
إذ يباغتك كقاتل مأجور”
مؤكد أن محنة الفقد تركت بالغ الأثر في رؤيا الشاعرة لا للزمن فحسب، بل للموت بوصفه حلقة أخيرة من حلقات الزمن؛ ولهذا يلح على وجدانها دال الموت واشتقاقاته مصحوبا أحيانا بدال القبر؛ ففي قصيدتها: الأول من إبريل تتمزق الذات أمام الإحساس بالضياع؛ إذ لا قبر لها، ولا الحياة حياتها، وكأن الوجود والعدم سيان في رؤياها:( )
” أبناء الدماء
يمكنني تشبيههم ب “صبية بوذا”
تلك الحجارة في أيديهم
أنعتها بثمار التين
أصنع منها بناء
يماثل قبري
أو قيد انعتاقي
لا فرق.. لا قبر لي
لأهاب الموت
أو ألفظ حياة لم تعد لي”
وفي قصيدة خلف الجدار تُمْنَى الذات بالخيبة حين تتطلع إلى السماء فلا تقطف إلا روحها وبعض الأمنيات العابرة من موت إلى موت:( )
” كلما مددت ذراعي خجلي نحو السماء
لا أقطف غير روحي
وبعض أمنيات
عابرة
كم موت إلى موت”
وفي قصيدة من سفر النكبة تقدم الشاعرة رؤيا غير مألوفة للموتى ومن يدفنهم وفي أي القبور يدفنون؛ تقول:( )
” الناس مآذن
الناس على أرضي كالصلبان
بين صلاة وغياب
أو قرع الأجراس
لا بأس
فليدفن موتانا الموتى
بشعاب اليأس”
هكذا لا يقتصر مفهوم الموت عند منال رضوان على الموت الفيزيقي، بل يتسع لما تتركه أوضاع الحياة من آثار تجرد الأحياء من أرواحهم، وتجعلهم موتى يشيعون الموتى، ويمارسون طقوس الدفن في يأس مقزز حتى لكأنهم خشب مسندة.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!