جفاف
*****
لا مطر
يروي الظمأ
ولا أرض تمشي فوقها
خطانا
ونحن فوق غيمة
تتأرجح بكف الريح
تنهشنا
أصابع الشمس
ويفتلنا صقيع الوقت
يقتلنا العطش
محمد صوالحة
القصيدة تتحدث عن جفاف الأرض، الأمكنة، و المشاعر .. وحده العنوان “جفاف” يختزل الدلالات، فالنص قصير لكنه مكثف .
الشاعر في هذا النص يُعلن عن قلقه و تخوفاته، إنه ظمأ للأرض و تعطش للعيش فيها بسلام . فتخوفات الشاعر كبيرة و كثيرة .. يخاف من أشياء و أحداث و وقائع تجرُّ بعضها البعض و تجرّ وراءها الويلات، ضاق الخناق على الإنسان بهذه الأرض و على المواطن العادي داخل وطنه فتجد الكل مهموما ، مشغولا و متلهفا يسعى وراء لقمة العيش ..إنه جفاف من نوع خاص، جفاف يولد الإحتياج للكرامة، للهدوء، للسلم و السلام … جفاف لكل الأشياء العادية و الطبيعية التي كانت لدى الإنسان و الآن حُرِمٓ منها، حُرم من التعبير عن نفسه عن حاجاته، رغباته و كل ما يمكنه أن يحقق له السعادة و يؤهِّلُه ليكون مواطنا فاعلا و منتجًا، مواطنًا يسعى نحو الأفضل.
“الجفاف” كلمة لها مدلولات عدة لكن هنا كتعبير لها عدة مفاهيم. بها حقّق الشاعر وظيفة إيصال المعنى للمتلقي، وحدها توضح ما أراد التعبير عنه و هي أيضا تُشيرُ إلى إحساس عميق للإحتياج، إحتياج للكلام، للفهم، للتعبير .. لأذن عاقلة تسمعك. لصديق يقاسمك همومك.. احتياج للناس، للأخلاق، و للمشاعر..
إنه جفاف الورقة لأقلام صادقة تبثها أحزانها و تزيل عنها بعضا من همومها و تُظهِرُ الحقائق..
و ربما هو احتياج الشاعر لحياة أخرى يعيشها بعيدا عن الواقع و لا يتسنى له ذلك إلا في بِضْعِ لحظات يعيشها وقتٓ الكتابة، إنها حياة مبذولة تتشكّلُ داخل ورقة بيضاء لتُكٓوِّن قصيدة.
قصيدة تعبر عن الشاعر، عن همومه، أحاسيسه، مشاعره و احتياجاته و عن هموم المجتمع أيضًا.
إنه تماه في القصيدة تلك الحياة الأخرى التي يعيشها الشاعر بعيدا عن نفسه و لكن في خضم مشاعره التي يتفادى التحدث عنها و المشاكل التي يراوغ في مناقشتها مع الآخرين ليجد نفسه هنا يتحدث دون شعور منه، يعبر عن مشاعره و يأسه بخصوص المجتمع و من يشكِّل هذا المجتمع. يتحدّث بطريقة أخرى عن فساد المجتمع و الناس، لهذا نجده يقول:
لا مطر
يروي الظمأ
ولا أرض تمشي فوقها
خطانا
يبتدئ كلامه بـ”لا” نافيا كلّ الأشياء التي يمكنها أن تُقال أو تدور بخلده كشاعر أو بذهن المتلقي . ينفي كل الأشياء الجميلة، فالمطر له إيحاءات كثيرة، و قد يرمز للكثير من الأشياء مثل الخير و الخصب و الثروة .. بلا مطر ينعدم الماء و بدون ماء تفقد الأرض رونقها و خصوبتها و تصبح قاحلة لا حياة فيها و هذا هو الجفاف . و مع الجفاف يسود الجوع و العطش و معهما أي بدون ماء لا يمكن أن تكون هناك حياة.
