بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة
توطئة:
يتحرك الشاعر الزجّال (رشيد جوبير) في دوائر الزجل من زاويتيْن: تتعلّق الأولى بنوعية الصوغ اللهجي لفن الزجل، من منظورٍ اختياريٍّ قرر فيه الزجال (رشيد جوبيْر) الدخول إلى قلب منظومة شعبية تعجّ بالغثّ و السمين، وتطرح أكثر من سؤال في أزمنة الجودة و الرداءة، وتقدّم ذاتَها إلى الساحة الفنية المغربية في لبوس الخدعة الفاتكة حيث يتجلّى بعضُها ماسكاً وهمَ الزجل باعتباره مطّيةً سهلةً بحكم صياغتها بآلةٍ لهجية تمتح مفرداتِها من خوابِي العاميّة. و قد اختار الزجال (ر ج) هذا التحدي معلناً عن تميّزه في نظم فن الزجل، برؤية فنيّة واضحةِ المعالم، و بيّنةِ الخصائص، و ضارِبةٍ في عمقِ الإبداع، و قادرة على طرحِ أسئلتِها الوجودية المُمِضّة و الشائكة، بعيداً كل البعد عن استجداءِ المفردة اللهجية على أعتابِ رداءَةٍ مسترخيةٍ على أرائكِ التكسّب الباهِت، حيث التطبيلُ الأخرس لشيءٍ آخر غير الفنّ.
و تتعلّق الثانية بمفهوم الرسالة التي يؤمن بها الزجال (رج) باعتباره كائنا ينزح من عوالم الشعر محمّلاً ببوصلة تمكّنهُ من التقاط التحولات الممكنة في الحساسية الشعرية\الزجلية، و تمكنه من وضع بصماته الخاصة في قلب الساحة الفنية والثقافية المغربية، حتى لا يتكرر المبدع (رج) في ابتذالِ المألوف و إسفاف الشبه و التكرار و النسخ.
و نقصد بالرسالة هنا مقصديْن: واحدٌ يتعلّق بمنظومة القيم، و ثانٍ يرتبط بعوالمِ الفنّ. و في كلا الشّأنيْنِ يكون الزجال (رج) واحداً من المبدعين الّذين لا يلقون بالكلام في ظل شعارِ (قل كلمتكَ و امْشِ) بقدر ما يلقِي ببعضِ روحِهِ في أتونِ ساحةٍ ثقافية مغربية أصبحتْ تتنكر لقيم الجمال والحق و الخير، في جلّها أو في بعضِها، أو في سهْوِها أو في إرادة خارجيةٍ تكيدُ لها أو ما جرى مجرى ذلك من إكراهات هي في آخر المطاف ممارسات لها انتصارُ موقعة وليس لها كسبُ المعركة، في عمقِها الوجودي الآيلِ إلى انتقاء الأقوى والأصح و الأجدر، الّذي يؤمن في غير هوادة برسالة الشعر\الزجل القيمية والفنية.
- المقاربة:
الإنسان و القيمة:
يقدم الزجال (رج) عمله الفني الأول بوسمٍ فنيّ ماكرٍ عبر عتبة العنوان (عْلى شْواربْ الْحالْ)1. بسخرية سوداء تضحكُ من مفارقات الوقت وتدين تغوّلَه النّزِق، و تشجبُ في صوغٍ زجليٍّ خاص وجهَ الزمان المتقلّب. و قبل أن تقترف الجمال في هذا و ذاك، دلفتْ إلى باب الإنسان و قبّلتْ جبينهُ في اعترافٍ جليل عبر حرفٍ أجلّ.
و هنا استطاعتْ بوصلة الزجال الفنية أن تقدم مقولة الإنسان مزخرفةً بحروفٍ قوية، هي المدخل الذي نفهم به الديوان، و كذا نفهم به رؤيته الزجلية الممتطية صهوة اللهجة المغربية المعجونة في ثنائية الحرف المحلّي (المرڭد) و الحرف المستلهِم لغة الضاد في غير ليٍّ لأعناق… إنْ هو إلّا تطويعٌ ذكيٌّ لمفرداتها في بنية لهجيةٍ مغربية تنقل السامع والقارئ إلى فضاءات القصيد عند الزجال (رج)، و تحرك فيه مجموعة من الأسئلة العاقّة للرتابة و الاسترخاء و الثبات. و تحرك فيه أيضا ذلكم الفضول الأدبي في الولوج إلى عالم (رج) الزجلي لاجتناء ما لذ و طاب من حكمة المقال.
يمثل الإنسان في هذا الديوان قضية الشاعر\الزجال الكبرى، و يبدأ من حيث البداية تكون، و لا يلين فيها و لا يجعل حرفه المحلّق يستكين. ويدفع بالقول الدّارج إلى تخوم الحدود الممكنة و القابعة في سديم المعنى. يرجّه رجّاً و يعرّيه في انزياحاتٍ تفضح الدلالة و تحرِجها و تنزع عنها ورقة التوت البلاغية، لأن المقام مقام حق و جمال. من ثمّةَ يطلع علينا الزجال (رج) شاهراً قوّته الإبداعية في رسم المطلب الوجوديّ الموشّى بالمطلب الفني.
قال الزجال:
حتّى أنا إنسان
و بْغيتْ نْبوح لْهاد الدّات
حقّي في الضّوْ
حقّي ف الضلْ
و حقّي ف السْكاتْ
حقّي ف الْمَا
حقّي ف السْما
و حقّي ف الحياة – الديوان، ص 15
- باب الإدانة:
يرسم الزجال (رج) الإنسانَ داخل رحميْن، هما رحم الإدانة و رحم الإبانة. في الأول يبدو الشاعر قلقاً من سلوك الإنسان، و لكنه عوض أن ينجرّ إلى عمليات التشخيص السلبية لواقع الحال، و الموسوم بالبكائية الرومانسية الهاربة، يختار الشاعر في تعقّلٍ شديد أنْ يحول الإدانة إلى بُؤرِها البانية، في نضجٍ رؤيويٍّ يدين في غير انهزامية، و يشجب في غير نكوص. قال الزجال:
لعْجبْ أسيدي لعجبْ
حتّى كْلامْ النّاسْ
فيهْ لحْرشْ ؤُ فيهْ الرْطبْ
فيهْ المعنى فيهْ إحساسْ
بْنورو يلمعْ بْحال الدْهَبْ
ترتمي الصياغةُ الزجلية في أتون المعنى من باب التلميح لا من باب التصريح. و تلتقط علامات التشخيص في بعدها الحريري لا في بعدها الخشن و المُدين… فتصبح الإدانة بذلك معالجة راقية عوض أن تكتفيَ بالتشخيص المتشائم. فأصل القول هنا هو كراهية التقلب في الناس عبر كلامهم المنافق، و لهذا ارتأت حساسية الشاعر الزجلية أن تداعب الإدانة على أن تفضحها، و في ذلكم ملمسٌ رؤيويٌّ يرتقي بالزجل من مجرّد كلام دارجٍ إلى رؤية فنية تقترف الجمال من أجل بناء تصور خاص للوجود عبر آلية الشعر اللهجي.
و الإنسان في زجل (ر ج) ذو حق، و الحق أولى أن يُعتبر. ذلك أن رؤية الشاعر للإنسان رؤية متكاملة، لا تُجزّئُ فيه حقّا دون آخر. إنها رؤية شمولية متكاملة تعزف على كل الأوتار، صغيرها و كبيرها، ليؤديَ النغم الزجلي وظيفته أداءً حضاريا بحق، يرسم الإنسان رسماً لا يقبل بالتشطير وبالتشظية:
حتّى أنا إنسان
ؤُ بْغيتْ نبوحْ لهادْ الدّاتْ
حقّي ف الضوْ شْعا
منْ نُورانِياتْ… الديوان، ص 15
و يتابع الشاعر سرده لمجموع أنماط الحق و أضربه: (حقي ف الضل، حقي ف السْكاتْ، حقي ف الما، حقي ف السْما، حقّي ف الحياة). و مادامَ الشاعر هنا لا يحضر بقبعة المتكلم المفكر و الحقوقي، و إنما بقبعة الفنان، فلا يمكن أن نصدر أحكام القيمة على سرده اللهجي لهذه الحقوق من باب النقاش العلمي و الفكري، لأننا في مقام الجمال لا في مقام المعرفة، والقياس فيهما مختلف تمام الاختلاف، لأن الأول زئبقي في حين أن الثاني قابل للمقيسة. من ثمّة لا يحق لنا وضعُ الشاعر في منابر المساءلة عن طبيعة الحق بقدر ما نحن مدعوون إلى الإشادة بنبشه في مسألة الحق من زاوية شعرية زجلية ترسل فكرتها محلّقة في سماوات الإبداع مثل طائرٍ جميلِ التحليق و عسيرٍ على إمكان القبض.
