أن تستمع لمحاضرة مباشرة بالصوت والصورة عن نيتشه وهيدجر وأنت مستلقي في سريرك بع منتصف الليل فهذا أمر مثير للدهشة والعجب. لاسيما إذ كنت ممن عاشوا مراحل الموجات الحضارية الثلاث بحسب توفلر؛ حضارة موجة التواصل والاتصال البدائية عبر الحمام الزاجل والصوت واللجب وموجة الاتصالات الكتابية والسلكية عبر البرق والهاتف والإعلام التقليدي وموجة الاتصالات الرقمية عبر الانترنت والفضاء الأفتراضي والذكاء الاصطناعية فيما يسمى بالثورة الرابعة. من المؤكد إن تلك المتغيرات المتسارعة
تجعلنا نشعر بحالة من الغربة والاغتراب فضلا عن الدهشة والاندهاش. الاغتراب؛ بمعنى عدم التكيف والامتثال والاندماج هو حال شعورية تنتاب الفلاسفة في لحظة تأملهم للعالم حد الدهشة والدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق في البحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقييمها وتقديرها كما هي عليه في الواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب.البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو).
والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي أشبه بالكشف والانكشاف، وهي بحسب (جان جرش) في كتابه “الدهشة الفلسفية” لحظة مفارقة في حياة الكائن يتفتح عقله لاستقبال إشارات الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة مرتبطة بالماديات أو بالإلهيات، فالإنسان العارف هو الذي يكون مندهشًا من أبسط وأقل الأشياء الموجودة في العالم، لأنه يرى الأشياء بمنظار الاندهاش، وهذا الاندهاش هو الذي يلهمنا لعبة التساؤل وسط غموض المعنى وصخب الحياة وتمظهراتها الحسية الانفعالية. وهكذا تعاود الفلسفة الحضور في كل عصر من العصور. الآن وهنا نشعر بان العالم يفلت من بين إيدينا في كل لحظة من لحظات حياتنا المعاصرة. ما الذي بقي لدينا من ممكنات في تدبير حياتنا وتأكيد حضورنا الفاعل فيه طالما وقد شاءت لنا الأقدار أنا نكون هنا والآن؟ ذلك هو السؤال الحيوي الذي يجب أن يشغلنا في لحظة تاريخية شديدة الحساسية والتغير والاضطراب. ضاقت فيها خيارات الناس السياسية واتسعت العوالم الثقافية. فنحن في عصر العولمة حيث ينكمش الزمان والمكان إلى حدا بتنا فيه نعيش فيما يشبه قرية سبيرانتية، كل شيء بات متاح للجميع المعرفة والعلم والآداب والثقافة بكل صورها وأنماطها وقيمها ورمزها إذ لم يعد للمثقف تلك السلطة التقليدية والدور الاجتماعي الذي كان يضطلع فيه في زمن مضى- نقصد المثقف العضوي بمعناه الجرامشي أو حتى بصيغة جان بول سارتر المثقف العارف الكلي الملتزم الانشغال في الشأن العام صوت من لا صوت لهم- ففي عصر العولمة والمعلومة والشبكة والمنصة والتغريدة، اختلف الحال والمآل في حقل الثقافة ودور المثقف ومدراتهما إذ تفتحت إمكانات جديدة أمام البشر انكسرت معها ثنائية النخبة والجمهور أو العامة والخاصة أو الزعيم والحشد. لم يعد الفرد مجرد متلقٍّ للمعلومات أو الأوامر من النخب التي تفكر عنه، وتدّعي تمثيله والنطق باسمه أو الدفاع عن مصالحه وحقوقه. وبتنا ” ننخرط في واقع أصبح فيه المواطن الفرد، يتصرف كلاعب فاعل، يسهم في بناء مجتمعه أو تغيير عالمه، بقدر ما هو منتج أو مبتكر في مجال عمله؛ ويشارك في صنع ذاته وَقَود مصيره بقدر ما يمارس حريته في التفكير ولا يتخلى عن عينه النقدية في قراءة ما يحدث. ومن لا يتاح له أن يفعل بصورة إيجابية وبناءة، فإنه يفعل بصورة سلبية ومدمرة”.
وبهذا المعنى نفهم عبارة افلاطون بأن الفلسفة ربيبة الدهشة، أنها ربيبتها بوصفها حالة شعورية تنتاب الكائن الإنساني في لحظة مباغته من تأمُّل العالم على نحو قصدي أشبه بقدح زناد الوعي المتسائل الحائر بإزاء ظواهر الوجود والحياة والموت. الدهشة حالة اغتراب الوعي الشقي، وكما كتب الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي ” يعيش المثقف عادة حال الاغتراب الذي لا يفارقه طوال حياته الإبداعية. بل قُلْ إنَّ الاغتراب هو أسُّ التجربة الكتابية لمثقف أوتي أيَّ حظ من موهبة الإبداع. وآية ذلك أنَّ المثقف هو دائمًا ابن الممكن المتجاوز للواقع، ولهذا فهو يعيش تجربة المايجب أن يكون على نحو مستمر، يعيش تجربة التناقض بين أحلامه وآماله وواقعه، ويُعبِّر عن هذا التناقض في الفن والأدب والفلسفة، بوصفه مُتمرِّدًا، والتمرُّد هُنا هو التعيُّن الحقيقي لاغتراب المثقف”