فالإنسان لا يمكنه العيش بدون ماء لهذا فإن المطر منذ القدم يرمز للخصب و الخيرات و الماء يرمز للحياة . قال تعالى :(( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )) فالحياة على وجه الأرض سواء منها الإنسان أو الحيوان أو النبات قوامها الماءُ، فالماءُ هُو سبب حياة كلّ كائن حيٍّ، ولولاه مَا كان على وجه الأرض حياة.
و شاعرنا يحتاج للمطر لعدة أسباب منها الإرتواء فهو متعطش للحياة لخيراتها، للعيش في سلام و استقرار و دون خوف أو قلق من المستقبل . فهو يرمز هنا بالمطر للحق، العدل، التضامن و التكافل الإجتماعي و حفظ الحقوق ليستطيع كل مواطن العيش بكرامة داخل وطنه، هذا الوطن الذي يأمل منه و يتمنى أن يضمن له حقوقه و يكفل له الإستقرار و السلام و الراحة.
و تنافيا مع كلّ هذا نجد المجتمع أو الوطن يهضم الحقوق و لا يوزع الخيرات بالتساوي و حسب الجهد المبذول بل يمحق الحق و تسوده سياسات القمع و الإضطهاد و التجويع لهذا نجد شاعرنا يعبر عن هذا كله بالجفاف و يقول بمطلع قصيدته : “لا مطر .. يروي الظمأ.. و لا أرض تمشي فوقها خطانا ..” هنا ينفي كل شيء حَتَّى الوطن ، فلا يمكن أن يكون هناك وطن إن لم يضمن للمواطن كرامته و حريته . و الشاعر يحتاج للمطر ليطهر به الأرض من القهر و الظلم و البؤس و الفقر و الإضطهاد، يحتاجه ليعيد للأرض الحياة . فهو وغيره يعيشون حياة الميت فوق هذه الأرض مسلوبوا الإرادة و الرغبة، حرموا من كل شيء حتى من الأحلام .. و الشاعر بفكره الواعي و المدرك للحقائق لا يغيِّب المواطن بل يغيّب الوطن، مادام من يملك السلطة و زمام الأمور لا يهتم بالمواطن و لا يضمن له حقوقه و يعتبره لاغيًا و غير موجود فإن الشاعر عكس ذلك جعل من الوطن منعدما و لا وجود له، لهذا يقول : “و لا أرض تمشي فوقها خطانا” أي لا وطن، لا مستقبل، لا أحلام و لا آمال.. لا شيء .
إنها مأساة ذاتية يطورها الشاعر في ذهن المتلقي لتصبح مأساة اجتماعية يعيشها الكل و ليس الشاعر وحده . هكذا تتوحد الصور التعبيرية لمعاناة الشاعر الذاتية مع ما يعانيه المجتمع ( في شكل معاناة جماعية ) التي تتمثل في الطبقة الدنيا من أفراد المجتمع ( و يقصد كلّ المقهورين، و المسحوقين، و البؤساء…) الذين يعانون من الواقع المرير و الظالم في مُجتمع يُبنى بجهد هؤلاء و عملهم و كدّهم لكنهم لا يحصلون على شيء ، يسعون و يسعون و لا يجدون ما يسدون به رمق العيش، زيادة على القمع و التحقير و انعدام الكرامة و سلب الحقوق .. فيقول:
ونحن فوق غيمة
تتأرجح بكف الريح
هنا علاقة الفكر ( القصد أو المعنى ) باللغة علاقة وطيدة فلا يمكن التعبير عن أي شيء دون لفظ أو كلام، و للإفصاح عن أي صورة ذهنية تُراودنا لابد لنا من لغة، هكذا فإن الفكر هو الصورة مادتُه اللغة و وسيلته اللفظ. فرغم كون اللفظ هو الذي يوصلنا للمعنى إلا أن هذا الأخير يظلّ مستقلا عنه و إن كان متأثرًا به.
