من أقدم من عرفت من أدباء المدونات ثم الفيسبوك الأردني محمد صوالحة، وهو من أنشط من رأيت كتابة وتعليقا وردودا وحوارا، وله صحيفة تفاعلية في الفيسبوك تحت عنوان (آفاق حرة) يقتطف فيها ما يستحسنه مما ينشر في الصحف العربية من حوارات فكرية ونصوص أدبية. وقد تأخر به الزمن عن التأليف حتى فوجئت به يطل علينا من خلال أدب الرحلة بكتابه الصادر عن دار الغاية للنشر والتوزيع بالأردن في سبعين ومائتي صفحة.
اشتمل كتاب الصوالحة على جولات في مدن عربية لم يكن من بينها ما يصح أن نطلق عليه (مدينة مجنونة) وإن توشحت بكل صنوف الجمال الرباني وإتقان الصناعة البشرية.. لو تحدث عن أدغال إفريقيا، أو تضاريس (بوتان) لأمكن أن نقبل هذا الوصف..
أما أن يصف نفسه بالـ (مجنون) فقد سلم له بذلك أصدقاؤه في (مدونة مكتوب) وفي الفيسبوك فضلا عن معارفه في الأردن.. وقد أثبت في كتابه الذي بين أيدينا شواهد على جنونه؛ منها ممارسته التدخين في ركن من مسجد في المركز الحدودي (المدورة) انتظارا لأذان الفجر، ومنها استجابته لسائق سيارة الأجرة وهو يصوت في موقف سيارات العبدلي بعمّان: الشام.. الشام، فما كان منه إلا أن ركب، ولم يحل عليه المساء إلا وهو في دمشق!
الدول التي شملتها مذكرات الصوالحة هي حسب ترتيب ورودها في الكتاب: مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وسوريا والإمارات والعراق ثم لبنان. وكل هذه الرحلات لم يحدد تواريخ القيام بها، ولا يوجد ما يشير إلى ذلك، ما عدا زيارته للمملكة وتحديدا للمدينة المنورة، فهي حدثت إبان اجتياح صدام حسين لجارته الكويت.. ومعظم الزيارات تمت بدعوات خاصة من أصدقاء بعضهم عرفهم من خلال الفيسبوك.
يبدأ الكتاب برحلته البحرية من العقبة إلى نويبع ثم إلى مصر وعاصمتها القاهرة فيمر بجوامعها وأزقتها التاريخية وأسواقها التقليدية معرجا على أهراماتها وحارسها أبي الهول، ثم فسطاطها ونيلها. ومن ثم يزور الإسكندرية زيارة خاطفة فلا يخرج منها إلا مفتونا بشطآنها وآثارها الفينيقية.
أما الأردن فيزور مدرسته في السلط ويسترجع ذكرياته مع زملائه ومدرسيه، ثم ينهي جولته في سوقها وشوارعها. وحين لم يجد ما يعبر به عن حبها استعان بقصيدة الراحل سليمان عويس:
سلطي أنا وحاكورتي فيها الشجر هالطول
ومسيجة لوز وعنب والفستقة هالطول ص58
وفي طريق العودة يتوقف في البتراء، ويتجول في المدينة الوردية يستنطق آثارها وينادي رموزها.
وفي سوريا ينقب عن التاريخ في الجامع الكبير، وسوق الحميدية، ويجذبه المسرح، ترافقه في جولاته السياحية فتاتان سوريتان كانتا من ضمن ثلاث رافقنه في الرحلة البرية من عمان إلى دمشق.
في المملكة كانت الرحلة للمدينة المنورة، وكان مرافقا لوالدته ضمن قافلة مرت بمعان وتبوك وتيماء حتى وصلت إلى الحرم النبوي الشريف، حيث بادر بالصلاة في المسجد النبوي، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتيه، وتحدث عن المزارات المعروفة: ثنيات الوداع ومسجد قباء والمساجد السبعة ومقبرة شهداء أحد.
أما في الإمارات فكانت الرحلة إلى الشارقة وعجمان، عبر عن هيامه ببحيرة خالد والسوق الإسلامي الكبير وقناة القصباء وحديقة المجاز.
وفي العراق لم يتجاوز شارع المتنبي وشارع الرشيد وكأنما أغنياه عما عداهما. وفي لبنان قضى معظم أيامه خارج العاصمة وخاصة الجنوب بدءا من الضاحية الجنوبية وانتهاء بصيدا، ثم شمالا إلى جبيل ومغارة جعيتا التي يفضلها على الأهرامات لأن هذه معجزة إلهية وتلك هندسة إنسانية.
