تتقد النيران تحت الغداء الأخير مع استشراء أنوُر حرب حزيران من عام 1967 م.. فتنطلق
شرارة صغيرة تحمل في ثناياها لهيب الشتات والتهجير.. تستعِرُ في قلوب الناس.. تحرق منها
الغضُّ واليانع.. يفقد الناس بعضًا من أسرهم.. تختلط الأنساب في بحرٍ من الضياع والفُرقة.
يشاء القدر أن يلتقي في عمان شاب و فتاة و سرعان ما يهيما في بعضهما حبًّا.. تنساب
جداول الحب فيما بينهما.. تدور عقارب الزمن بانتظام ورتابة.. تحين لحظة اللقاء.. بعدما علا
لهيب القلوب المتعطّشة للحياة والأمل..
كبّل صالح قلبه بعصائب الحب التي تلوّنت بألوان الفرح والسعادة.. ألقاه في حجيرات قلبها
المتعطّش للحياة.. انتهى هذا العشق بزواج سعيد وثلاثة من الأبناء الذكور لصالح الأب و
رشيدة الأم. دعا صالح صديقه الدكتور فالح لحضور حفل تخرجها الجامعي.. لفت انتباهه
صديقتها الجميلة ياسمين التي أحبها و قام بخطبتها. أراد الدكتور فالح أن يشتري كسوة
العروس من الشام.. سافر هو وعروسه بصحبة والدتيهما بعدما عقد قرانه عليها بفتره ليست
طويلة.
هناك انفردا وكان الوصال الذي كانا ينتظرانه.. الشوق والهيام يدفعانهما لحدث طالما انتظراه..
تزاوجا.. على أمل العودة و الزواج بعد أسبوع.. يشاء الله أن يموت فالح بحادث سير.. يخلُفُ
مِن بعده في أحشاء ياسمين.. جنينًا لم تكشفه الّا بعد وفاته.. يتنكر الجد للجنين مما اضطّرها
للسفر والعمل بالإمارات المتحدة.. كمعلمة للهروب بجنينها.. على أمل أن تجد وسيلة تثبت
بها.. صحة نسب ولدها فالح.
في ليلة احتفالية.. بعدما خلد الأولاد للنوم.. اكتشف صالح أن أم أولاده لم تكن سوى أخته
فلسطين.. لتتحول حياة الأسرة إلى الضياع والانحلال.
أخيرًا اتخذ ابنهما عايد الكبير قراره بإنهاء معاناة أسرته و أهله جميعًا.. وبشهادات تثبت أنه
الجاني.
تعود ياسمين بعد غياب طال.. سمته العذاب والشقاء.. تثبت نسب ولدها عن طريق فحص ال
DNA .. تذهب لوداع صديقتها رشيدة (فلسطين).. لتكون أول شاهدة على نهاية حياة أسرتها
بالغداء الأخير.. بعدما تزوجت من عبد الله الاماراتي.
لوحة مشهورة لوّنها مباشرة على الحائط.. الفنان الايطالي ليوناردو دافنشي.. أثارت جدلا بخروج الفنان عن المفاهيم المسيحيّة الكاثوليكيّة التّقليديّة.. صوّر فيها يوحنا على أنّه مريم
العذراء لأنه لم ينبت الشعر في لحيته.. فكانت سماته أنثوية..
قامت فلسفة ليوناردو على فلسفة الانتحار الجماعي على وجبة عشاء.
أما فلسفة الغداء الأخير فقد قامت على أثر من آثار الشتات الكثيرة.. لقد كتب العديد من الأدباء
في موضوع الشتات وما ترتب عليه.. مثال ذلك الكاتب الفلسطيني خليل بيدس في روايته
)الوريث ( والذي كان أول من كتب في هذا الموضوع.
انتحار جماعي أيضا على غداء دسم أعدّ له أحد أفراد الأسرة المنكوبة بنفسه للخلاص من
واقع أليم سبّبه الشتات.. ولكن الفلسفة هنا في نوعيّة الحدث والذي قام على زواج شرعيّ
بوثائق قانونية من أخت شقيقة.. هذا الزواج يحمل اسم زواج الأرحام الذي أسنّ في تاريخ
الانسانية لمرة واحدة.. حيث سنّه الله في بداية تكوين الحياة لقابيل وهابيل.. ثمّ تمّ تحريمه في
جميع الشرائع السماوية.
الغداء الأخير.. رواية وثّقت من خلالها الزمان والمكان والحدث.. غمزت بعين الشاهد والراوي
إلى بعض من مآسي الشتات وبعض من مشكلاتنا المجتمعية.. والتي تؤثر فينا تأثيرا سلبيا.ُ.