- باب الإبانة:
أما رحمُ الإبانة فهو الرحم الواسع و الرحب في انثيالِ القصيد (الجُبَيْرِيّ)، يضمّنُهُ كثيرا من زجلياته وعياً منه بفن الكتابة الزجلية. وفي هذا السياق لا يتوقف الشاعر عن الإنشاد…
لنتوقّف لحظة عند محطة بعنوان (شِي كْلامْ) و لنستمعْ إليه يقول:
كنتْ داسُّو كنتْ كاتْمُو
ف اعْماقْ الرّوحْ
و جا عْلى بالِي يا بالِي
لو تصْغَى لِي…
لو تقْرانِي لُوحْ… الديوان، ص 45
و الزجلية هذه، لا تقف عند هذا الحد المورفولوجي بل تتعداه إلى ستة مقاطع يلخص فيها الشاعر مشروع رؤيته الشعرية التي لا تني تبين عن شكلها الفرحان بالوجود و الحياة و الماحول. من ثمّة قدرة زجلياته على رسم المعنى في اتجاه الضوء حتى يتم لكل قارئٍ الإحاطة بتلاوين الذات الخازنة لمادّة المحبّة. و من ثمّة أيضا نفهم دعوة الشاعر قرّاءَهُ إلى أن يقرؤوه باعتباره لوحاً مفتوحاً.
إن اختيار هذه المفردة اللهجية (اللُّوحْ) هو مكرٌ من الشاعر بعمق وجداني وشعبي منغرس. فاللوح مرتبط بالطقس الديني أولا، في إحالته على النبي موسى عليه السلام (و ألقى الألواح) 2، و في ارتباطها بالاستمداد السماوي، و كأنّ الشاعر يبحث عن مباركة ربّانية تشفع لحرفه بالسريان والتأثير. واللوح، أيضاً مفردة تدخل في نسغ ثقافتنا الشعبية و هي تضع أمامنا ذاكرة متجذّرة نرى فيها الطالب يحفظ سور كتاب الله على صفيح (اللّوح) بإشراف فقيه المسيد، و من ثمّة نفهم حضور هذا الجانب لتكريس فعل الذاكرة وترسيخ منطوق الزجل (الجُبيْرِي) داخل الثوابت الشعبية حفظاً من الضياع و حفظا لهذا الوجدان.
و اللوح أيضا يحيلنا على طريقة شعبية في بناء الحائط في بعض مناطق الجنوب المغربي حيث يُعجن الطينُ بالتبن للحصول على خليط يشبه الإسمنت، يوضع بين خشبتين هما (اللوح) ليحصل الأهالي على جدار متماسك يتمتع بالقدرة على التكيف مع أنماط المناخات المختلفة. و في هذا التأويل البعيد ندرك رغبة الشاعر في تأصيل حرفه الزجليّ داخل مقولة الأصالة الماتحة من عمق الدين و التراث الشعبي.
هنا، و تحديداً هنا، نفهم مراوحة الزجال (رج) حرفه الزجلي بين المفردة المُغرِقة في المحلّية و بين المفردة المُشَذَّبَة داخل حقول العربية التركيبية.
و في حقل الإبانة الدلالي يروم الشاعر، لا فضحَ الذات، بقدر ما يروم تشريحها في لطفٍ زجليٍّ يكشف عن طبيعة النفس المنبثقة من رحم الزجل الباني ذاتَه داخل ترنيمتيْن:
ترنيمة الجسد القاصر و ترنيمة الروح العالية، بعيداً عن الدجل و(البوهالية) الرخيصة. إن انشداد الزجال (رج) إلى مقولة الروح هو تأويل للزجل الراغب في تجاوز النسخ و التكرار و الشبه، و يتم ذلك انطلاقا من تهريب المعنى إلى عمق الروح كي تشعّ في الجلالة و الرمز و البعد:
ؤ جا ف هْواسي
داعبْ احساسي
ف غرقْ انفاسِي
ف اعْماقْ الرّوحْ – الديوان، ص 45
على أن هذا السفر بالزجل إلى عوالم الروح، قد يقرؤه قارئ داخل أفقٍ عائمٍ يفتقر إلى آليات الضبط و الاشتغال. و أنه كلامٌ مرسَلٌ على عواهنه دون قيدٍ أو شرط. يدرك الزجال (رج) هذا النقاش في داخله، فيسرع إلى ضبط المسألة داخل مقولة الكتابة الواعية. قال:
ڭُولْ بلْسانك ؤ سْرح بخيالكْ
و تْكون المعنى اجْميلة ناصعة – الديوان، ص 53
الكتابة الزجلية مقام إبداع غير متسيّب، بل هو مشفوع برؤية فنية تعرف أين تضع حروفها و كلماتها و عباراتها و انزياحاتها… من هنا يضعنا الشاعر وجها لوجه أمام نظرتِهِ للإبداع اللهجي القائمة على توظيف الخيال في عمقه الدلالي في غير غموضٍ أو غرابة. مما يسم الكتابة هنا بميسم الخصوصية والبصمة الذاتية (ڭولْ بلْسانك)، أي: لا تقلْ بلسانِ غيرك. يحرص الشاعر على أصالة القول ضدا في تبعيات القول على أنواعها المكتسحة للساحات الزجلية، و للعلاقات بين الزجالين.
