آفـــــاق حُــــــــرة
بقلم بكر السباتين.. ..
القصة من البداية.. وأسئلة أخرى
القضية الفلسطينية باتت في مهب الريح في معركة نفد الوقت فيها، وبات النعش الفلسطيني ينتظر مطرقة الجاني الذي يبحث عن المسمار الأخير كي ينهي الحقوق الفلسطينية المشروعة، ويقيم الموائد للئام على رفات الفينيق الفلسطيني؛ لكن الأقدار قالت كلمتها.. حينما خرج الطائر الأسطوري الكنعاني من تحت الرماد أشد عنفواناً ليقلب الطاولة على المقامرين بالحقوق الفلسطينية، وهو يمارس رفضه لكل مشاريع التسوية غير آبه بالضغوطات التي مورست عليه. وصار على الفلسطينيين أن يتجاوزوا الأخطاء ويجتمعوا على خطاب سياسي يناسب طموحات الشعب الفلسطيني، ويعتمد على استراتيجية المقاومة ولو في أبسط صورها؛ ولكن حتى ينجح القادة الفلسطينيون في ذلك، فهل يتمكنوا من تجاوز مكيدة أوسلو ومخرجاتها المدمرة على الفلسطينيين!
تعتبر اتفاقية أوسلو، التي تم توقيعها في 13 سبتمبر 1993، أول اتفاقية رسمية مباشرة بين الكيان الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة بأمين سر اللجنة التنفيذية محمود عباس الذي انتهى به المقام ليترأس السلطة الفلسطينية حتى الآن. وشكّل إعلان المبادئ نقطة فارقة في شكل العلاقة بين الطرفين، أدت إلى اعتراف متبادل والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات، وطبقاً لذلك فإن منظمة التحرير كان عليها أن تدين استخدام “الإرهاب” وأعمال العنف الأخرى بما في ذلك “المقاومة” التي باتت في نظرهم غير مشروعة، وخاصة بعد إجراء تعديلات أساسية في بنود الميثاق الوطني الفلسطيني للتماشي مع هذا التغيير، ومن ثم إلزام كل عناصر أفراد منظمة التحرير بها ومنع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين.
مقابل ذلك فإن حكومة الاحتلال الإسرائيلي قررت على لسان رئيس وزرائها اسحق رابين في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية، الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات معها.
وتمخض إعلان المبادئ على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338. بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
ونصت الاتفاقية، على أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين.
تبع هذه الاتفاقيات المزيد من الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات مثل اتفاق غزة اريحا وبروتوكول باريس الاقتصادي الذي تم ضمهم إلى معاهدة تالية سميت باسلو 2.. وخلاصة الأمر أن ما أنيط بالسلطة الفلسطينية قد تم تنفيذه لا بل والتنازل القسري عن مكتسبات ظلت تتآكل باضطراد، دون أن يظفر الفلسطينيون سوى بأزمة حقوق منقوصة ومعطلة، وتنامي القطيعة بين الدبلوماسية الفلسطينية المقيدة والحقوق المشروعة الأساسية للشعب الفلسطيني المغبون، وتحول السلطة الفلسطينية التي كان من المزمع وفق إعلان المبادي أن تحصل على كامل المستحقات في غضون الخمس سنوات اللاحقة، توطئة لتطبيف القرارات الأممية المذكورة في السياق أعلاه.. وبالتالي تعبيد الطريق للتنمية الإقليمية الشاملة على قاعدة العدالة المظللة بالسلام العادل المنشود. وهذا لم يحدث لا بل تحولت الضفة الغربية إلى معتقل كبير أرهقته سياسة “الثواب والعقاب” وفق مبدأ العصا والجزرة.. واليوم يتبين للفلسطينيين بأن مكيدة أوسلو أدت إلى النتائج السلبية التالية:
