ينما كنت أهم بإرسال قراءتي لإحدى الروايات الصادرة حديثًا إلى صحيفة الجزيرة الثقافية لتأخذ دورها في النشر؛ أرسل لي مؤلف الرواية نفسه – وهو صديق عزيز – رسالة (واتسابية) يثمن لي قراءاتي المتتالية للروايات والدواوين في الفترة الماضية، ويبدي إعجابه بما أكتبه.
شكرته، وقلت له: وستكون روايتك موضوع مقالتي القادمة!.
أخذته دهشة المفاجأة، فأزجى لي من الشكر ما يفيض عما يقتضيه الموقف، وأخبرته أني حين أكتب فأنا أمارس هواية محببة لي لا أنتظر منها جزاء ولا شكورًا، فأنا لا أكتب إلا عما أجد فيه ما أقوله، ويحمل فكرة جديدة أو طريفة – أو على الأقل – مفيدة..
وغالبًا ما أستهدف بكتابتي تعريفًا بالكاتب وبكتابه، ولذا أختار – غالبًا – أصحاب الكتاب الأول أو التجربة الأولى، أو من المؤلفين الذين لم يحظوا بنصيب وافر من التغطية الإعلامية والتعريف بهم وبكتبهم..
طلب مني صديقي الشاب الاطلاع على ما كتبته قبل نشره، فاعتذرت له، وأعلمته أن هذا ليس من حقه لأمرين:
الأول: لأن الكتاب بعد طباعته وتوزيعه في الأسواق يصبح ملكًا للقارئ لا يحق لمؤلفه أن يعترض على رأي أصدره فيه قارئ أو ناقد إلا عبر الردود الإعلامية، وبالوسيلة نفسها التي نُشر فيها.
والثاني: أنني لا أحاور من أنوي الكتابة عن عمله مطلقًا، ولا أستفسر منه عما يحتاج إلى تفسير أو إيضاح أو تعليل، فأنا أكتب ما فهمته مما هو منشور أمامي، فإن كان المؤلف يعرف أن أسلوبه غامض أو ملتو ويحتاج إلى مزيد من الإيضاح؛ فلمَ لمْ يزل غموضه إبان تأليفه؟ أوليس ذلك أولى من الاستدراك فيما بعد؟ وإن كان أسلوبه مراوغًا، ويحمل أكثر من وجه، أو كان ما كتبه مما يحمل أكثر من تفسير؛ فما الذي يضيره أن يقرأ وجهة نظري فيما كتب، ويقرأ أكثر من وجهة نظر عند غيري!
قال لي: ما هذا قصدت. ولكن أنت تعلم أن روايتي بوليسية، وأخشى أن تحل لغزها وتكشف عن شخصية المجرم، وأنا الذي حرصت أن أخبئها وأجعلها مفاجأة لا تظهر إلا في نهاية الكتاب، وأنت حين تفضح اللغز لقارئ لم يقرأها بعد فما الذي يحرضه على اقتنائها؟ عندها لن يُقبل أحد على روايتي، وستظل حبيسة الأرفف، فمن ذا الذي يقرأ رواية عرف نهايتها؟ أو يشاهد فيلمًا عرف قصته؟!.
يا صديقي: هل الرواية البوليسية لغز مثل ألغاز المفتش «كرومبو» متى عُرف حلها فقدت قيمتها؟
يا صديقي: إن للرواية البوليسية ضوابط – لعلها ليست خافية عليك – يجب أن تتوافر فيها حتى لا تتحول إلى مجرد لغز.. ولذلك ليس حل عقدتها أو معرفة بطلها بقاضٍ على متعتها..
وهل ننتهي من قراءة الروايات التاريخية إذا كنا نعرف أحداثها بالتفصيل من خلال قراءاتنا في كتب التاريخ؟ وهل نقول: ما الفائدة من رواية تتحدث عن عصر نحفظ كل تفاصيله؟
وحين تتحدث الرواية عن بقعة من العالم قتلناها زيارة وتجوالاً؛ فهل نقول ماذا سنجد في هذه الرواية التي تتحدث عن مكان نعرف كل مجاهيله؟
أين متعة القراءة نفسها متى ما كان أسلوب الرواية مشرقًا مشوقًا؟ وأين متعة تتبع الأحداث وتسلسلها وما تحمله من مفاجآت غير منتظرة؟ وأين الأفكار التي تزخر بها الرواية وقيمتها وطرافتها وجدتها وفائدتها؟
وأخيرًا قلت له: هب أني امتنعت عن الكتابة عن روايتك؛ فكيف ستعلن للقراء في الوطن العربي بأن يتجنبوا ما منعتني من الاقتراب منه؟!
قال لي: هذا ليس رأيي وحدي، ولكنه رأي الناشر أيضًا!
سمعت قبل اليوم عن تدخل الناشرين في المؤلفات التي ينشرونها على حسابهم – ولا سيما الروايات – كأن يغيروا في الأحداث أو العنوان أو الغلاف بما يضمن لها أن تكون جاذبة رائجة في سوق الكتاب؛ ولو على حساب القيم، لكن أن يتدخل الناشر بعد طباعة الكتاب ويضيِّق على من يكتبون عنه فهذا أمر لم أتعلمه إلا اليوم!