تخرجنا رؤية الزجال (رج) من طريقة صوغ المعنى إلى اختيار فلسفة للحياة، أو على أقل تقدير، اختيار موقف فلسفي. و هنا الإبانة من التنظير إلى التظهير، و أول مقامٍ قيميٍّ يرجّه الشاعر رجّاً هو قيمة إبانة الصدق وإدانة النفاق. قال:
ويلا كانتْ لمْحبّة الصّادقة بْحق ؤ تحْقاقْ
عْلى وجهْ المرضِي تاتْبانْ شارْقة
ؤ منْ طِيبْ الأخْلاقْ… الديوان، ص 69
قد يقول قائل إن هذا المعنى مستهلك و شائع و مطبوخ طبخاً مملّا. ونقول مع صاحبنا نعم. و لكننا نقول أيضا إن طريقة الصوغ و الرؤية لا تتكرر عندما يدخل المعنى في قنوات الذات. إنه يخرج جديداً موسوما ببصماتها، مختلفاً بائن الاختلاف، و مضيفا إلى الذائقة الفنية شيئا لا يمتلكه الآخرون.
إن دعوة الزجال (ر ج) مثلا إلى الصدق هي دعوة لا تكرس الصدق باعتباره قيمة متعالية بل باعتباره قيمة قابلة للإجراء انطلاقا من انعكاسها على وجه الصادق، و انطلاقا من تحوّلها إلى معبر فني لتكريس فعل المحبّة. و ثالثاً، يوردها الشاعر داخل مقولة الفكرة والنقيض، الصدق في مقابل النفاق: (ما نرضى بسمة زاهْقَة مْلبسْها نفاقْ).
هكذا تمارس القيم حضورها القويّ في ديوان الزجال (ر ج) فلسفةً يغمِسها في حبر اللهجة و يعجنها في بؤرِ الدارجة المغربية مرتفعةً من مقام الاتصال اليومي إلى مقامات الإبداع اللهجي القائم على استنفار الحرف و الكلمة و العبارة لنسج القصيدة الزجلية (الجُبيرية) المتطلعة إلى الفن عبر رسالِيَتِها العميقة.
لا يسعنا في هذا المقام المتعجّل أن نحيط بمنظومة الإنسان و القيم إحاطة شاملة، بقدر ما يسعنا التدليل عليها بأمثلة هي الشجراتُ التي تخفي الغابة. و سنذكر من هذا الفيض قيمة أخرى لإنسانٍ آخر ثاوٍ في الديوان و في رؤية الشاعر. و يتعلّق الأمر بقيمة النسبية باعتبارها قدراً بشريّاً يرسل شفراته إلى الخلق كي يتجرعوا من حكمة الموت جرعات قوية ومفيدة: (الحال بدّالْ ؤ الدّور فيه مْقدّر و موزون) في صياغة زجلية لا تكرر الموروث الشعبي في شخص عبدالرحمن المجذوب، و إنما تؤسس لذاتها مسرحا زجليا يعوم بزعانفه الخاصة في بحور الزجل العام. ويستدعي ذلك قيماً أخرى مثل التواضع و الكرم و الاستقامة و الاهتمام بالجوهر…
و الجميل في هذا الصوغ أن الشاعر يستحضر القيم الإيجابية داخل نقيضه استحضارا ساخرا آناً و واصفاً آناً آخر و لامزاً في آنٍ ثالث. مما يجعل البناء الشعري هنا منسجما مع دلالات العنوان (عْلى شْواربْ الحالْ) في شخصنةٍ ماكرة للزمان\الحال، و هو يمتلك شوارب وقورة لم تنج من ضحك اللغة الزجلية و سخريتها الواصفة و البانية و الهادفة.
