بقلم الشاعر والناقد والإعلامي إبراهيم السواعير
مع أنّ (عربية هذي أنا (هو ديوان الشاعرة بنت الجليل الفلسطيني ميساء الصح، يقرر محتواه وموضوعاته، إلا أنّ الشاعرة الحاصلة على دراستها العليا في اللغة العربية، اعتمدت على أمرين في الديوان، الذي قدّم له القس جوزيف إيليا بقصيدة، فكثّفت من الصورة الفنية وفي الوقت ذاته كان الوجه العربي لديها ليس فقط في البعد النضالي عن فلسطين، وإنما في ذات المرأة العربية الشرقية وتفاصيلها وعتابياتها ورومانسيتها، ولذلك فقد استفادت الشاعرة الصح من ثقافة المكان التاريخي والجغرافي وقراءات الشاعرة عن فلسفات الحب وتباريح العشق وكوامن الذات.
والشاعرة الصح، المولودة في عرابة الجليل وصاحبة دواوين سر الحياة وترانيم الفجر وفيض من الروح، والحاصلة على جائزة الإبداع من وزارة الثقافة والرياضة، تنطلق في ديوانها الصادر عن دار يافا العلمية للنشر، من أهمية الصورة الفنية لكي لا يملّ القارئ مما اعتاده من الكلام التقريري، لذلك، تبدو هذه الصورة واضحة في ملامح الفلاح التي تعجن وجنتها، وبيتها الذي بُني من الأحجار للمقاومة، ودفترها الذي هو سور من الإسفلت يقرأه المشاة، مع أنّها جعلت السماء وسادة والأرض تاجاً، ولغايات نقدية فإن التاج دائماً موضع ارتفاع ومربوط بالسماء في حين أن الأرض هي الوسادة، إلا أن للشاعرة الحرية في أن تبدّل أو تشكّل في صورها الفنية بالشكل الذي تريد.
تكثر الشاعرة ميساء الصح من مفردة النهر، كتعبير عن الإرادة وثقة هذا النهر المنساب إلى غايته والذي لا يبالي بالشوك أو العوائق، فيقطف الصبر المغلّف بالقنابل من عرين الأسود في الشتات، وهكذا فنحن مع شاعرة تستفيد من المفردة الحديثة السياسية والاجتماعية والذاتية لدخولها معترك صفحات الديوان، في قصيدة وطنية لكنها موشاة بالصور، وربما تواردت مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش في صورة اليمام والعش ورغيف الخبز، لنسير مع سطور موزونة، يبدو فيها القرار السياسي وجغرافية الحصار، كما في قولها (لست التي سهلٌ سقوط جدارها)…، و(عقال جدي باهظٌ)، لترفدنا بقوة الروح العربية في علمائها وفكرها و(فيروزها) و(وديعها (و)سيّابها(، وشاعرها أحمد شوقي، كمختارات، نحو قصيدة وطنية بعنوان القدس، حيث الشاعرة عاشقة القباب، التي تستلف- تستدين- تعابيرها من حصن القدس كتعبير شعري تكثر فيه مفردات العشق والظمأ في خلوة مع المدينة واعتراف بالرجفة كلما دخلت الشاعرة في هذه الخلوة مع القدس.
لكنّ الشاعرة لا تظلّ تقف عند حدود قصيدة المكان أو استلهام التاريخ العربي، بل نراها قد دخلت إلى حوار الرجل الذي يبدو مرّةً قيساً وعنترة ومرّة تغلق بوجهه أبواب الرجاء في شمم وأنفة وعتاب شديد، أمام الرجل (الصخرة)، الذي كان يحتمي بمظلة الشاعرة وقميصها الكحلي، وهي حرّة في استدعاء طقوس الحب وألوانه والوقوف على الطلل، وتعرية الرجل، حيث صدق المرأة هو ما يفضح ادعاءاته بالحب.
الخيانة، عدم التفريط بالرومانسية أمام قصور من رخام، الأمس الذي لن يعود، الدروس التي تعلمتها الشاعرة، قرار الرحيل، الثلج الذي يذوب،..جميعها مفردات خصبة عند الشاعرة الصّح التي ربما رأينا حتى مع صورة الذات لديها صورة الطغيان في الأرض كتعبير سياسي، مع أن للشاعرة أرضاً ذاتية ومع أن الأحبة يمكن أن يكونوا طغاةً على هذه الأرض، ولذلك يتداخل قاموس الشاعرة الذاتي بالوطني الجمعي في سطورها التي كثيراً بل غالباً ما تنتهي بقرار حزين، حتى في أشدّ حالات الشاعرة انفعالاً وبحثاً عن دفء.
