(( منافذ الرّؤى )) ..
بقلم : كريم عبدالله ..بغداد – العراق
حينما نترك وراءنا أحلامنا وذكرياتنا تلتهمها نيران الحقد وتغيّبها اصوات المجنزرات , وتشيخ اعمارنا خلف حدود الوطن , ورماد الحروب يسوّد بسمة الأزهار الفتية , حينها تتشظّى الذات ما بين الغربة والوحدة والليل وغصة الوداع , وتتاجج ما بين الحبّ والحلم والعاطفة . فلا يبقى من سبيل لنا الاّ البوح في زمن الصمت , فتطفو الأرواح المعذّبة الى السطح تعلن احتجاجها ورفضها للواقع المأزوم , تسعى ان تعبّر عن المجموع وطموحاتها وآلامها وغربتها ومحنتها عن طريق ذاتها المحمّلة بهموم الوطن ومحنة الانسان . وتبقى الذات الشاعرة صاحبة الصوت العالي والجلّي كونها تمتلك من العاطفة الشيء الكثير بسبب تأثرها الشديد بما يحدث حولها من أفراح وأحزان , وكلما كانت الذات الشاعرة جيّاشة العاطفة بثّت هذه العاطفة في نسيجها الشعري في محاولة منها للتأثير في الجميع . وكلما كانت هذه العاطفة منبعثة من القلب صافية نقيّة وغير مبالغ فيها فانها ستدخل الى قلب المتلقي وتحدث تأثيرها المطلوب فيه وتحرّك أحاسيسه وتحي الشعور لديه وتغذي النفس . اضافة الى العاطفة لابدّ من امتلاكها الى الخيال الجامح والخصب , وقبل كل شيء لابدّ من وجود الموهبة التي بالامكان صقلها وإنضاجها عن طريق الثقافة والاطلاع على تجارب الاخرين وان تنهل تراثها وتطوّعه , فالخيال يشبّه بالمستودع الذي منه تستمد الذات الشاعرة مادتها , لابدّ ان يكون منتجا بحيث يتناول الواقع اليومي ويعيد تشكيله بطريقة خلاّقة وتأليف صور جديدة , وبين الخيال والعاطفة يوجد ارتباط قوي لانه هو الذي يصوّر هذه العواطف ويثير ذهنية المتلقي عن طريقها . وكذلك لابدّ للذات الشاعرة ان تمتلك ناصية اللغة واعني بها اللغة الشعرية التي تمتاز بالايجاز والتركيز والتكثيف والرمزية المحببة , ان تجد لها لغة اخرى جديدة تسمو على اللغة اليومية المتداولة والا فقدت سحرها وبريقها مما يؤدي الى موت النصّ الشعري وإنطفائه بسرعة . ولابدّ للذات الشاعرة ايضا ان تمتلك المقدرة على صناعة الصور الشعرية الغريبة والمدهشة بحيث تجعلنا نتلنس ونستنشق ونعيش هذه الصور المثيرة . ان النصّ الحديث يجب ان يمتاز بتعدد القراءات ويفتح ابواب شاسعة للتأويل وا ن يكون نصّا كونيا يتعرض لمشكلة الانسان في هذا العصر ويكشف لنا عن رؤية الذات الشاعرة وموقها ازاء ما يحدث .
من الملاحظ على أجواء النصوص في مجموعة الشاعرة : نارين عمر سيف الدّين .. تكرار لمفردات معينة قد تكون عفوية أو بقصدية , من هذه المفردات / الورود والربيع والصباح / في محاولة من الشاعرة على التأكيد على مفاهيم الجمال والحبّ والحياة والنمو , كونها تبعث على الأمل والطمانينة والتوق الى غد أجمل من الحاضر , ان هذه االمفردات المبثوثة على مساحة كبيرة في نسيج الشاعرة الشعري لها ما لها من تأثيرات ايجابية على النفس البشرية , تكرارها والاصرار على حضورها القوي انما يكشف عمّا في نفسها واحاسيسها المرهفة . فمن خلال عنوان المجموعة / منافذ الرّؤى / سنكتشف محاولة الشاعرة البحث عن منافذ من خلالها تقحمنا الى عالمها الشعري ومعرفة ما يحدث حولها على أرض الواقع , هذا الواقع المأزوم والعبثي . فكلما إدلهمّ الليل سنبحث عن طرق جديدة للرؤية والتعايش مع هذا الخراب والأنفلات من براثينه والعيش خارج الحدود . دعونا الان نتشمم عطر الورد في هذه المجموعة , فمثلا نقرأ في نصّ / حين يغفو المساء / دلالة على بدأ الليل والظلام وكيف يشعر فيه الانسان بالغربة والخوف ../ السّكون القلق ينذرني بألاعيب الّليل .. / وكأن الشاعرة تحاول استدراجنا بهدوء الى عالمها المظلم ولتبدأ الأحداث تتصاعد من قعر الظلام لتنعتق وتحلّق في عالم النور .. ونقرأ في نصّ / طائر قوس قزح / هذا الألم والخيبة ../ طائر مبتور الجناحين / .. ونستمر مع الشاعرة ونقرأ لها في نصّ / ذاكرة الحلم / وكأنها استسلمت الى هذا الليل المظلم لتبحث عن متنفس لها من خلال الحلم ../ تقطف الوردةُ .. من غيوم ذهولها قطرات .. لفصل يتأهّب .. لردم شروخ أنهكت الجسد ../ .. وفي مكان اخر من نفس النصّ نقرأ ../ هل بقي في الذّاكرة مكان لورود غيرنا؟ .. نعم، قلتها .. ورود أحلامي لا تودّع الفصول ../ .. انه التأهب والاستعداد للخلاص والحياة .. ثم نقرأ في النصّ / جنون العمر / … / شروخ التّوسّل تاهت في صدوع أعوام .. تبدو لنا طويلة بطول حلم .. أطبقت عليه أزرار المعطف ../ .. الأحساس ببشاعة وقسوة الايام وكيف تضغط على قلب الشاعرة .. وفي نصّ / خجل الطرقات / تستدرجنا الشاعرة الى مدينة أحلامها وطفولتها وعنفوان شبابها في محاولة منها لرسم سيناريو مسرة حياتها خطوة خطوة , فنقرأ ../ مرَّ كأيّ شخص تسيّره أرصفة .. طرقات مدينتنا .. مررت كما شاء لي الزَّمان المسير ../ وتستمر وتيرة الاحداث تتصاعد من خلال النصوص وكأن القدر يرسم لها طريقا غير الذي كانت تحلم فيه ../ وكأنّنا في سباق لأرصفة القدر ../ . وقبل ان تنضج / سنابل الحب / فجأة ودون سابق فراق .. فجع بنعي الوداع .. وداع لم يعدّ له قبل الّلحظة .. لم يتدرّب على نزاله .. / انه نزول البلاء والاستعداد للحظة الافتراق والوداع الذي قد يطول كثيرا ويبعث سنابل هذا الحب الوليد .. وفي / واسطة العقد / تبدأ رحلة الذات الشاعرة بالعذابات والمرارة والخيبات .. / يا أيّها الرّاقد في جفنيّ امرأة! ..يا رجلاً أبلى جنسه بضلع قاصر! ../ .. فتخاطب / بائع التفاح / التّجارة لا تتعاطى لغة المشاعر ../ من المحبط جدا ان يكون الاخر مشغولا عن المشاعر والاحاسيس النقيّة بأهوائه ومصالحه الشخصية وعدم الاكتراث بمن وهبه هذا الكمّ من الحب والأشواق .. وفي / التقويم الازليّ / .. نجد الذات الشاعرة وكأنها إستفاقت من أحلامها وكوابيسها التي عبثت بها وطغت آثارها السلبية في نسيجها الشعري الماضي لترسم لنا لوحة جديدة أمثر اشراقا وبهجة ../ النّهر يتباهى بقصاصات الورق .. تتناغم في إيقاع خريره .. ترسمها أخيلة على معداد تقويم أزلي .. لأنامل تزهر ببصمة الأنام .. هكذا تبدأ النصوص تُزهر وتعطي رونقها وغنجها .. ففي / وداع الطفولة / ستجد الذات الشاعرة رفيقا لها تسرّه اسرارها وتبثّه ما يجول في خلجات روحها ../ أدركت أنّي وجدت صديقاً ../ .. فتبدأ من جديد واثقة معتدّة بنفسها ووطنها كما في / واثق الخطوة / حيث تقول ../ مفردات نقشها سكنى وطني .. في هالة القمر على قرص الشّمس .. / .. ونقرأ كيف ان / قنابل هبوبك / .. ايقضت مشاعرها وحرّكت الراكد منها وأنعشت روحها ../ قنابل هبوبك أيقظت شراع غفوتي .. في صباح مدثّر في تاريخك الأسطوريّ ../ .. ويبدأ ربيعها بالنمو والأستيقاظ بعد خريف طال عليها ../ خريف روحي تخضرّ .. أوراقه المتساقطة .. دفء الشّتاء يحرّر فكري .. من صقيع حروف تائهة .. الرّبيع ينعشني بنرجس ذاتي ونسرينها ../ .. وتبدأ النصوص تأخذ منحى آخر أكثر اشراقا وتفاؤلا وأملا ../ لا يحقّ لأحد أن يحبّكِ أكثر منّي ../ .. / الورود احتفلت بعمادتي مع الزّهر ../ .. لو ملكتُ كلّ حدائق المعمورة .. لن ينعشني سوى .. عبق عشقك ../ .. / زهو الألوان والاخضرار مذكّر .. الأرض أنثى تحتضنه برفق ../ .. / الفصول تهديني قبلة بدء .. لا نهاية لها ../ .. / الرّبيع يوقظ فيّ ناقوس الشّباب ../ ../ .. لبّ عشقك .. يسيّرني كيفما يشاء../ .. / الزّهرة التي رسمتك .. بصمة فوق خدّي ربيعك ../ .. / بشّرتنا بربيع مولود سُررنا به ../ .. أنت شتلة ودّ .. رغبت بها أروّض قحط ربيعي ../ ../ زهرة أنت ارتعدت .. على أوتارها طرباً رقصت ../ ../ صباح اليوم كصباح الأمس وما قبله .. يفوح منه رنين بسماتك ../ ../ الرّبيع آت ومبسم ملقاكما .. يزهر على شفتيّ الزّهور .. الورود تبادلها الغمز واللمز .. أنظر إلى شقائق النّعمان ../ .. هكذا تنتهي النصوص الشعرية في هذه المجموعة , تخللتها بعض النصوص القصيرة عائمة على أريج الازهار .
حاولت الذات الشاعرة ان تجد لها وللمتلقي منافذ للرؤيا من خلال لغة لصيقة بالواقع بالتاكيد سيستشعر المتلقي بحلاوتها وعذوبتها دون عناء او جهد كبير . لقد كان الديوان عبارة عن روشة من الازهار الفتية والتي ستقوى سيقانها على مرّ الزمن وتشتدّ اذا ما حاولت ان تعانق الشمس وتقف بشومخ فوق أرض صلبة .