- باب الحكمة:
الزجال (ر ج) و هو يبني عالمه اللهجي لا يخلو قوله من حكمة، و لا يني لسانه يلهج بشتى المواضيع دون أن يلتفت إلى مقولة الحكمة، سواء باشرها لفظاً أم صاغها تلميحا. قال:
الحكمة فاينْ ؤ لمزية فاينْ
و حْلاوة الأصل ف طيبة الروح
ما هي نخوة للدّات المنفوخة
الحال بدّال و كلها و حالو
و رغم ذلك، فالشاعر قد تعامل مع هذا المعطى بطريقتين: تصريحية وتلميحية. و الأخيرة سدّتْ مقامات كثيرة من الديوان، ارتأت حساسية الشاعر أن يكون اللمز خطابا انزياحيا يمكر بالقارئ عبر البيان المجنّح لا عبر البيان الواضح. من هنا تخلّقُ الصورة الشعرية الزجلية في الديوان.
بيهْ صارتْ الفتنة داوْية علْ لحسيفة ناوْية
برابوزْ العار تشعل النّارْ
و هذا مثالٌ غيضٌ من فيض، يلمح فيه الشاعر بطريقة بيانية قوية إلى مغبّة اقتراف العار في العلاقات الإنسانية المدعوة إلى الوضوح والشفافية.
و الانزياح قائم على توظيف الأداة اليومية (الرابوز) التي تدل عربيا على المنفاخ، و التي يخرجها الشاعر من صميم الاستعمال اليومي المطبخي او المنهي إلى وظيفة الإدهاش الشعري الواقف على تخوم الحكمة المتخيلة و القاضية بإحراج المعني بالأمر.
و هنا يتحول الكيرُ إلى أيقونة زجلية تقضّ تقضّ مضجع المألوف والعادة القاضية بشرعنة الفتنة و تغولها إلى إدانتها و وضعها في قفص الاتهام، ردّاً لمائها إلى مجراه الصحيح حتى تنتقل من حالة الإبانة إلى حالة الإدانة. و هنا يقع التناص مع نص الفتنة النائمة.
و من ذلك حكمة أخرى تمثيلاً لا حصرا:
ڭالو اللسان من شرّو غلّابْ
صدّقْني يا السّامع… الوقت كلّابْ
و الوقت في منظور المخيال الزجلي (الجبيري) يدٌ تقلّب البشر كيفما شاءت و ارتأت. مستمدةً قوتها من ضعف البشر الذين يستسلمون لفعل اللسان الحامل للشر. و الغلبة هنا تأتي تتويجا لهذا الانزياح القوي، باعتباره مبدأً لنهاية. فاللسان يبدأ صغيرا بإشارة أو إشاعة ليتحول إلى قوة تمتلك الإرادة و تسيّر بها الوقت كله، لا البشر وحدهم.
- الختم:
هو ذا رشيد جوبير، و هو ذا زجله، و هو ذا ديوانه، لا يتمرّغ على أعتاب المقولات الموجودة ليطلب ودّها، و إنما يصوغ عالمه الشعري الزجلي بمصداقية فنية تعوم في بحور الصدق. و بلغة زجلية تمزج المحلي بالعربي في غير إسفاف و في غير ابتذال. تنال حظها من شعرية المقول عبر التركيب اللهجي المتماسك، و عبر البناء الانزياحي المغامر و العامر بلحن الإدهاش، و تنال حظها من قدرة اللسان الجبيري على السخرية من الوقت و من سلوكات الوقت المنحرفة، يدينها و يصحح مساراتها انطلاقا من إيمانه أن الزجل رسالة و فنٌّ و تحليقٌ بمخيالٍ جيّد، يفصل بين الزجل و الكلام العادي، و يبني المسافات الشعرية بين التداول اليومي و الشعر، و يؤسس للغةٍ زجليةٍ لا ترضى بالقريب و إنما تتغيّى البحث عن البعيد في المعنى و الدلالة و الرمز.
…
نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب
إحالات:
1 – رشيد جوبير- اعْلى اشْوارب الحالْ- ديوان زجل- الإيداع القانوني 2022MO0370 – الطبعة الأولى 2022
2 – سورة الأعراف – الآية 150