قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي
– النّصّ:
عليك أن تنطق الآن
عليك أن ترتكب ما طاب لك من خطيئة
في حقّ هذا الصّمت
..
الخطأ لم يكن هناك..
كان في الطّريق الّتي كانت
على صواب..
(يوسف الهمامي)
– القراءة:
تسيطر الآنيّة اللّحظيّة على هذا النّصّ الّذي يكاد يُخرج الشّاعر عن الزّمان والمكان. فيمنح القارئ انطباعاً أنّ الشّاعر سابق للّحظة، ومنغمس فيها في الوقت عينه. وما حضوره السّابق للّحظة إلّا انتظار صامت ليكون ما ينبغي أن يكون.
تبدو لنا من السّطر الأوّل مهمّة الشّاعر الرّسوليّة أو النّبويّة. فمن يملي عليه هذا التّحرّر من الصّمت؟ وإلام يصغي الشّاعر أو إلى من ينصت بترقّب طائعٍ؟ (عليك أن تنطق الآن) عبارة مملوءة بما بعد الحضور، وما بعد القول. والآن الّذي يمثّل اللّحظة الجامعة لتاريخ الشّاعر، يحمله إلى إبراز هذا التّاريخ وإعلان المسكوت عنه. وكأنّي بذلك القائل وحي يفكّك صمت الشّاعر، ويحلّه من العبء الّذي يؤلمه. تحتجب في هذه الجملة لغة الأمر بل الطّلب، لكنّها أشبه بلغة تفاعل بين الوحي والموحى له.وتبرهن عن لقاء لحظيّ خاطف يحافظ من خلاله الشّاعر على صمته لكن من جهة الطّاعة بعد فترة إصغاء كامل، وانتظار ومكوث في دائرة النّور حتّى يحين وقت النّطق، أي الإعلان.
كأنّي بالوحي يعلّق آمالاً كبيرة على الشّاعر فيطلب منه النّطق المساوي للوحي ذاته. بمعنى أنّ الشّاعر استحال إلى حالة وحيٍ لا تنقل الوحي وحسب، وإنّما مماثلة له (عليك أن تنطق الآن/ عليك أن ترتكب ما طاب لك من خطيئة). لذلك لا نسمع إلّا صوتاً واحداً في القصيدة مع العلم بوجود شخصين، القائل والمصغي له.
تتكرّر عبارة (عليك) مرّتين لتعبّر عن صداقة بين الشّاعر والوحي، بل تماهٍ وانصهار عجيبين. فلا نرى لهجة أمر في السّطور الأولى بل طلباً ودّيّاً يحثّ الشّاعر على الصعود والارتقاء بفعل النّطق. لقد حلّ ملء الزّمن الشّعريّ ومنذ الآن يستحيل صمت الشّاعر لغة أرفع رتبة من الصّمت، ألا وهي النّطق بالوحي. أي أنّ الشّاعر تحوّل من صامت بالقوّة إلى صامت بالفعل، ليتمكّن من إعلان القصيدة.
يحرّر الوحي الشّاعر من الفضيلة ويحرّضه على ارتكاب الخطيئة. (عليك أن ترتكب ما طاب لك من خطيئة/ في حقّ هذا الصمت)، كأنّ الخطيئة بحقّ خطيئة الصّمت اكتسبت شرعيَّتها في الانتساب إلى فضيلتها الخاصّة.
لا بدّ من أن نقرأ هذه الجملة كآية تنقل في لحظة رؤيويّة، على ضوء الوحي الشّعري لا على حسب المنطق العقلاني، وإلّا وقعنا في فخّ سطحيّة القول. فما نقرأه عند يوسف الهمامي يعكس ضميره الشّعريّ المغاير للمنطق الباحث في مثاليّة الفضيلة ورجاسة الخطيئة. نرتفع مع الشّاعر لنفهم انقلاب المعاني، ومعايير المعنى الشّعري. فارتكاب الخطيئة بحق الصّمت فضيلة، وممارسة الفضيلة بحقّ الصّمت خطيئة. وتحرير الشّاعر من الكون وانطلاقه إلى حيث مكانته الأساسيّة/ عالم الوحي وهو ما برح في العالم، يعوزه ارتكاب خطيئة الإعلان بحق الصّمت المهيِّئة لدروب الفضيلة.
الخطيئة كانت في السّبيل الّذي ظٌنّ أنّه الفضيلة. ومن حقّ الشّاعر/ النّبيّ أن يرتكب الخطيئة الشّعريّة وينطق بالوحي، لينتقل إلى الرّتبة الأبهى، من الإنسان إلى “الشّاعر”. يقول جبران خليل جبران: “المخطئ لا يرتكب الخطيئة إلّا بإرادة مستترة من المجتمع”. لكنّ الشّاعر سيرتكب الخطيئة جليّاً ليكسر الصّمت وينطلق لتحقيق إرادة الوحي ومشيئته.
الخطأ لم يكن هناك..
كان في الطّريق الّتي كانت
على صواب..
لعلّ الشّاعر أمعن في الانتظار، أم أنّه بالغ في حجب المسكوت عنه حتّى غفل عن إعلانه. ما استدعى برقاً وامضاً في نفسه، بل دويّاً في عمق أعماقه. خطفه من ذاته إلى ذاته وألهب قلبه، وحرّر سكوته، لينطق بالوحي، ويجسّده بالكلمة، فتراه العين، وتعاينه البصيرة، ويستنير به العقل وترتشفه الرّوح.
الوحي الّذي نحت تكوين الشّاعر بتأنٍّ ودقة وحبّ، يلتمس منه الآن التّبشير بالنّور: “انطق”.