تصل في بعض الأحايين إلى درجات من التعقيد يصعب أو يستحيل حلّها.
حركة شخوصها اتسمّت بالاتزان والثبات والتوافق في تسلسلها.. فكانت مقنعة ومدروسة
وصورت الأحداث بعين متبصّرة لما يجري..
تستحضرني البدايات من عام 1975 م حين بدأتْ ريشتي تخط الخطوط الأولى في مسيرتي
الأدبية.. واقع بدأ يتجلى ويطغى على مجتمعنا.. بدأت حياة الناس في التلون والتشكل بألوان
قاتمة انتشرت بعد خروج الناس من هزيمتنا في عام 1967 م.. بدأت أفكاري تتفتح وعقليتي
تنضج.. قمت بإفراغ ما يُساورني ويشغلني بالكتابة.
قدرتي في اللغة الانجليزية مكنتني من الكتابة بكفاءة واقتدار.. بدأت بكتابة فصول روايتي
الأولى والتي حملت اسم DIVORCE أي الطلاق.. لم يُكتب لها أن ترى النور آنذاك لأسباب
أحتفظ بها لنفسي.
انقطاع استمر لسنوات طويلة فرضه طلب العلم ومشاغل الحياة.. ذات يوم التقيت بأحد
الأصدقاء وهو الأديب سامر المعاني.. حرك دواخلي لأن أعود للكتابة.. خلال حديثه بدأت
أستذكر طه حسين والعقاد ومحمد عبدالحليم عبدالله وأجاثا كريستي وشكسبير وغيرهم..
التقيت بالمرحوم الدكتور محمد نصار في بلدية الرمثا.. حيث كان عضوا في لجنة التسمية
والترقيم التي كنت أرأسها آنذاك.. دعاني لأمسية في الجمعية العربية للفكر والثقافة.. هناك
التقيت بصديقي الأديب سامر المعاني الذي ولّد الشرارة.. وهناك عرض علي المرحوم د. محمد
نصار الانتساب للجمعية على أن أكون أمين سرها..
أيقنت أنني أستطيع من هذا الموقع أن أقدم خدمات لبلدي ولأبناء بلدي.. فترة لم تطل بعدها تم
تشكيل منتدى الجياد الثقافي برئاسة الأستاذ سامر المعاني.. أصبحت أحد أعضاء المنتدى
كرئيس للجنة الشباب.. لم أكتف بذلك.. بدأت أتعاون مع صديقي الأستاذ عبدالرحيم جداية
ومحطات تلفزة عدة.. قدّمتُ من خلالهم العديد من الشباب الذين لا زلت أدعمهم إلى الآن..
السرور يملأ قلبي وأنا أرى تطور وتقدم هؤلاء الشباب.. وكان آخر ما قدّمته لهم هو كتاب تم
تجميعه بنصوصهم وأقلامهم وباسم عتبات صغيرة ومن خلال الجمعية العربية للفكر والثقافة.
كان صديقي هذا هو من أيقظ شيطان الكتابة بداخلي.. بدأت بكتابة القصة القصيرة فكتبت حنان
والصرير.. دعاني صديق جديد لي من أصدقاء الفيس إلى أمسية شعرية في رابطة كتاب إربد..
أجلسني بجانبه.. استأذنني أن يقرأ ما أكتب حين علم أنها قصص أكتبها.. سُرّ كثيرا وأبدى
إعجابه وشجعني على الاستمرار واتفقنا على تسمية تلك المجموعة بالصرير.. إنه الشاعر
والناقد الحبيب عبدالرحيم جداية.
الصرير أحيت في داخلي حب الرواية من جديد.. فلم أكاد أنهيها حتى بدأت أخط الفصول
الأولى من روايتي الغداء الأخير..
أصدرت الصرير عام 2016 م والغداء الأخير عام 2017 م فأحببت أن أقدم كتابا يحمل بين دفاته
بعضا من خبرتي الحياتية وحكمتي التي اكتسبتها عبر سنوات عمري.. كتبت خربشاتي الأدبية
والتي قمت بتوثيقها وكلي أمل بصدورها خلال عام 2018 م.
هذا أنا.. يحدوني الأمل والرجاء بأن أستطيع أن أخدم أهلي وبلدي من خلال قلمي ودفتري..
وأن تحمل ريشتي ما يُفرح ويزهو من الألوان رغم سوداوية ما تكشف عنه الكتابة..
فمجموعتي القصصية القادمة ستحمل اسم.. على خطى الشيطان.. فمن خلال الآلام تولد
الآمال.. كما قلت في روايتي