لصحيفة آفاق حرة
________________
الحروف العربية لها خاصية كتابية ذات منظومة عتباتية هي من أوسع العتبات الإخراجية عن بقية كلّ اللغات، ونحن هنا لن ندرس الأشكال البصرية من الناحية اللونية وتوزيعه على ساحة اللوحة وكذلك لن نتحدث عن الأشكال الصوتية ومميزاتها وتنوعها والفونيم المرافق.
إنّ المنظومة التي سوف نتحدث عنها في بحر الحروفيات واستخدام الحروف العربية في اللوحة الفنية سواء كان ذلك من ناحية الخط وتنوعه حيث يعطينا ملامح عديدة من التنوع البصري، فإذا قلنا الكوفي، فهو الذي بدأ به العربي في كتابة القصائد وشواهد القبور والمعاهدات والوثائق التجارية قبل الإسلام، وظلّ هذا النمط مرافقاً لهم بعد الرسالة النبوية الشريفة.
تمثل الحروف ذات دلالة ورموز إضافية لكلّ نص، فالتشكيليون وضعوا أسساً لكلّ حرف وتكراره بنسق ولون على حدة أو موحد إلى اتخاذ أفق واسع للتشكيل الفني في معادلة بصرية فتخرج اللوحة في أبهى صورة وأكثر جودة وهو ما يتوقعه المتلقي بصرياً.
لقد أسهمت المعلقات الشعرية التي كانت تعلق على جدران الكعبة على ورق البردي أو على جلود الغزلان والظباء قبل الإسلام إلى إحداث نصوص مخرجة ذات تقنية فاعلة، لقد كانت تبهر المتذوق شعرياً وفنياً، حيث برز الخط الكوفي (البداني) بدون تنقيط، وبدون زخرفة وبدون تشطير وبدون تمديد حيث تنوعت حروفيات الخط الكوفي قبل وبعد الإسلام وما زال الخط الكوفي مميزاً حتى الآن بالرغم من صعوبته الهندسية وهو بخلاف الخط الديواني والريحاني الأكثر انسيابية وسرعة في الرسم.
إنّ التذوق البصري والتفاعلي مع الحروفيات المتداخلة في صياغة هندسية كانت وما زالت تساهم في التوجيه والتأويل كما يرى صادق القاضي، وقال:
إنّها خيارات قد تبدو طبيعية ومحايدة، أو ليست طبيعية ولا محايدة، إذ لا تنتمي بالضرورة إلى النص، ويكن تحويلها وهي ما يبرر انتمائها الإخراجي وهو افتراضي قائم على الأداء، ويترتب عليه أداء نصي طبيعي، ومحايدة كمعيار يتحدد عليه ما ينتمي إلى النص، وما ينتمي إلى الإخراج، بيد أنّ تحديد هذا الأداء المعياري المحايد من الصعوبة بمكان.
لقد اعتاد الحرفيون في البدء هو اختيار البسملة كمرحلة تجريبية ثم المتابعة للأسماء الشخصية، لإبراز تقنية (الريشة، العود، القلم) وهذا بحدّ ذاته هو ما يعتمد على حسابات النقطة والأبعاد، ومن هنا ينجح الحروفي أو يطلق عليه الخطاط، إلى جانب اندماجه في الحروفيات الملونة ليبرز اللوحة بجماليات حسن الكتابة.
إنّ التسلسل الكتابي بانسيابية وسلامة الخط ونوعه ووضوحه وإتقان اللون ممزوجاً أو مفرداً مع اختلاف الأرضية من أجل التنوع الإيجابي وقس على هذا المعيار باقي الأداء الفني لكلّ فنان محترف.
إنّ أيّ رداءة في الخط بمعنى إدخال خط داخل خط آخر هو تشويه بصري عند الفنان الآخر المتقن لهذا العمل وليس المتلقي العادي الذي عادة ليس لديه خلفية فنية عن أنواع الخطوط.
فمثلاً الرقعة يختلف عن النسخ، والديواني يختلف عن الريحاني، الثلث يختلف عن جلي الثلث، والفنان الحاذق يدرك أيّ خطأ في هذه الفنون، ولكن المتلقي الذي ليس لديه خلفية فنية فإنه سوف يمر على هذه الأمور مرور الكرام، ويعد الدارسون هذا التمازج أو التداخل انحرافاً سلبياً.
على أنّ الحاسوب ضم مئات النماذج من الخطوط التي لم تكن معروفة سلفاً ومتعارفاً عليها وهو خروج عن الإطار الفني حتى ضاع أغلب الخطاطين في مسميات تلك الخطوط على أنّ الكتابة باليد هي الأفضل والأجمل والأروع، بينما الحاسوب قد يعطي انطباعاً جمالياً، ولكن ليس إلى ذلك المبتغى المأمول من الحبكة الفنية ذات الصبغة الجمالية المتوارثة في الخطوط الأصلية التي تحمل في طيّاتها العناصر البصرية المتكاملة في رسم الحروف وخصائصها في تحديد التجليات البصرية سواء للفنان أو المتلقي.