أجمل ما في الكتاب صياغته بأسلوب روائي واستطراد أخاذ. يبدأ فصل (على ضفاف النيل) بقوله: «أي شعر هذا الذي يلقيه النيل على الأرض فتنتشي وتزهو بثياب الفرح، وأي نظرات يرسلها النيل إلى التراب فيخضر ويزهر، وأي غناء وأي تراتيل تهديها الأرض للنهر المقدس فيتقبلها منها ويهبها الحياة بطهارتها والربيع القادم». ص43
ويبهجنا حين يستنطق ما يراه من رموز للحضارة، فحين يخرج بعد زيارة الأهرامات وأبي الهول يحدث نفسه بعد أن انتهى من حديثه مع رموز الحضارة: «تركوا لنا إرثهم ومضوا للخلود على أمل أن نكمل المشوار فخذلناهم. والسؤال الذي يتردد: هل يحق لنا الانتساب لهم؟». ص39
وعروبة الصوالحة متجذرة، تخرج على شكل عبرات يسحها لما يرى من أحوال الأمة العربية وتقييدها حركة العربي وهو يتحرك من قطر عربي إلى قطر عربي آخر. بل في داخل القطر الواحد كما شاهد في الجنوب اللبناني حيث احتاج الدخول إليه لتصريح خاص! إنه ليحسد الطيور على حريتها، بل يتمنى لو كان طائرا: «آه ما أسعد الطيور وما أشقى الإنسان. أي حرية هذه التي يدعيها، وهو إما حبيس الفقر أو سجين التأشيرات التي يُسمح لك من خلالها دخول أرض شقيق أو بيت صديق». ص11
وفي العراق يستصرخ الحَجّاج: «كل الرؤوس هنا قد أينعت ولا تجد من يقطفها. وحدك صاحبها يا بن يوسف. الأمة قد تبعثرت ولا غيرك من يوحد صفوفها. الخوارج أيها الثقفي الأبي قد انتهكوا حرمة بغداد.. هتكوا سترها ـ والكل من بعيد يعيد تشكيل بغداد الجديدة. كلهم مستعد لفتح البوابة الشرقية لأبي لؤلؤة». ص201 وفي رحلة السلط يسأل أباه عن العدو الصهيوني بخبث: «يا أبي: لمَ تسمونه عدوا وقد وُقعت الاتفاقيات وأصبح جارا؛ أردنا ذلك أم أبينا. أصبح صديقا يستثمر الأرض والإنسان». فيرد أبوه: «يا بني: السلام المزعوم سلام حكومات، وليس سلام شعوب، وما لم يقرره الشعب أبدا لا يدوم». ص66 ولكاتبنا رؤية خاصة وفلسفة، فحين يجدد جواز سفره في ظرف ساعة من الزمن يتساءل متمنيا: «وخلال ساعة من الزمن كان عمر جوازي يمتد لخمس سنوات قادمة. آه لو أن عمر الإنسان يتجدد كجواز السفر». ص12 وحين رأى الطاووس في مزرعة في لبنان قال: «كرهت الطاووس جدا. لا يلتفت لشيء.. يتجول في قفصه وكأن لا أحد بجواره ينظر إليه.. يمارس غروره حتى وهو سجين القفص». ص246 وتأخذه العاطفة الدينية فينفعل حين يرى ويسمع العوام يدعون (زينب) عند مقامها بأن تشفي مرضاهم، فيتجه لإمام المسجد يعنفه.
هذه العاطفة الدينية المغروسة في قلبه هي التي سهلت له الاستجابة لأمه حين طلبت منه مرافقتها للمدينة المنورة: «يا بني تعرَّف على من أحبك دون أن يحتاجك بل دوما أنت من يحتاجه.. تعرف على من هو دوما كما تظنه.. تعرف على من وسعت رحمته كل شيء. اقترب من النور.. اقترب من الله جل في سماه». ص85 ولدى كاتبنا عشق للأردن؛ ولعمّان خاصة يصل به إلى حد الهوس، فرغم ابتهاجه بالمناطق التي يزورها واستمتاعه بها إلا أنه لا يعدل بعمان شيئا. يجيب رفيقته الفاتنة في الشارقة حين سألته عن عمان: «عمان يا أخية تزهو بعباءات الفرح الأخضر دوما.. عمان النقاء والصفاء.. عمان بدونها لا قيمة للحياة ولا معنى للوجود.. عمان يا توأم عمان؛ إن ابتسمتْ أزهر الكون وتألق وانتشى، وإن غصتْ بدمعتها توقفت الأرض عن الدوران وامتنعت الشمس عن الشروق». ص156.
الجزيرة السعودية
الرحاله فى عالم الابداع محمد صوالحه له منا كل التقدير والاحترام
شكرا جزيلا اخي الشاعر المبدع أيمن اسماعيل
خالص محبتي