تخرج الشاعرة على النمط المعهود، كما تقول، وتكره استخدام الحروف ذاتها، وتأتي بتعابير تشي بحالة الفقر على عتبات الحبيب، كما تعتز بمفرداتها وتميزها ونقائها، مستعيرةً صورة النهر، ومستثمرة الموروث الديني في قاموس مليء بالأنبياء ووجه الفجر.
الشاعرة ميساء الصح، لا تعتمد تعقيد اللغة ومفرداتها بل تعمد إلى تبسيطها بحديث يومي لكنه قوي بالصورة الفنية، ولذلك نحن أمام مفردات عذبة تعبر عن الحالة، من مثل النهر والعش ومصب البحر، حيث يَصبُّ العاشق والمعشوق في النهر. هذه اللغة السهلة غير المعقدة في مفردات الروض والغزال والموطن الحبيب والموطن البلد تتأكد لدى الشاعرة، وطقوسها في الشتاء، وتغلّبها على (الصقيع)، بما يحمله الصقيع من برودة في العلاقات وأشياء أخرى، لنكون مع عشق مفرداته من البحر كالمد والجزر والرمال وارتباط نهري دجلة والفرات، صورة لارتباط الحبيبين، لكنّ الشاعرة بستان متنوع بمشاعر الفرح والحزن، إذ سرعان ما ندخل حالة جديدة من بوابة الذكرى والحزن، حيث قول الشاعرة)ضاقت بنا كل المرافئ(، وحيث رضوخ الشاعرة لواقعيتها في نهاية المطاف (لا كنتَ روميو يستحق صبابتي.(. ، لتسدل الستارة على نهاية حزينة.
إذن، ثقافة الشاعرة ودراستها اللغة العربية ومعرفتها بالأدب العالمي الإنساني هيّأ لها صوراً عذبة بوعاء لغوي سهل، وتلك ميزة لكثير من الشعراء الذين يهتمون بقوة التركيب في مضمونه لا بألفاظه اللغوية، ولذلك، نحن واقفون على صورة الرجال الدّمى- تماماً كالدمى في مسرح الحياة- وحتى من القاموس الاقتصادي والشعبي تستعير الشاعرة ميساء الصّح ما يفيد أنّ الحبيب (عملة نادرة)، وعلى هذا، فإن هذا القاموس أو المعجم يزداد بزيادة مصطلحات الشاعرة واستفادتها من ذلك، لدرجة أنّها وإن كانت في حالة من الرومانسية الشديدة، سرعان ما تعود لترضى بالواقعية أو تسعد بها، ما يشي بأنها ليست معصومة كالأنبياء، وأنّ الغدر أشد ما تمقته الشاعرة وهي تعاين زرع الأشواك في الدرب، وأوراق الخريف وتلوّن الحياة بالألم والحزن.
تستفيد الشاعرة ميساء الصح من ثقافة الحكاية الشعبيّة، في صورة ليلى والذئب، في استدعاء مثقف وواعٍ للطفولة البريئة، حيث لن تصدّق ليلى بعد التجربة خداع الذئب)وتجيء ذئباً ترتدي ثوب الهدى بطريق ليلى.. خلتَ ليلي أن تعود لتسمعك!(، كما يكثر ندب الحظ العاثر على لسان الشاعرة وحديث شفيف تزجيه لجميل بثينة في مشاكاة وحزن من تصاريف الحب الجديد الذي لا يفي بأدنى متطلباتها الحبيب.
وهكذا، تستدعي الشاعرة ميساء الصح بلقيس، وزمناً جميلاً، وصحارى، وتستفيد دروساً في الحب، وترجو مع كل هذا وذاك بساطة المطلب والتمني، لتذهب إلى طقوس الغجر وأحاسيسهم الشفيفة الصادقة، بتعابير عذبة، حيث تقول)يتوضّأ الصبح النديّ حلاوةً من لمستي…(، وتقول)وأزفّ بشرى نضج حبّاتٍ من الصبار عنّابٍ وتين..(، )فضفاضة الفستان أبعث نظرةً من كحل عيني للسماء)..
فهي شاعرة ذات مزاج، تعيش كلّ طقوس العشق والترحال والألم والبكاء والسفر عبر نماذج عتيقة في العشق والالتياع، لكنّ قدرها دائماً أنّ الطرف الآخر يرميها مع كل تسارعها ولهفتها إليه وصبرها عليه، بالغدر والتسويف والمواربة والخداع.