و المعنى هنا عميق جدا فالغيمة هي الموقع أو الظرف المكاني(فوق غيمة)و هذه الصورة مكثفة جدا فالغيمة تحركها الريح و تأخذها أين شاءت لتمطر بالنهاية في المكان المحدد و المُخصص لكل واحدٍ يوجد فوقها.. و هي تموقُع كل فرد داخل المجتمع في إطار الترتيب الإجتماعي الذي خُصّص له، و هو هنا يقصد به الطبقة الدنيا للمجتمع وهو الغيمة التي يوجد فوقها هو و من معه و الريح هي أقداره أو المحرك المفتعل الذي يحركه هنا و هناك فيتأرجح حسب رغبة من يمسك الغيمة بقبضته. فالشاعر عندما اختار لنفسه و لمخاطبيه وجودا فعليا فوق غيمة تتأرجح بكف الريح، فإنه بهذا التعبير يجرّد نفسه من الإرادة، يصبح بلا حول منه و لا قوة، هو ومن معه فالغيمة وطن، و الوطن وهمٌ كبير يعيشونه يعتقدون أنهم يضعون أقدامهم فوق الأرض و يثبِّتونها لكنهم بالحقيقة يعيشون حقيقةً لا وجود لها، يعيشون داخل الوطن بلا وطن يتأرجحون بين هذا القرار و ذاك و بين هذا النظام و الآخر و لا أحد يحقق لهم السلام الروحي و النفسي و الجسدي .
هكذا نحس أن القصيدة كتبت بعمق و بلغة مكتملة النضج الفكري لتهطل علينا بدلالات تفوق المعنى الحقيقي الذي يمكن استنباطه، بلغة تأتي ماطرة،تجود بسخاء دلالي لا مثيل له. و تتكيء في ذلك على الرمز.
و يستمر في قوله مؤكدا ما سبق :
تنهشنا
أصابع الشمس
ويفتلنا صقيع الوقت
يقتلنا العطش
هكذا يكتمل المعنى و يتحقق باستعمال الشاعر لألفاظ تعبر عن اليأس الذي يتملّكه و الأفكار السلبية التي تكونت عنده جرّاء القهر و الإضطهاد و الظلم و الحرمان .. مستعملا ألفاظا مثل : ( تنهش، صقيع، يقتل، و عطش) كلها توحي للواقع المرير للمجتمع الذي يحرم فيه الفرد من أبسط حقوقه. القصيدة تسافر بِنَا ظاهريا من ظاهر الشيء لباطنه، و من التعبير البسيط للمعنى العميق و الدقيق . فالنص الذي بين أيدينا متحرك و غير ثابت فيمكن تأويله بشتى الطرق و يمكن إعطاءه مفاهيم كثيرة حسب كل قارئ و شعوره و استناده على أي قاعدة تأويلية أو دلالية تحقق له الإرتياح النفسي و تشير للعمق الذاتي الذي يبحث عنه داخل النص في الإطار المرجعي لهذا الأخير (النص) أو شيفرة الشعور العميق بالبنية النصية التي يكونها القارئ عن القصيدة و التي تتناغم مع موقف كل من الشاعر و القارئ من الواقع أو من المجتمع و من مجريات الأحداث و الوقائع و من الحياة ككل.
بعد كل هذا فإن لِلشاعر الحق في أن يختار كعنوان لقصيدته ” جفاف” فهو عطش و تعطّش لكل شيء و حرمان من العيش و من الحياة، أما المطر فيبقى هو الغيث و رمز العطاء و المحبة و الباعث على الخير و النماء و الحياة أيضًا.
الترميز هنا يفرض نفسه، و الكلمات التي جاءت في القصيدة تعبر في مدلولها عن معاني عميقة ، فالنص يتجاوز معاناة الشاعر إلى انفعالاته و مشاعره و أفكاره و إدراكه الواعي الرافض للواقع و ظروف الحياة الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية، فهو متعطش لمجتمع أو وطن حقيقي يعمه الخير والأمان و السعادة.