________
رئيس منتدى النورس الثقافي الدولي.
28 ديسمبر كانون الاول2020م.
***
: *الحروفيات و العتبة الجمالية*
*الحلقة الثانية*
بقلم: د. علي الدرورة
الحروفيات عند الفنان أو الفنان الخطاط هو نفسه الخطاط الفنان الذي يتقن تجليات الحرف بتقنياته أو غير ذلك في رسمه من منظور فني.
الحروف الكتابية ذات الشكل الخطي تمتاز بأنها عتبة نصية، فمثلاً (ش) و (ش) شكلان لنطق واحد وعتبة واحدة ولكن لكلّ قيمة جمالية مختلفة ولا يمكن أن تحيل قيمة هذا على الآخر، فالنسخ غير الرقعة، إنّ الشكل الخطي عند التشكيلي مهمته التلاعب بالحروف فيقلب الخط على بعضه رأساً على عقب ويمكنه التحكم في النقاط من تكبير وتصغير وتباعد وتقارب في وضعية كلاسكية غير معيبة بصرياً، وهنا يختلف عن أداء الفنان الخطاط الذي عادة يمسك بالعود ومستخدماً الحبر الصيني فتمازج الخط الشكلي بروحه وجمالياته هي الأسس التي تؤكد على دلالات حجم وشكل الكتابة، فالكاف “ك” في أول الكلمة يختلف عن “ك” في وسطها ويختلف عن آخرها، فالشكل (ک) الدلالي والأسلوب حتماً سوف يختلف، وهذا يعني أن عتبة الخط الجمالية تتحكم في المنظور بالرغم من أنّ حرف (ك) يتشابه إلى حدٍّ كبير في أول وسط الكلمة في الغالب ولكن خطاطو المصاحف أكّدوا على الاختلاف بتمايز التمطيط حتى اتضحت الصورة وصارت ظاهرة دلالية، فمثلاً تمطيط حرف (س) عن (م) بمسافة جمالية حتى غدت ظاهرة دلالية ونجد ذلك في أغلب المصاحف في كلمة (بسم) فتكون: (بـــــــــــــــــــــــسم) وعلى هذا المنوال سار الخطاطون في كلّ أنواع الخطوط وأغلبهم البارعون في النسخ، على أنّ البسملة نفسها لا تمدّ إلّا في (الرحيم) بين (ح) و (ي) أو بين (ي) و (م) مثلاً (الرحيـــــــــــم) و (الرحـــــــــــــــــــيم) على غرار (بســـــــــــــــــــــــــــــــــــم الله) وهي أنماط إبداعية حيث تصبح الخطوط بجمالياتها عتبات متوازية.
التشكيل البصري لأيّ لوحة من الحروفيات تشكيلياً ودلالياً ترسخ وتثبت مفهوم البنية الدلالية بالتعبيرية لها ككتلة بصرية حتى وإن عمد الفنانون إضافة شكل جمالي كالزخرفة (التزويقة) أو سحب، نباتات، سلم موسيقي، طيور، وغير ذلك بكسر جمود في اللوحة بمنظور جمالي يراه التشكيلي نفسه وإلّا فإنّ لوحة الحروفيات لا تحتاج إلى ذلك من إضافات فهي ككتلة بصرية كاملة من النواحي الإبداعية.
ومن خلال التدرج اللوني والتحكم في حجم الخطوط فمثلاً استعمال الفرشاة جانباً واستعمال أيّ أداة أخرى حتى وإن كانت أصابع اليد أو أيّ خشبة ذات استعمال فني.
وقد درج النسّاخون عبر العصور بأن تكون البسملة ذات عتبة جمالية منفصلة عن السورة وفي إطار زخرفي إبداعي، وقد يكون مذهّباً وذا ألوان زاهية مختلفة عن أحبار الآيات المباركة، وهذا التشكيل الجمالي هو الذي ولّد المنمنات في القرن الثالث إلى القرن السادس مما أفرز فنانين بارعين في نفس النسخ، ولهذا فالبسملة وحدها ظهرت لها ألف طريقة إبداعية ووضعت لها أسس هندسية لم توضع لأيّ كلمات سواء في اللغة العربية أو أيّ لغة أخرى أبداً حيث إنّ الخط العربي أكثر كفاءة من غيره في تمثيل الإيحاءات وتعدد الوظائف الجمالية وتعدد عتباته ليشمل كلّ جوانب التوصيل اللغوي وليس هذا فقط على الجلود وورق البردي بل تجاوز الفنان العربي المسلم إلى الأواني والخشب والمعادن كالفضة والذهب والنحاس والأحجار الكريمة بكلّ أنواعها.
كما افتخر قدماء المحاربين إلى نقش البطولات على سيوفهم وخوذاتهم وشمل الخط علم النميات وكان ذلك جلياً في النفوذ عبر العصور من القرن الأول وحتى اليوم، حيث تعدّدت أساليب الخطوط وتنوعت في الطرح، ولا ننسى أيضاً النسيج فقد شمله الخط العربي وأرسى قواعده الجمالية. *الحروفيات و العتبة الجمالية*
……….
السعودية