تكريس الاحتلال الإسرائيلي. توسيع الاستيطان. ارتفاع حدة الإرهاب الرسمي الإسرائيلي ما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا والجرحى وحملات الاعتقال التعسفية. ظهور طغمة من عملاء الكيان الإسرائيلي مثل محمد دحلان المقيم في الإمارات، والعمل وفق مقتضيات المصالح الإسرائيلية الإماراتية المشتركة على تجيير السلطة لصالح اتفاقهما مقابل الحصول على منصب الرئيس وتحويل مصالح الفلسطينيين إلى بقرة حلوب. إلغاء أهم بنود الميثاق الوطني الفلسطيني المتمثل بالكفاح المسلح. انقسام الفلسطينيين ما بين تكتل “فصائل المقاومة الفلسطينية” في قطاع غزة بقيادة حماس في إطار محور الممانعة والذي تمكن من تحقيق توازن الردع العسكري مع الاحتلال الإسرائيلي بعد سلسلة من الهجمات الإسرائيلية المدمرة على غزة المحاصرة، و”السلطة الفلسطينية” التي ظلت تقدم التنازلات لصالح الطرف الإسرائيلي بغية الحفاظ على مكتسباتها المتآكلة بدعم من الدول العربية التي فرشت لها الطريق بالحرير؛ ليتبين فيما بعد بأنها تدعم صفقة القرن تقويضاً للحقوق الفلسطينية المنتهكة. إبرام اتفاقية التنسيق الأمني ضمن التزامات “اتفاق أوسلو” كما هو موجود في قطاع غزة بشكل غير مباشر من خلال الهدن التي تم الاتفاق عليها منذ العام 2003 وحتى الآن، حيث تبين أن التنسيق الأمني كان دائماً يخدم الاحتلال الإسرائيلي ويضرّ بالفلسطينيين، وتحديدًا منذ اتضاح أن العملية السياسية برمتها مجرد خداع، ولا تقود إلى إنهاء الاحتلال وإنما إلى تعميقه، فتحولت السلطة إلى جهاز أمن فلسطيني يعمل بالوكالة؛ ما أدّى إلى قمع كل أشكال المقاومة الفلسطينية في مهدها، ناهيك عن تقديم الحماية للمستعمرات الإسرائيلية وخاصة أن معظمها شُيّد خلافاً لاتفاقية أوسلو. ثم صدور قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم تحالف “أزرق أبيض” بيني غانتس، على فرض السيادة على غور الأردن والمستوطنات غير الشرعية بالضفة الغربية المحتلة، بما صار يعرف ب”قرار الضم”. ولعل من أبرز مخرجات مكيدة أوسلو هو دخول الطرف الإسرائيلي إلى الساحة العربية وتطويعها لصالحه ومحاولة برمجة العقل العربي للقبول بالوجود الإسرائيلي كأمر واقع وشيطنة الفلسطينيين ومن ثم لصق تهمة الإرهاب بالمقاومة في إطار تفاهمات عربية إسرائيلية أصبحت معلنة بعد أن كانت سرية للغاية، ليفاجأ الفلسطينييون بأن البساط قد سحب من تحت أقدامهم، وخاصة بعد مجيئ الرئيس الأمريكي دوناند ترامب الذي قدم للاحتلال الإسرائيلي دعماً مفتوحا بدأه بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بتاريخ 14 مايو 2018، والإعلان عن صفقة القرن في 27 يناير العام الجاري، حيث أعلن الفلسطينيون في تصريحات لمسؤولين حكومين رفيعي المستوى وقادة في جميع الفصائل الفلسطينية، عن رفضهم للصفقة الأمريكية المزعومة التي تبدد حلمهم بإقامة دولة ذات سيادة عاصمتها مدينة القدس، وعملهم على مواجهتها وإفشالها.. وظل الموقف الفلسطيني يدور في حلقة مفرغة وصولاً إلى حافة الجرف؛ ليستيقظ أخيراً بعد الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي “الاتفاق الإبراهيمي”.. وهو اتفاقٌ اُعلن بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والإمارات العربية المتحدة في 13 أغسطس 2020، وبتوقيعه ستُصبح الإمارات ثالث دولة عربية، بعد مصر عام 1979 والأردن عام 1994، توقّع اتفاقية سلام مع تل أبيب، وكذلك الدولة الخليجية الوحيدة التي تقوم بذلك. خلافاً لمبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية للسلام في الشرق الأوسط في القمة العربية ببيروت عام 2002. وتهدف المبادرة إلى إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود السابعة والستين وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وتل أبيب.. ولكن حسابات “البيدر” لدى الفلسطينيين التي أقيمت على مبدأ الثقة بالبعد العروبي للقضية الفلسطينية جاءت غير حسابات “الحقل” القائمة على الواقعية “البراغماتية” وسياسة الأمر الواقع، والرأسماية المتوحشة التي لا تراعي المبادئ الأخلاقية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، وتعتمد على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وفق الميكافللية النفعية.. والنتيجة أن القضية الفلسطينية باتت في مهب الريح، وصار على الفلسطينيين أن يتجاوزا الأخطاء ويجتمعوا على خطاب سياسي يناسب طموحات الشعب الفلسطيني، ويعتمد على استراتيجية المقاومة ولو في أبسط صورها، والتراجع عن اتفاقية أوسلو وملحقاتها واستغلال التأييد العالمي لحقوق الشعب الفلسطيني وخاصة بين شعوب العالم، فكان لقاء بيروت الأخير بين قادة الفصائل الفلسطينية برئاسة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية التي همشتها اتفاقية أوسلو إلى درجة الأفول.. فهل جاءت التوصيات ملبية للمرحلة العصيبة التي تعيشها القضية الفلسطينية! التي تتحاذفها الأمواج!
إذ عقد الأمناء العامون للفصائل الفلسطينية، الخميس الماضي، اجتماعاً، بمدينتي رام الله، وبيروت، بشكل متزامن، لمناقشة “تحديات القضية الفلسطينية” بعد أعلان اتفاقية السلام الإسرائيلية الإماراتية التي تذرع الإماراتييون في أنها جاءت لمنع تنفيذ قرار تل أبيب بضم الضفة وهو ما أنكره نتنياهو.
واتفق قادة الفصائل، خلال الاجتماع، على ضرورة “تحقيق الوحدة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الداخلي للتصدي للتحديات والمؤامرات التي تواجه القضية الفلسطينية”.. فيما أجمعوا على أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة تاريخية “خطيرة” في ظل “صفقة القرن” الأمريكية، وخطة الضم الإسرائيلية لأجزاء من الضفة الغربية المحتلة، والتطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي.
ونص البيان الختامي للاجتماع على ضرورة “تشكيل لجنة تقدم رؤية استراتيجية، خلال خمسة أسابيع، لتحقيق إنهاء الانقسام”، و”تشكيل لجنة وطنية لقيادة المقاومة الشعبية الشاملة”.
هذه خطوط عريضة روّست بها التفاصيل المتشابكة.. مع أن الشيطان يكمن فيها.
فمثلا هل تستطيع قيادة المنظمة التي التم شملها في سفارة فلسطين ببيروت القبول بعضوية حركتي المقاومة حماس والحهاد الإسلامي دون التفرد بالقرار السياسي! ثم كيف يلتقي مسار حركة فتح السياسي التفاوضي لإقامة دولة على حدود السابع والستين من يونيو، بينما تتبنى الثانية كل أدوات النضال بما فيها العسكرية وخاصة الصواريخ متفاوتة المديى وهي لا تعترف إلى الآن بدولة الاحتلال الإسرائيلي. وماذا عن تداخل الأجندات في العمل الفلسطيني ما بين حلفاء عرب تخلوا عن القضية الفلسطينية وتحالفوا مع دولة الاحتلال، ومحور المقاومة الذي ما زال يدعم حماس بالصواريخ والتكنلوجيا والمال.. أم أن خطورة المرحلة ستأخذ قادة الفصائل مجتمعين إلى اتفاق إنقاذ ولو على مضض!؟ هذا مرهون بمدى جدية هذا اللقاء في معركة لا وقت فيها؛ لإثبات الوجود الفلسطيني على خريطة الفعل الجيوسياسي الإقليمي في الوقت الذي تحاول أطراف صفقة القرن وأدَ القضية الفلسطينية في التراب، ومسحها من الذاكرة، والعقل العربي الذي ينحسر فيه الوعي العروبي ولو إلى حين.
9 سبتمبر 2020