لم يستوقفني، عندما بدأت قراءة هذا الكتاب ، موضوع عن موضوع، أو حيثية عن حيثية، بل كان لكل نقطة مررت بها وقفات، تجعل القارئ يعيد النظر في كل ما قرأ وتعلم واكتسب من معرفة سبقت، حيث وجدت للتحليل العلمي والمنطقي هنا وقعا على الجنان قبل الفكر، لما يمس من شأن مستقر في الوجدان الجمعي، تخدمه معطيات فكرية متفقة في توجهها، راسخة في المجتمعات على اختلافها، ، كالأديان وأثرها في النفوس وسلطتها على الفكر.
“كانت أولا” هو كتاب يحمل ثورة فكرية قائمة على الحقيقة والبرهان، مواجها الدليل بالدليل، لقلب موازين الفكر الإنساني المسلوب لأحكام ماض قضى وانقضت ظروفه، والمعرَّى بجهله تحت ضوء التقدم المعرفي المعاصر، حيث جمعت الكاتبة الحقائق، لتضعها بدراية في ميزان الدقة، قياسا للقاعدة اللغوية والحقيقة العلمية، فتكشف خللها، وتعرّي زيفها.
وقد اعتمدت الكاتبة في النهج التحليلي اللغوي والمنطقي، سرد الحقائق الغائبة أو المغيّبة قصرا، بدقة علمية متناهية، بحيث يقبلها العقل دون تردد، أو يقف عندها متأملا، توقظ فيه تساؤلات لا بد وأن تقوده باتجاه ما، بعيدا عن التعنت والتمترس وراء محنطات موروثة من آلاف السنين، تتحكم بمسارات الفكر والرؤى الجمعية قبل الفردية.
وبجرأة تحسب لها، تحدثت الكاتبة فيما هو مسكوت عنه، في التراث العالمي وتراث الديانات، مبيّنة جذور الفكر الذكوري الموروث، القائم، الظالم للمرأة على امتداد الحضارات مكانيا وزمانيا، تتكشف حقيقته على محكات الممارسة، في كل مكان، وفي النظرة في واقع المرأة في الحضارات المعاصرة الذي أوردته الكاتبة في خواتم الكتاب، نجد الدليل ساطعا على ذكورية مجتمعات يحسبها كثير منا متقدمة مؤمنة بالحرية والعدالة والمساواة.
وقد استوقفني التسلسل الذي قام على منهجية اقتناص الذروة في ترتيب الطرح الشامل، من خلال إدراك واضح لأصل الفهم القائم، وعناصر تغلغله في الوعي العام، لدى المجتمعات المعاصره رجالا ونساء، رغم التقدم المعرفي الذي يوجب النظر فيه.
وباعتقادي أن منهجية زحزحة الثوابت التي سارت عليها الكاتبة، تعني ببساطة إعلان الحرب على القوالب التقييدية للفكر الإنساني المتحكمة بالعقول، والمؤطرة لمسارات تطور المجتمعات، ضمن دوائر عتيقة، بات حضورها في زمان العلم والتقدم التقني والأتمتة؛ مهزلة حضارية. وهي بما أطلقت من ثورة على سلطة الموروث الذكوري، تفتح النافذة لضوء الشمس يقتحم عفن الكهوف وظلمتها.
هذا هو انطباعي الأول عن كتاب “كانت أولا” الذي شدّني ابتداءا من توظئة الكاتبة، وأجزم أنه سيشدّك كلما قطعت فيه مسافة أكبر، بعقل متفتح محايد، ضالّتك الحكمة، وغايتك الحقيقة، وإن ” لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ”